ديل كوبلاند

حين تصبح التجارة سبباً للحرب

29 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

اختبار رقاقة في مختبر للطلاب في تاينان | تايوان ، شباط 2022
على مرّ السنة الماضية، اضطرت الولايات المتحدة للتفكير باحتمالٍ لم يتصوره أحد منذ الحرب الباردة: قد يندلع صراع عسكري واسع مع قوة عظمى أخرى. للمرة الأولى منذ عقود، تستعمل موسكو صواريخها لتحذير واشنطن من دعمها لأوكرانيا. وفي بداية شهر آب، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، صعّدت بكين تهديداتها بالتحرك عسكرياً ضد الجزيرة بدرجة غير مسبوقة. يبدو معنى هذه التطورات مخيفاً بقدر التهديدات نفسها، فهو يشير إلى تراجع تأثير الترابط الاقتصادي كقوة لحفظ السلام. تتّكل الصين وروسيا على التجارة بدرجة استثنائية لتحقيق النمو الاقتصادي وترسيخ مكانتهما على الساحة العالمية.

نجحت الصين في زيادة ناتجها المحلي الإجمالي بخمسة أضعاف في آخر عقدَين، وقد حققت هذا الهدف بشكلٍ أساسي عبر تصدير منتجاتها المُصنّعة. كذلك، يشتق أكثر من 50% من عائدات الحكومة الروسية من تصدير النفط والغاز. واستناداً إلى منطق تفكير شائع في أوساط العلاقات الدولية، يُفترض أن تترافق هذه الروابط الاقتصادية المحورية مع كلفة متزايدة على البلدين في حال اندلاع أي صراع عسكري. لكن يبدو أن احتمال خسارة هذه التبادلات التجارية لا يكفي لردع أي قوة منهما، ظاهرياً على الأقل.

لكنّ المشهد العام ليس بسيطاً بقدر ما يوحي به. في المقام الأول، قد تصبح العلاقات التجارية في ظروف معينة أداة للتحفيز على الحرب بدل منع اندلاعها. ولا يرتبط إثبات القوة العسكرية، أو حتى التهديد بخوض مواجهة مع الخصوم، بقطع العلاقات الاقتصادية في جميع الحالات. لقد أثبتت تجربتا الصين وروسيا المتناقضتان في السنة الماضية أن الروابط الاقتصادية تتطور في معظم الأوقات بطرقٍ تتحدى جميع التوقعات. على كل من يفترض أن التجارة قد تمنع اندلاع الصراع بين القوى العظمى أن يراجع الطرق المعقدة التي سمحت للقوى الاقتصادية بتحديد وجهة التفكير الاستراتيجي في بكين وموسكو.



موظفون يعملون في منشأة لإنتاج الرقاقات الإلكترونية | بكين ، 14 أيار 2020



اليوم، قد تكون التبعية الاقتصادية سبباً لدفع الصين إلى اتخاذ خطوات عدائية في حال انهيار التوقعات الصينية حول تبادلاتها التجارية المستقبلية. لنحلل مثلاً وضع قطاع أشباه الموصلات المتطورة تكنولوجياً في تايوان. تملك الصين راهناً بعض القدرات لإنتاج الرقائق مع أجهزة ترانزستور يقتصر حجمها على أقل من 15 أو حتى 10 نانومتر. لكن لمواكبة التطورات التكنولوجية المستجدة في قطاع الذكاء الاصطناعي، والسيارات ذاتية القيادة، وإنتاج الهواتف الذكية، يحتاج البلد إلى رقائق يبلغ حجمها أقل من 7 أو 5 نانومتر، علماً أن تايوان وحدها تستطيع إنتاج كميات كبيرة منها وبجودة عالية. يتم تجميع أحدث جهاز "آي فون" من إنتاج شركة "آبل" في الصين مثلاً، لكنه يستعمل رقاقة بحجم 5 نانومتر من تصميم "آبل" ويتم تصنيعه في "شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات" في "هسينشو"، تايوان.

لا يبالغ من يتوقع أن ترتبط قدرة الصين على مواكبة الولايات المتحدة مستقبلاً بمتابعة حصولها على الرقائق التايوانية، مثلما كانت مكانة اليابان خلال الثلاثينات تتوقف على تلقيها إمدادات النفط التي يسيطر عليها الأميركيون والبريطانيون. وكما حصل في فترة حظر النفط الأميركي في العام 1941، قد يقرر المسؤولون الصينيون الاستيلاء على الجزيرة فوراً لتجنب أي تراجع اقتصادي على المدى الطويل، إذا اشتبهوا بأن الولايات المتحدة قد تتخذ خطوات معيّنة لمنع الصين من الحصول على الرقائق التايوانية. هذا السيناريو ليس مستبعداً بأي شكل. في حزيران 2022، أعلن خبير اقتصادي صيني بارز أن الصين ستغزو تايوان لضمان استيلائها على منشآت إنتاج الرقائق، إذا فرضت واشنطن عقوبات على بكين كتلك التي تستهدف روسيا هذه السنة.

لكن من الناحية الإيجابية، تُعتبر التوقعات الصينية المرتبطة بعملياتها التجارية المستقبلية جزءاً من قرارات السياسة الأميركية، على غرار التوقعات اليابانية في العام 1941. إذا أدرك المسؤولون الأميركيون أن سياساتهم تؤثر مباشرةً على نظرة بكين إلى البيئة التجارية المستقبلية، فلا تقتصر تداعياتها على قطاع التجارة عموماً بل تؤثر أيضاً بتجارة التقنيات المتطورة مع تايوان، يمكنهم أن يمنعوا قادة الحزب الشيوعي الصيني من توقّع انهيار اقتصادهم إذا لم يستعملوا القوة. لا تشتق دوامة العدائية القادرة على إطلاق الحروب من وقائع معينة بل من خيارات المسؤولين. من خلال طمأنة بكين حول متابعة تلقيها أشباه الموصلات من تايوان (حتى لو لم تتلقَ الآلات المتطورة التي تنتجها هولندا لتصنيعها)، تستطيع إدارة جو بايدن أن تُخفف المخاوف الصينية حول تجارتها المستقبلية وتُخفّض احتمال اندلاع الأزمات والحروب.

من المتوقع أن يعترض الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وأعوانه على هذا الموقف الأميركي لأنه يجعل الصين تتكل على جهات خارجية لتلقي الرقائق التي تبقى ركيزة أساسية للاقتصاد والقوة العســـكرية المعاصرة والمتطورة. لكن بما أن أي هجوم ضد تايوان سيطلق عقوبات اقتصادية قد تُهدد علاقات الصين التجارية مع العالم الغربي ويؤدي إلى تدمير مصانع الرقائق عن غير قصد، من المنطقي أن تُعدّل الصين تصرفاتها، أو حتى خطاباتها، في ما يخص مكانة الجزيرة.

ربما افترض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الغرب سيتنازل في أوكرانيا بسبب اتكال أوروبا على إمدادات النفط والغاز الروسية. لكن يدرك القادة الصينيون اليوم أن الأميركيين والأوروبيين وشركاءهم العالميين مُصمّمون على معاقبة المعتدين، وأنهم قد يدمّرون كل ما حققه الحزب الشيوعي الصيني في آخر أربعة عقود إذا أقدموا على مهاجمة تايوان. تثبت التجارب التاريخية أن القوى العظمى التي تتكل على غيرها تتمسك بسياسات خارجية حذرة إذا كان قادتها يحملون توقعات إيجابية حول التجارة المستقبلية، لأنهم يعرفون أن التجارة تساعدهم على بناء قاعدة متينة لحماية قوة الدولة على المدى الطويل وزيادة ثروات المواطنين العاديين. يحتاج شي جين بينغ إلى تحقيق هذين الهدفَين معاً إذا أراد الحفاظ على شرعية حُكم الحزب الواحد في الصين واستقرار الدولة بحد ذاتها.

حين تحاول القوى العظمى استعمال الترابط الاقتصادي لحماية السلام، قد تواجه صعوبة في الحفاظ على توازن سليم. لن يكون التمسك بمستويات عالية من التبادلات التجارية كافياً لأن الدول التي تتكل على غيرها، مثل اليابان خلال الثلاثينات والصين اليوم، قد تضطر لفرض سياسات أكثر عدائية إذا استنتجت أنها لا تستطيع الحصول على كميات كافية من المواد الخام، أو الوصول إلى الأسواق التي تحتاج إليها الدولة للحفاظ على مكانتها كقوة عظمى. في المقابل، يجب أن يتوخى قادة الدول الأقل اتكالاً على غيرها، مثل الولايات المتحدة، الحذر في مواقفهم، فلا يُلمِحون إلى سعيهم لإضعاف الدول التي تتكل على الآخرين أو دفعها إلى تراجع مطلق ونسبي، كما حصل مع اليابان في العام 1941 بسبب حظر النفط الذي فرضه الرئيس فرانكلين روزفلت. لكن قد تطرح سياسة التجارة المفتوحة مشكلة من نوع آخر، لأنها تساعد الدولة التي تتكل على غيرها في مواكبة الآخرين عبر اكتساب قوة نسبية وطرح تهديدات طويلة الأمد. إنه الاستنتاج الذي توصّلت إليه الإدارات الأميركية المتلاحقة بشأن الصين، بدءاً من عهد باراك أوباما وصولاً إلى جو بايدن.

تقضي مقاربة أفضل بتشجيع القوى الصاعدة، مثل الصين، على تحسين أدائها عبر إنهاء ممارسات شائبة مثل التلاعب بالعملة، ودعم السلع، واقتناء التكنولوجيا الأجنبية بطرق غير شرعية، تزامناً مع طمأنة تلك الدول حول متابعة تلقيها الموارد التي تحتاج إليها واختراق الأسواق التي تريدها لتحقيق النمو الاقتصادي وترسيخ الاستقرار المحلي، شرط أن تتخذ خطوات معتدلة في سياساتها الخارجية. يجب أن يسعى قادة القوى العظمى إذاً إلى إقامة علاقات تجارية تسمح للدول بتحقيق النمو بالأرقام المطلقة، ومن دون أن يخشى أي طرف حصول تراجع كبير في قوته الاقتصادية مستقبلاً لدرجة أن يصبح البلد معرّضاً للتهديدات الخارجية أو الاضطرابات المدنية.

يصعب أن يتحقق هذا الهدف في ظل تصاعد التوتر اليوم بسبب تايوان وتفاقم الوضع نتيجة إصرار شي جين بينغ على الاصطفاف مع بوتين. لكن بعدما تسترجع الجهود الدبلوماسية التي تبذلها القوى العظمى توازنها، تستطيع واشنطن أن تُذكّر بكين بأنها تحتاج إلى الولايات المتحدة والشركاء الغربيين لتحقيق أهدافها الاقتصادية الخاصة، وأنّ واشنطن لن تستغل تبعية الصين لإضعاف تلك الأهداف. كذلك، يستطيع بايدن أن يُطمئن نظيره الصيني ويؤكد له على استخلاص الأميركيين دروساً قيّمة من تجربة العام 1941، ما يعني أنّ تدمير توقعات أي دولة حول تبادلاتها التجارية المستقبلية قد يؤدي إلى اندلاع الحرب. لكن قد يطلب الرئيس الأميركي من بكين أيضاً أن تتعلم من أخطاء اليابان في فترة الثلاثينات، فتتجنب السياسات العدائية التي دمّرت الثقة الدولية الضرورية لإقامة أي روابط تجارية سليمة. إذا تمكّن القادة في واشنطن وبكين من تحسين التوقعات التي يحملها كل طرف عن وضع التجارة والتحركات المستقبلية، يُفترض أن يستمر السلام في شرق آسيا خلال العقود المقبلة.


MISS 3