شايان طالباني

مقتدى الصدر... النسخة العراقية من آية الله الخميني؟

13 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أنصار مقتدى الصدر يحتجون على ترشيح كتلة منافسة لمنصب رئيس الوزراء | المنطقة الخضراء في بغداد, 30 تموز 2022
في الأشهر الأخيرة، انتقل رجل الدين الشيعي العراقي الشعبوي، مقتدى الصدر، من مساعي تشكيل حكومة في العراق إلى الدعوة لإطلاق "ثورة". ينظّم مناصرو الصدر الاحتجاجات راهناً ويحتلون مبنى البرلمان العراقي و"المنطقة الدولية" (الخضراء) في بغداد، ما أدى إلى إغراق عملية تشكيل الحكومة العراقية في فوضى عارمة.

بعد نجاح تحالف "سائرون" في الانتخابات البرلمانية، في تشرين الأول 2021، بدا وكأن الصدر عاد ليزعزع السياسة العراقية عبر تشكيل حكومة تستثني خصومه المدعومين من إيران. رفض الصدر، بصفته رئيس أكبر كتلة نيابية، صيغة الحكومة التوافقية المبنية على تقاسم السلطة والمعتمدة منذ إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين في العام 2003.

لكن في 12 حزيران، غيّر الصدر مسار تشكيل الحكومة حين طلب من 73 نائباً في كتلته الإستقالة لكسر الجمود السياسي الذي ترك العراق بلا حكومة طوال تسعة أشهر بعد الانتخابات البرلمانية. ثم كُلِّف خصومه الأقرب إلى إيران، أي تحالف "الإطار التنسيقي"، بتشكيل الحكومة، وطرحوا محمد السوداني مرشّحاً لرئاستها في 25 تموز. نتيجةً لذلك، دعا الصدر إلى الاحتجاج على ترشيح السوداني، فنزل المئات من مناصريه إلى الشوارع واقتحموا البرلمان العراقي و"المنطقة الخضراء" وهم يرفعون شعارات معادية لإيران ويحملون صور الصدر.

يعرف الجميع أن الصدر يراهن على النزعة القومية في السنوات الأخيرة. لكن على غرار عدد كبير من سماسرة السلطة السياسية في العراق، تُعتبر علاقته مع إيران معقدة ومتعددة الأوجه، ويجب أن يدرك الغرب هذا الواقع.

رغم جهود الصدر الظاهرية لقيادة المعسكر المعادي للنفوذ الإيراني في العراق، يبقى مؤسس إيران وأشهر مرشد أعلى فيها، آية الله روح الله الخميني، مصدر إلهامه الأساسي على الأرجح. يشتق الخليط الاستراتيجي الذي يطبّقه الصدر ويتراوح بين القومية العراقية، ومعاداة الغرب، والنزعة الإسلامية الشيعية، من نهج الخميني مباشرةً.

طوال عقود، اتخذ الصدر خطوات سياسية مدروسة، فحافظ على توازن حذر بين مختلف المصالح في العراق، بما في ذلك مصالح إيران ودول الخليج. حين كان اللاعبون السياسيون العراقيون يزعزعون هذا التوازن في الماضي، لطالما واجه البلد فوضى متزايدة. نتيجةً لذلك، يدرك الصدر المتمرّس في السياسة العراقية منذ البداية أن تشكيل حكومة أغلبية لإقصاء الأحزاب والشخصيات الموالية لإيران هدف مستحيل، حتى أنه قد يطلق حرباً أهلية بسهولة.

هذا الوضع يطرح سؤالاً محورياً: هل ترتكز استراتيجية الصدر الأخيرة على أمنيات بسيطة بتغيير الوضع، أم أنها محاولة مقصودة لزعزعة الاستقرار؟

على مر السنين، انتقل الصدر من طرح نفسه كزعيم ميليشيا شيعية طائفية إلى إصلاحي قومي عراقي وداعم للديمقراطية، فطوّر مواقفه وخطاباته السياسية بطريقة حذرة وبراغماتية لتوجيه المزاج السياسي في العراق. وبغضّ النظر عن رأي الكثيرين بمصداقيته، لطالما صمّم سياساته ومواقفه بما يتماشى مع التوجهات الشعبية في الشارع العراقي. تشمل خطاباته مشاعر معادية لإيران وتركيا، وتدعم القومية العراقية، وتُعبّر عن استياء عام من الفساد والجمود السياسي.

انطلاقاً من التحوّلات التكتيكية التي قام بها الصدر طوال سنوات، من المستبعد أن يرغب في المشاركة في حكومة أغلبية، حتى أنه كان يتوقع فشل التحالف على الأرجح. كان الصدر ليزعم حينها أنه حاول تحقيق أفضل مصالح البلد، لكن فشلت مساعيه في نهاية المطاف بسبب ما يسمّيه "النخبة الفاسدة" في العراق.

على غرار ما فعله الخميني في إيران، اكتسب الصدر ووالده من قبله النفوذ في العراق على مرّ السنوات استناداً إلى شعبيتهما وسط الشيعة الفقراء والمحرومين. طوّر الصدر سياساته بكل ذكاء بناءً على التوجهات المتوسّعة في العراق والشرق الأوسط ككل، حيث ترفض أغلبية ساحقة من الشعوب فكر الحركات الدينية المسيّسة وتفضّل الحكومات البراغماتية القادرة على تأمين فرص عمل للشباب، وإصلاح المؤسسات الدينية، وتحسين الخدمات العامة.

لطالما خضعت سياسات الخميني للتحليل والتأويل، على غرار سياسات الصدر. استلزم تعدد الهويات الإيرانية والأفكار التي طرحها الخميني خليطاً شعبوياً من النزعة الإسلامية الشيعية، والماركسية، والخطابات الشعبوية المعادية للاستعمار والغرب وإسرائيل، وكانت هذه العوامل كلها أساسية لزيادة شعبيته قبل العام 1979 وتعزيز قدرته على خطف الثورة الإيرانية لاحقاً.

تطوّر خطاب الصدر على مرّ السنين بالطريقة نفسها أيضاً، فأجّج المشاعر المعادية للولايات المتحدة بعد الغزو الأميركي في العام 2003، وتمسّك بمواقفه الصارمة ضد الإمبريالية وإسرائيل طوال العقدَين الماضيَين، لكنه عدّل فكره أيضاً كي يتماشى مع الظروف المتبدلة، فانتقل من الطائفية الشيعية الصريحة بعد الغزو الأميركي إلى القومية العراقية في السنوات الأخيرة. في الوقت نفسه، تصاعدت خطاباته المعادية لطهران تزامناً مع تنامي الاستياء من إيران محلياً. وعندما نزل العراقيون إلى الشارع لاستنكار الضربات الصاروخية التركية التي استهدفت منتجعاً سياحياً في 20 تموز، دعا الصدر مناصريه إلى التظاهر لمناهضة تركيا.

لطالما شَغَل مناصرو الصدر وأتباعهم مناصب أساسية في حكومات العراق بعد العام 2003. لكن نجح الصدر في التنصل من أخطاء الحكومة وتناقضاتها حين رفض الاضطلاع بأي دور رسمي فيها. لكنه حاول في المقابل أن يطرح نفسه "كرجلٍ من الشعب". يستعمل الصدر مقاربته غير المتوقعة لتمييز نفسه من أصحاب السلطة لأن البقاء خارج النظام السياسي العراقي، ولو ظاهرياً، هو جزء من هدفه النهائي.

جاءت أحداث الأسبوع الماضي لتدفع عملية تشكيل الحكومة العراقية نحو حالة من الفوضى العارمة. بعدما اقتحم مناصرو الصدر البرلمان و"المنطقة الخضراء"، غداة دعوته إلى إطلاق ثورة، تصاعد التوتر على جميع المستويات. هدّد خصوم الصدر بإطلاق "ثورة مضادة"، ويشعر عدد كبير من العراقيين بأن البلد أصبح على شفير حرب أهلية. يدعو الصدر الآن إلى تكرار الانتخابات، فيما يتابع مناصروه التجمّع داخل البرلمان وفي محيطه، ما يعني إطالة مدة الفوضى السياسية في العراق. لكنه الهدف النهائي الذي يصبو إليه الصدر: هو يريد أن يزعزع البلد ويستغل المشاعر الشعبية الطاغية كي يصبح أقوى رجل في العراق.

يطلق الصدر مواقف شفهية ضد إيران لأن هذه الخطابات تتماشى مع المزاج الشعبي، لكنه مقرّب من إيران بقدر جميع المسؤولين الآخرين. هو يعترف بأن إيران لا تزال لاعبة خارجية قوية في العراق (أو حتى الأقوى على الأرجح)، ولا تُعتبر علاقته معها متوترة بقدر ما يوحي للناس. تملك إيران حتى الآن تأثيراً معيناً على الصدر، ويبقى هذا الأخير أذكى من أن يقطع جميع علاقاته معها.

يتابع الصدر زيارة إيران لأسباب عائلية ودينية. في العام 2019، زار الصدر المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، في طهران تزامناً مع ذكرى عاشوراء. وبعد مرور بضعة أشهر، وتحديداً في ذروة احتجاجات تشرين الثاني 2019، شوهد في مدينة "قم" التي تُعتبر عاصمة إيران الدينية وكان الصدر قد درس فيها سابقاً. وفي شهر شباط من هذه السنة، غداة اجتماع مع اللواء اسماعيل قاآني من "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، أعلن الصدر موقفه من تشكيل الحكومة في العراق واقتبس كلام الخميني مباشرةً فقال: "لا الشرق ولا الغرب، بل حكومة أغلبية وطنية". الصدر ليس معادياً لإيران إذاً، بل إنه يريد بكل بساطة أن يصبح الشخصية الأساسية التي يتعامل معها الإيرانيون وجميع الأفرقاء الآخرين.

طرح الصدر نفسه كشخصية معادية لإيران والإمبريالية الأجنبية ظاهرياً، لكن رغم تعدد الشائعات التي تتّهمه بالتآمر ضد المصالح الإيرانية في العراق، من اللافت مثلاً أن ترفض الفصائل المدعومة من إيران فكرة تشكيل حكومة أغلبية وإطلاق نشاطات محتملة ضد إيران عبر استهداف "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، لا الصدر، وهو أصغر حزب في كتلته (يقتصر عدد مقاعده على 31)، فضلاً عن حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة في أربيل بقيادة "الحزب الديمقراطي الكردستاني".

يتنبّه الصدر لكل ما يحصل من حوله، وهذا ما سمح له بالتلاعب بالأحداث وتحقيق درجة معيّنة من النجاح. لكن قد يتغير الجمهور الذي يستهدفه بوتيرة تفوق قدرته على مواكبة التطورات. دعا المشاركون في احتجاجات تشرين إلى بناء مستقبل مختلف بالكامل في العراق: إنه مستقبل تقدّمي وديمقراطي. ورغم النجاحات التي حققها الصدر في الاستحقاقات الانتخابية، شهدت آخر انتخابات عراقية نسبة مشاركة متدنية جداً، ويبدو أن نجاح الصدر يشتق من قدرته على تنظيم معسكره وحشد مناصريه أكثر مما يتعلق بحجم شعبيته.

لكن مثلما كانت ثورة الخميني لتفتقر إلى الدعم في إيران اليوم، لن يقتنع العراقيون راهناً بمشروع الصدر للعراق. ففي الوقت الراهن، يتقاسم الشباب الإيراني مشاكل مختلفة عن جيل آبائهم. برأي جزء كبير من هذه الفئة، يُعتبر إيجاد الوظائف والفرص الواعدة، والتواصل مع العالم، والاستمتاع بالحياة، أهم بكثير من الطموحات الثورية الإسلامية. تعكس حركة تشرين التي يقودها الشباب في العراق توجّهاً مشابهاً: كان المحتجون تقدميين ومتنوّعين في انتماءاتهم الدينية، وهم يركّزون على إصلاح النظام السياسي العراقي وتحديثه والحفاظ على ديمقراطيته بدل إسقاطه بالكامل. لا يحتاج العراق إذاً إلى زعيم دكتاتوري آخر: إنه حل قصير الأمد لمجموعة هائلة من المشاكل.

يخوض الصدر لعبة طويلة الأمد في العراق، فيطرح نفسه كبديل منطقي عن زعيم البلد أمام الرأي العام المحلي وصانعي السياسة الإقليميين والدوليين في آن. وعلى غرار الخميني وقادة شعبويين آخرين قبله، هو مستعد لإيصال العراق إلى مسار مقلق جداً لتحقيق هذا الهدف. كانت السياسة العراقية فوضوية ومتخبطة أصلاً، لكنّ استعداد الصدر لتأجيج الاضطرابات السياسية المحلية، وتأخير تشكيل الحكومة العراقية، وتوسيع نطاق الاحتجاجات، والمجازفة باندلاع حرب شاملة مع الجماعات الشيعية المنافِسة، يُفترض أن يشكّل تحذيراً حول قدرته على دفع البلد إلى وضعٍ أكثر سوءاً مما هو عليه.


MISS 3