غريغوري بولينغ

بكين تفرض سيطرتها في بحر الصين الجنوبي

30 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جنود صينيون في دورية عسكرية في جزر سبراتلي | بحر الصين الجنوبي، شباط 2016
منذ فترة الثمانينات، سعت بحرية جيش التحرير الشعبي إلى فرض سيطرتها في بحر الصين الجنوبي. لم تُحقق الصين هذا الهدف حتى الآن، لكنها تقترب من تحقيقه أكثر مما تعترف به واشنطن. لا مفر من التساؤل عن قدرة الجيش الأميركي على التمسك بتفوّقه في المنطقة في ظل إصرار الصين على بناء جزيرة اصطناعية وتوسيع قدراتها العسكرية هناك، فضلاً عن إطلاق برنامج ضخم لتحديث قواتها الجوية والبحرية. عملياً، قد تضطر الولايات المتحدة للتنازل عن بحر الصين الجنوبي في المراحل الأولى من أي صراع مع الصين.

لا تريد الصين أن تخوض معركة مع البحرية الأميركية. حتى لو انتصرت الصين، ستكون التكاليف التي تتكبدها أكبر من المنافع التي تحصدها. ما تريده بكين هو إقناع بقية دول آسيا بانتهاء المنافسة على التفوّق الإقليمي. لا يتعلق أكبر تهديد على القوة العسكرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي بتحضيرات الصين للحرب، بل بمكائدها في زمن السلم. من خلال استعمال خفر السواحل الصيني والميليشيات البحرية (إنها قوى شبه عسكرية تُموّلها الدولة وتسيطر عليها وتنشط انطلاقاً من سفن الصيد) لمنع الدول المجاورة من الوصول إلى مياهها الخاصة، بدأت الصين تُجرّد الولايات المتحدة من أهميتها كضامنة للأمن الإقليمي.

ترتكز استراتيجية "الحضور الأميركي الأمامي" (أي نشر القوات الأميركية في الخارج طوال الوقت لطمأنة الحلفاء وردع الأعداء) على التسهيلات التي يقدمها الشركاء. تشير هذه المقاربة إلى سنغافورة والفلبين في بحر الصين الجنوبي. لكن يتساءل هذان البلدان اليوم عن المنافع التي تقدّمها الولايات المتحدة مقابل تسهيل وصولها إلى المنطقة. قد تملك البحرية الأميركية حرية الإبحار في بحر الصين الجنوبي، لكن تعجز دول جنوب شرق آسيا عن بلوغ مياهها الخاصة بسبب مضايقات القوات الصينية المتواصلة في زمن السلم. في ظل تصاعد الضغوط الصينية، قد يبدو تكثيف الدعم للولايات المتحدة رهاناً سيئاً، ما يعني أنه يصبّ في مصلحة واشنطن من دون أن يفيد شركاءها.

نظراً إلى عدد السفن التي تنشرها الصين في مياه الدول المجاورة لها ومستوى العدائية التي تتبناها تلك السفن بتشجيعٍ من الحكومة الصينية، لا مفر من تكبّد خسائر بشرية عند احتدام الوضع. إذا شمل الصراع الفليبين، قد تضطر واشنطن للرد بموجب معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة والفليبين، وإلا قد تترسخ السيطرة الصينية في بحر الصين الجنوبي في أسرع وقت. لكن قد يفرض التدخل المسلّح على الولايات المتحدة أن تختصر المراحل وتبلغ أعلى درجات التصعيد، ما يعني الاقتراب من خوض الحرب مع الصين. وإذا شعر الطرفان بضرورة إثبات قوتهما بدل منع التصعيد، يسهل أن يخرج الوضع عن السيطرة. وبغض النظر عن طريقة انتهاء هذا الصراع، ستكون خسائر كل طرف أكبر من مكاسبه.

بالإضافــــة إلى احتمال اندلاع صراع عسكري لن ينتصر فيه أحد، ثمة خياران محتملان آخران. تسعى بكين إلى تحقيق الخيار الأول ويبدو أن المنطقة تتجه إليه فعلاً. وفق هذا السيناريو، سيتابع أسلوب الإكراه الصيني في زمن السلم زيادة المخاطر المطروحة على الدول المجاورة التي تطلق نشاطات عادية في مياهها الخاصة. في هذه الحالة، يستحيل جذب أي استثمارات خارجية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز ونشاطات تجارية أخرى. كذلك، قد يخسر الصيادون سبل عيشهم لأن الميليشيات ووحدات خفر السواحل الصينية تُصعّب عليهم الحياة، أو لأن ممارسات الصيد الجائر وتدمير الشِعاب المرجانية تقضي على مخزونهم.

في نهاية المطاف، قد تضطر معظم الجهات الأخرى التي تطالب بحصتها في بحر الصين الجنوبي لفعل ما لا تريده، فتوافق على أي صفقة تعرضها بكين. كذلك، من المتوقع أن ينتهي التحالف بين الولايات المتحدة والفلبين، فقد استنتجت مانيلا أن ذلك التحالف لم يمنحها منافع كبرى بل إنه أثار استياء بكين بكل بساطة. في الوقت نفسه، ستتراجع قدرة الولايات المتحدة على فرض نفوذها في بحر الصين الجنوبي تدريجاً مقابل توسّع القوة الصينية. وقد ترسّخ دول أخرى مطالبها البحرية المفرطة بطرق عدائية، ما يؤدي إلى إضعاف "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار". قد تبدأ هذه الممارسات مع جهات تخريبية مثل روسيا وإيران، لكنها ستنتشر على نطاق واسع في نهاية المطاف، بعدما تدرك الدول التي تلتزم بالقواعد أن مطالب جيرانها المفرطة تسيء إليها. وعندما تتأكد الصين من التراجع الأميركي الحتمي، ستبدأ بتحدّي قواعد ومؤسسات أخرى، لا سيما في آسيا. نتيجةً لذلك، لا مفر من نشوء نظام إقليمي وعالمي أقل استقراراً، فيطرح تهديدات متزايدة على مصالح الأميركيين وما تبقى من حلفائهم.

لكن يستطيع خيار بديل وأكثر إيجابية أن يضمن المصالح الأميركية بكلفة مقبولة عبر دفع الصين إلى إقرار تسوية قد يتقبّلها جيرانها والمجتمع الدولي. يقول المسؤولون الأميركيون منذ التسعينات إن أي اتفاق بين أصحاب المصالح يجب أن يتماشى مع "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار"، ما يعني ضرورة أن تعترف الصين بجميع حريات البحار: حرية الحركة التجارية، وتسهيل وصول القوات البحرية الأجنبية، وحق الدول الساحلية بتلقي الموارد. يجب التوصل إلى أي اتفاق مماثل بين الصين والأطراف التي تحمل مطالب معينة في بحر الصين الجنوبي من دون استعمال القوة أو الإكراه. لحسن الحظ، تقدّم اتفاقية الأمم المتحدة فرصاً كثيرة لعقد تسوية مناسبة شرط أن تتعامل جميع الأطراف معها بجدّية.

يُفترض ألا تهتم الولايات المتحدة بتفاصيل الترتيبات المتفق عليها بين الصين وجيرانها. بل يجب أن تهدف السياسة الأميركية إلى استرضاء الصين لإقناعها بالتوصل إلى تسوية، ثم تبدأ بدعم حلفاء واشنطن وشركائها في جميع قراراتهم طالما تكون خياراتهم قانونية وسلمية. لكن تتطلب هذه المقاربة جهوداً تمتد على سنوات لفرض تكاليف معينة على الصين وعرض الحوافز عليها. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تُحقق هذا الهدف وحدها، بل يجب أن ينضم تحالف من الشركاء الآسيويين والأوروبيين إلى هذه الجهود. يُفترض أن يفرض هذا التحالف تكاليف دبلوماسية واقتصادية ويقوي القدرات العسكرية في جنوب شرق آسيا للمشاركة في كبح العدوان الصيني. منذ العام 2016، لا تُحاسَب بكين على أفعالها ولا تجد أسباباً وجيهة لإقرار اتفاق مع الآخرين. لكن قد يتغير هذا الوضع إذا بدأت مجموعة مؤثرة من الدول تتعامل مع الصين كما تفعل مع لاعبين سيئين آخرين مثل روسيا. سيتّضح حينها أن سياسات بكين في بحر الصين الجنوبي تُضعِف أهدافها الكبرى، وسرعان ما تدرك الصين أنها قد تصبح قوة عالمية رائدة أو قوة تخريبية إقليمية، لكنها لا تستطيع أن تضطلع بالدورَين معاً.

لا يمكن اللجوء إلى أي حلول عسكرية في بحر الصين الجنوبي، لكن قد تؤدي القوة الأميركية الصلبة دوراً لا غنى عنه في أي استراتيجية ناجحة. تتطلب أي حملة متعددة الأطراف لتغيير حسابات بكين عبر الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية والقانونية سنوات عدة، وستتابع القوة العسكرية الصينية توسّعها خلال هذه الفترة وتُكثّف الضغوط على جيرانها. لا يمكن منح تلك الدول الوقت والمساحة اللازمَين لتطبيق استراتيجية طويلة الأمد إلا عبر الدعم العسكري الأميركي.

غـــــريـــــغـــــوري بـــــولـــــيـــــنـــــغ

يجب أن يتابع الأميركيون وشركاؤهم الأمنيون الآخرون تقديم المساعدات اللازمة لبناء القدرات في المنطقة. لكنّ أهم دور يستطيع الجيش الأميركي الاضطلاع به هو الردع المباشر نيابةً عن الفلبين، ما يعني إبقاء القوات الأميركية على مسافة قريبة بما يكفي لتهديد الصين بالرد في حال استعملت القوة ضد مانيلا. في ظل تنامي القوة الصينية، لا مفر من أن تختبر هذه الظروف قوة التحالف الأميركي الفلبيني. ومن دون تسهيل الوصول إلى الفلبين لتحريك الأصول الأميركية، ستجد الولايات المتحدة صعوبة متزايدة في الرد على الاستفزازات بطريقة جديرة بالثقة. إذا قررت الصين مثلاً أن تستعمل القوة لإزالة السفينة الحربية الفلبينية "سييرا مادري" التي حوّلتها مانيلا إلى مركز ثابت في منطقة "توماس شول الثاني"، في جزر سبراتلي، لن تكون القوة الأميركية المتمركزة في أوكيناوا وغوام مؤثرة. تحتاج الولايات المتحدة إلى قوة صغيرة لكن فاعلة من الوحدات الجوية والصاروخية في الفلبين، ويجب أن تقع على مسافة قريبة بما يكفي لتهديد السفن الصينية السطحية والرد على الاستفزازات البسيطة قبل تفاقمها. أطلقت مانيلا وواشنطن حديثاً جهوداً طال انتظارها لتحديث تحالفهما، لكن يبقى الوقت ضيقاً.

لم يخسر الأميركيون وشركاؤهم بحر الصين الجنوبي بعد، فقد امتنعت أي حكومة أخرى عن دعم التفسير الصيني للقانون البحري، ولم يقبل أي بلد آخر بمطالب بكين الإقليمية. كذلك، تبقى الولايات المتحدة الشريكة الأمنية المفضلة لدى معظم دول المنطقة، ولا يزال التحالف الأميركي الفلبيني ساري المفعول وهو يحظى بشعبية واسعة. في الوقت نفسه، لا يزال المسار الذي يضمن المصالح الأميركية الوطنية بكلفة مقبولة قائماً. ربما تراجع نطاقه وزاد التشكيك به مقارنةً بقوته منذ بضع سنوات، لكن يُفترض أن يُشجّع هذا الوضع جميع الأفرقاء على اتخاذ خطوات عاجلة بدل الاستسلام.