بريطانيا بقيادة بوريس جونسون و"بريكست"... "برلسكونية" الهوى

13 : 39

إذا أردنا وصف المزاج المختلف الذي يطغى على هذه الحملة الانتخابية في بريطانيا، يمكن القول إنه خليط من الحيرة والسخط والإجهاد. انغمست الأوساط العامة في حرب استنزاف، حيث أصبحت جميع أرقام الاستطلاعات أو البيانات الإعلامية والسياسية موضع شك. ماذا وراء هذا الحدث؟ من هي الجهة المُموّلة؟ هل يحاولون إلهاء البريطانيين عن الحقيقة؟

تبدو قواعد الالتزام غريبة وغير مستقرة. بعيداً من الجهات الهجومية المأجورة التي تتولى إدارة الاستراتيجية الإعلامية الرقمية لحزب "المحافظين"، يصعب أن نتخيل وجود من يستمتع بهذا الوضع. لطالما كانت الحملات السياسية تدريباً على جذب الانتباه وتخريب رسائل الخصوم، فتستعمل في خضم هذه العملية تكتيكات عسكرية كلاسيكية مثل المفاجأة والخداع. لكن تصاعد هذا الوضع اليوم لدرجة أن تصبح الأفكار المهمة شبه مستحيلة. يكفي أن نتراجع للحظة كي يظهر سؤال محوري مفاجئ: أهكذا تكون نهاية الليبرالية؟

إذا اتّسم العام 2016 باكتشاف الليبراليين نقطة ضعف الحملة السياسية "المبنية على الوقائع"، يبدو أن العام 2019 يشهد أزمة مؤسسية شاملة. تتوقف الديمقراطية الليبرالية على ثقة الرأي العام ببقاء بعض القواعد والهياكل خارج سيطرة النفوذ أو التلاعب السياسي، بما في ذلك المعايير الصحافية الأساسية لإعداد التقارير. وحتى لو لم تكن وسائل الإعلام يوماً حيادية أو مستقلة بالكامل، إلا أنها شكّلت تقليدياً مجالاً منفصلاً عن القادة والأحزاب السياسية الواردة في تقاريرها (ولو أنها تتشابك معها أحياناً). رغم الشوائب إذاً، كانت وسائل الإعلام منصة للتنافس بين الأحزاب المتناحرة. اليوم، يبدو أن هذا التمييز بين الإطار المحيط بعالم السياسة ومحتواه تلاشى.




لم يسبق أن كانت وسائل الإعلام جزءاً محورياً من الحجج المطروحة على مر الحملات الانتخابية. لكن يبدو أن كل مناظرة تلفزيونية ومقابلة (أو حتى تجنبها) وتغريدة للصحافيين تطلق صراعاً جديداً للهجوم والرد المضاد، فتنجرّ قنوات يُفترض أن تكون حيادية، على غرار "بي بي سي"، إلى ساحة الحرب الإعلامية.يكمن محرك الفوضى الراهنة في النزعة المحافِظة المتهورة التي تطغى الآن على حزب "المحافظين" بسبب أزمة "بريكست" وانتهازية بوريس جونسون. تبدو عقلية هذا المعسكر اليميني الجديد عدائية تجاه فكرة وجود مؤسسات "حيادية" أو "مستقلة" لمراقبة أداء السلطة. تُعتبر هذه الجهات بنظره متصلّبة ومعنيّة بمصالحها الخاصة. كُتِبت مقالات كثيرة عن فلسفة دومينيك كامينغز في هذا الإطار. لكن كان مايكل غوف المسؤول عن تسليط الضوء عليه في المقام الأول، وهو ينشر اليوم جواً من الارتباك والمعلومات المغلوطة في وسائل الإعلام بحماسة لا يضاهيها أحد.

تتوقف المنصة الانتخابية كلها في معسكر المحافظين على الفكرة القائلة إن البرلمان والحكومة يخونان "الشعب"، ما يعني أنهما ينفذان أجندتهما السياسية الخاصة. وفق هذه القناعة، سبق واختار كل طرف الجهة التي يفضّلها، ويُعتبر كل من يرفض الإعلان عن خياره يسارياً، أو مؤيداً للبقاء في الاتحاد الأوروبي على الأرجح، أو خائناً لبريطانيا.




لقد تداخل عالما "السياسة" و"الإعلام" بعدما كانا مجالَين منفصلَين سابقاً. ليست صدفة أن يكون السياسيان اللذان يقودان حملة الهجوم على الصحافة النزيهة (جونسون وغوف) صحافيَيَن سابقَين. هما يتنقلان بين السياسة ونشرات الأخبار، حيث يتعلق الهدف الأساسي بتقديم عرض أمام الكاميرا، والتلاعب بإطار التصوير، والتحكم بتجربة المشاهدين. اعتادت بريطانيا على نزعة معظم الصحف إلى التحريض ضد حزب "العمال"، وتتوقع أن يتعرض كل زعيم في هذا الحزب لهجوم عشوائي. لقد أنتج خليط "بريكست" وجونسون ظاهرة جديدة بالكامل، إذ يسود شعور الآن بأن "داونينغ ستريت" (مقر رئاسة الحكومة) أصبح وكالة إعلامية، بينما تحوّل "فليت ستريت" (حي الصحافة) إلى موقع سياسي. لطالما كان مبدأ "فصل السلطات" من أهم أسس السياسة الليبرالية، منذ عصر التنوير. يشير هذا المفهوم إلى نظام حكم ثلاثي الأطراف يفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويرتكز عليه الدستور الأميركي. لكن تتوقف الليبرالية أيضاً على أشكال أخرى من الفصل، ظاهرياً على الأقل، فتفترض مثلاً أن "الاقتصاد" منفصل نسبياً عن "الدولة". بنظر معظم الليبراليين، يبقى حصر السلطة في مؤسسات محددة، مثل الشركات الكبرى، مقبولاً طالما يتنافس الخصوم على تلك السلطة. لكن يتعلق جانب مدمّر من الليبرالية بظهور كتلة نافذة واحدة وغير منقسمة أو نشوء مركز قوة واحد يطغى على المراكز الأخرى. من دون التمييز بين مراكز القوة المتنافسة، لا يمكن اعتبار صنع القرار العام "عادلاً" أو "مستقلاً". ولا يمكن أن تكون أحكام القضاة نزيهة مثلاً إلا إذا بقوا على مسافة من السياسة البرلمانية. بناءً على المبدأ نفسه، يصعب أن تؤدي قناة "بي بي سي" دورها في تغطية الأحداث السياسة بطريقة "منصفة" إلا إذا دافعت عن المسافة التي تفصلها عن السياسات الحزبية والتزمت بها. لكن يقضي تكتيك أساسي في النزعة المحافِظة الجديدة بالسخرية من مفهوم "الإنصاف"، فيتلاعبون به لدرجة أن يصبح شكلياً، كما حصل عند تغيير اسم حساب حزب "المحافظـين" على تويــــتر إلى factcheckUK (التحقق من الوقائع البريطانية).من الواضح أن جونسون وغوف وكامينغز يستغلون الانهيار المؤسسي الحاصل، لكنهم لم يسببوه. بدأت قوى إيديولوجية وتكنولوجية متنوعة تُضعِف شروط التعددية الليبرالية منذ سنوات. خلال التسعينات، انتشرت عقيدة تقليدية جديدة بين علماء السياسة والاجتماع، مفادها أن السلطة تكمن الآن في شبكات التواصل، لا المؤسسات. هكذا أصبح التواصل مهارة مهنية أساسية بنظر الأفراد. بدل الاحترافية التي تُركّز على مهنة واحدة، ظهرت ثقافة جديدة تؤيد المرونة وتجديد الذات، أي القدرة على التنقل من عمل إلى آخر أو من قطاع إلى آخر، بحسب متطلبات السوق.

أدى ظهور الإنترنت في الفترة نفسها إلى تفكيك الانقسامات العمودية (بوتيرة بطيئة في البداية ثم دفعةً واحدة) بين مختلف أنواع الثقافة والتواصل. اليوم، تنتشر منصات تطغى عليها مواد عشوائية في المواقع التي كانت مخصصة سابقاً للصحف وخدمات البث والمجلات والدراما والأعمال الترفيهية. يستغل المسؤولون عن حملات الهجوم السياسي والأخبار المزيفة حقيقة بسيطة: لم يعد الفصل بين "التهكم" و"الأخبار" ممكناً. أنتجت هذه البيئة الإعلامية الجديدة نوعاً غير مسبوق من الشخصيات العامة التي لا تدخل في أي خانة سابقة متعارف عليها، وبالتالي قد يصبح الفرد ممثلاً وكوميدياً وسياسياً وإعلامياً في الوقت نفسه. يكفي أن ننظر إلى رئيس الحكومة البريطاني!




لطالما وجدت النُخَب وسائل فاعلة لتجميع نفسها، منها نوادي جامعة "أكسفورد" أو المدارس النخبوية. كانت تلك الوسائل تُستعمَل في الماضي لتسريع بلوغ أعلى المراتب في المؤسسات المنقسمة على أساس التخصص المهني. لكن في أوساط النخب النافذة اليوم، لا نتوقع من أمثال جورج أوسبورن أن يضطروا للاختيار بين مهنة في السياسة أو القطاع المالي أو الإعلام، إذ يمكن التنقل بين هذه المجالات كلها. نحن نشهد انتشار نوع من "البرلسكونية" (نسبةً إلى رئيس الحكومة الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني) في الحياة العامة، حيث يخسر مبدأ الفصل بين السياسة والإعلام والأعمال مصداقيته. ينعكس هذا النوع من أزمات الشرعية بطريقة كارثية على ثقة الرأي العام، لكنه يقدّم فرصاً مدهشة لمجموعة صغيرة من الأفراد المستعدين لاستغلال الوضع.لم تكن "بريكست" مسؤولة عن هذا الانهيار البطيء أو عن أسوأ تداعياته، لكنها ساهمت في تسريعه. يزيد اقتناعنا بخطة "بريكست" حين نعتبر الحياة العامة لعبة تشارك فيها جهات داخلية. ونتوصّل إلى هذا الاستنتاج جزئياً لأنه يشمل جزءاً من الحقيقة. كلما بدت الحكومة والسياسات الحزبية ووسائل الإعلام مشبوهة، تزيد جاذبية "بريكست" ويتوسع الدعم الذي يحظى به جونسون. تدرك رئاسة الحكومة هذا الواقع، لذا تبدو مُصمِّمة على إعطاء طابع مشبوه مفرط للحياة العامة.


MISS 3