ماثيو كرونيغ

نظرية العلاقات الدولية تنذر باقتراب الحرب بين القوى العظمى

31 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قوات العمليات الخاصة الصينية في مناورة عسكرية فيمنطقة قوانغشي ذاتية الحكم | جنوب الصين ، في 17 أيار ٢٠٢٢.
سيبدأ آلاف طلاب الجامعات حول العالم التعرّف على دورات العلاقات الدولية للمرة الأولى هذا الأسبوع. إذا كان أساتذتهم مطّلعين على التغيرات التي يشهدها العالم في السنوات الأخيرة، سيعلّمونهم حتماً أن نظريات العلاقات الدولية الأساسية تنذر باندلاع صراع كبير بين القوى العظمى. طوال عقود، طرحت نظرية العلاقات الدولية أسباباً تدعو إلى التفاؤل، ما يعني أن القوى العظمى قد تقيم علاقات مبنية على التعاون وتحلّ خلافاتها من دون خوض صراع مسلّح. في الوقت نفسه، يوضح المحللون البنائيون أن الأفكار والمعايير والهويات الجديدة غيّرت معالم السياسة الدولية بطريقة أكثر إيجابية. في الماضي، كانت مظاهر القرصنة، والعبودية، والتعذيب، وحروب العدوان، ممارسات شائعة. ثم أدى ترسيخ معايير حقوق الإنسان ومنع استعمال أسلحة الدمار الشامل على مر السنين إلى إنشاء حواجز حماية لتجنب الصراع الدولي. لكن بدأت هذه القوى المهدّئة كلها تتفكك أمام أنظارنا للأسف. وفق نظرية العلاقات الدولية، توحي أبرز العوامل الدافعة للسياسة العالمية بأن الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا لن تكون سلمية على الأرجح.

غالباً ما تندلع الحروب المبنية على سوء التقدير حين تستخف الدول بالخصوم. قد تُشكك الدول مثلاً بقوة الخصم أو استعداده للقتال، فتقرر اختباره. أحياناً، يميل العدو إلى خداع الطرف الآخر ويعطي هذا التحدي النتائج المنشودة. لكن إذا كان العدو مُصمّماً على الدفاع عن مصالحه، قد تندلع حرب كبرى. أخطأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حساباته على الأرجح حين أطلق الغزو ضد أوكرانيا، فافترض أن الحرب ستكون سهلة. حذر بعض المحللين الواقعيين لفترة من اقتراب الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا يزال احتمال أن تمتد هذه الحرب إلى حدود دول الناتو قائماً، ما يعني تحويل الصراع إلى مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا.

على صعيد آخر، قد يخطئ الرئيس الصيني، شي جينبينغ، في حساباته بشأن تايوان، وتأتي سياسة "الغموض الاستراتيجي" التي تتعلق باستعداد واشنطن للدفاع عن الجزيرة لتزيد الاضطرابات القائمة. أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه سيدافع عن تايوان، لكن عارضه المسؤولون في البيت الأبيض. ويشعر عدد كبير من القادة بالارتباك، بما في ذلك الرئيس الصيني. قد يظن هذا الأخير مثلاً أنه قد يفلت بأفعاله إذا قرر مهاجمة تايوان قبل أن يواجه تدخّلاً عنيفاً من الجانب الأميركي لردعه.

يُركّز المحللـــون الواقعيون أيضاً على التحولات الحاصلة في ميزان القوى ويشعرون بالقلق من صعود الصين والتراجع الأميركـي النسبي. استناداً إلى نظرية نقل السـلطة، غالباً ما يؤدي سقوط القوة العظمى الطاغية مقابل صعود القوة المنافِسة إلى اندلاع الحرب. يُعبّر بعض الخبراء عن قلقهم إذاً من وقوع واشنطن وبكيــن في "فخ ثوقيديدس".

من المستبعد أن تنتزع بكين أو موسكو القيادة العالمية من الولايات المتحدة في أي وقت قريب نظراً إلى طبيعة أنظمتهما الاستبدادية الشائبة، لكن تكشف نظرة فاحصة على السجلات التاريخية أن المنافسين يطلقون حروب العدوان أحياناً عند كبح طموحاتهم التوسعية. على غرار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى واليابان في الحرب العالمية الثانية، قد تسارع روسيا إلى عكس مسار تراجعها، وقد تصبح الصين ضعيفة وخطيرة.

قد يظن البعض أن الردع النووي لا يزال فاعلاً، لكن بدأت التكنولوجيا العسكرية تتغير. يشهد العالم "ثورة صناعية رابعة"، إذ تنذر التقنيات الجديدة بتحويل الاقتصاد العالمي والمجتمعات وساحات المعارك، منها الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمّية والاتصالات، والتصنيع التجميعي، وعلم الروبوتات، والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، والطاقة الموجّهة.

يظن عدد كبير من خبراء الدفاع أننا نقترب من ثورة جديدة في الشؤون العسكرية. على غرار الدبابات والطائرات عشية الحرب العالمية الثانية، قد تضمن هذه التقنيات الجديدة تفوّق الجيوش التي تطلق عمليات هجومية، ما يجعل الحرب أقرب إلى الواقع. في الحد الأدنى، قد تُربِك أنظمة التسلح الجديدة تقييمات ميزان القوى، فتزيد مخاطر الحسابات الخاطئة.

تتفوق الصين مثلاً في عدد من هذه التقنيات، بما في ذلك الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، وبعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمّية. هذه المزايا قد تدفع الصين إلى غزو تايوان، أو ربما تتخذ بكين هذه الخطوة إذا اقتنعت بتفوّقها في هذه المجالات مع أنه تحليل خاطئ.

حتى النظرية الليبرالية، التي تحمل جوانب أكثر تفاؤلاً بشكل عام، تطرح أسباباً للتشاؤم. يقول الليبراليون إن المؤسسات ومظاهر الديمقراطية والترابط الاقتصادي سهّلت التعاون داخل النظام العالمي الليبرالي، وهم محقون. أصبح الأميركيون وحلفاؤهم الديمقراطيون في أميركا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا أكثر وحدة من أي وقت مضى. لكن بدأت هذه العوامل نفسها تؤجج الصراع على خطوط الصدع بين الأنظمة العالمية الليبرالية وغير الليبرالية.

في الحرب الباردة المعاصرة، أصبحت المؤسسات الديمقراطية مجرّد ساحات جديدة للمنافسة. بدأت روسيا والصين تتسللان إلى هذه المؤسسات وتَقلِبَانها ضد أهدافها المعلنة. من يستطيع أن ينسى ترؤس روسيا اجتماعاً في مجلس الأمن فيما كانت الجيوش الروسية تغزو أوكرانيا في شهر شباط الماضي؟ كذلك، استعملت الصين نفوذها في منظمة الصحة العالمية لكبح تحقيق فاعل حول أصل فيروس "كوفيد-19". في الوقت نفسه، يتنافس الحكام الدكتاتوريون في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لتجنب التدقيق بانتهاكاتهم المشينة. بدل تسهيل التعاون إذاً، بدأت المؤسسات الدولية تؤجّج الصراع مع مرور الوقت.

على صعيد آخر، يظن المحللون الليبراليون أن الترابط الاقتصادي يُخفف حدة الصراع المحتمل. لكن لطالما طرحت هذه النظرية مشكلة شائكة: هل التجارة هي التي تنتج علاقات حسنة، أم أن العلاقات الحسنة تنتج التبادلات التجارية؟ بدأ الجواب على هذا السؤال يتّضح أمامنا على أرض الواقع.

يدرك العالم الحرّ مع مرور الوقت أنه يتكل على أعدائه في موسكو وبكين أكثر من اللزوم، وقد بدأ يفك هذا الارتباط في أسرع وقت. انسحبت الشركات الغربية من روسيا بين ليلة وضحاها، وتمنع تشريعات وقوانين جديدة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان أي نوع من التجارة والاستثمار في الصين. من غير المنطقي أن تستثمر "وول ستريت" في شركات التكنولوجيا الصينية التي تتعاون مع جيش التحرير الشعبي الصيني لتطوير أسلحة تهدف إلى قتل الأميركيين.

لكن بدأت الصين بدورها تفك ارتباطها عن العالم الحرّ. يمنع شي جينبينغ أي نشاط لشركات التكنولوجيا الصينية في "وول ستريت" مثلاً، لأنه لا يريد تقاسم أي معلومات عن الملكية مع القوى الغربية. باختصار، يبدو أن الترابط الاقتصادي بين العالمَين الليبرالي وغير الليبرالي بدأ يتآكل اليوم بعدما كان عامل التوازن الذي يمنع الصراع.

تفترض نظرية السلام الديمقراطي أن الديمقراطيات تتعاون مع ديمقراطيات أخرى. لكن أوضح بايدن أن خط الصدع المحوري في النظام الدولي اليوم يتعلق "بالمعركة بين الديمقراطية والاستبداد".

لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على علاقات ودّية مع بعض الأنظمة غير الديمقراطية، منها المملكة العربية السعودية. لكن أصبح النظام العالمي أكثر انقساماً بين المعسكر الذي يشمل الولايات المتحدة وحلفاءها الديمقراطيين الذين يميلون إلى التمسك بالوضع الراهن في الناتو، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا من جهة، والمعسكر المؤلف من أنظمة استبدادية رجعية مثل الصين وروسيا وإيران من جهة أخرى. يسهل أن نراجع انعكاسات الصراع الذي نشأ بين العالم الحر وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، واليابان الإمبريالية.

أخيراً، لطالما شككت الحجج البنائية حول الآثار المهدئة للمعايير العالمية بالطابع العالمي الذي تحمله تلك المعايير. فيما ترتكب الصين إبادة جماعية في "شينجيانغ"، وتطلق روسيا تهديدات نووية مريعة وتُخصي سجناء الحرب في أوكرانيا، ها قد حصلنا على الجواب المشين الذي نبحث عنه.

قد يذكر مؤيدو النظرية البنائية أن الشرخ المستجد في السياسة الدولية بسبب تفاقم المواجهة بين الديمقراطية والاستبداد لا يتعلق بالحوكمة بل بأساليب الحياة. غالباً ما تحمل خطابات وكتابات بوتين وشي جينبينغ طابعاً إيديولوجياً صاخباً وتشير إلى تفوّق الأنظمة الاستبدادية مقابل إخفاقات الديمقراطية. بغض النظر عن موقفنا مما يحصل، من الواضح أننا عدنا إلى المنافسة التي كانت قائمة في القرن العشرين، حيث يحتدم الجدل حول قدرة الحكومات الديمقراطية أو الاستبدادية على خدمة شعوبها، ما يزيد خطورة العنصر الإيديولوجي في هذه المنافسة.

مع ذلك، يحمل الوضع الراهن جانباً إيجابياً لحسن الحظ. يمكن فهم السياسة الدولية بأفضل طريقة عبر خليط من النظريات المتنوعة. يفضّل معظم البشر النظام الدولي الليبرالي، ولا يمكن أن يصمد هذا النظام من دون القوة العسكرية الواقعية التي يملكها الأميركيون وحلفاؤهم الديمقراطيون. كذلك، تنذر النظريات والتجارب التاريخية على مر 2500 سنة بأن الديمقراطيات تميل إلى الفوز في هذه المنافسات القوية، بينما تخسر الأنظمة الاستبدادية بطريقة كارثية في نهاية المطاف.

لكن لا تنشأ اللحظات الحاسمة التي تُوجّه التاريخ نحو مسارٍ عادل إلا بعد اندلاع الحروب بين القوى العظمى للأسف. نأمل إذاً في ألا يتذكر الطلاب المعاصرون، في حفل تخرّجهم بعد سنوات، الوضع الذي عاشوه حين اندلعت الحرب العالمية الثالثة. في مطلق الأحوال، تكثر الجوانب المقلقة في نظرية العلاقات الدولية.


MISS 3