ديمتري ألبيروفيتش

نشوء نسخة أخرى من روسيا ممكن

6 أيلول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الميدان الأحمر في موسكو | كانون الأول 2021
في ظل استمرار الحرب التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا وتبدّل الظروف الجيوسياسية العالمية، يجب أن تراجع الولايات المتحدة استراتيجيتها القديمة تجاه روسيا. على غرار استراتيجية الاحتواء التي صاغها الدبلوماسي جورج كينان منذ 75 سنة خلال الحرب الباردة، يجب أن تتمحور هذه الاستراتيجية مجدداً حول "احتواء النزعات الروسية التوسعية بطريقة صبورة لكن صارمة وحذرة". خلال الحرب الباردة، حاولت الولايات المتحدة أن تتحقق من نزعة الاتحاد السوفياتي إلى التوسع من دون خوض مواجهة عسكرية مباشرة، فانتظرت حتى انهيار النظام السوفياتي الشائب في موسكو. أما اليوم، فيبدو الهدف من احتواء روسيا مختلفاً، إذ من السذاجة أن يتوقع أحد تفكّك روسيا مثل الاتحاد السوفياتي. حتى أن كينان شخصياً اعترف بأن "الاتحاد السوفياتي لن يدوم، لكنّ روسيا دائمة".

يجب أن تسعى الولايات المتحدة إذاً إلى كبح النزعة الروسية التوسعية في أوروبا وأماكن أخرى، إلى أن تدرك القيادة الروسية (راهناً أو مستقبلاً) أن ميولها الإمبريالية المدمّرة تقودها إلى مستقبل قاتم حيث تصبح تابعة للصين. أصبحت موسكو معزولة عن الغرب أكثر من أي وقت مضى، وقد تصبح مدينة بالفضل إلى بكين باعتبارها شريكتها التجارية وداعمتها الدولية الأساسية، ما يعني أن هذه العلاقة ليست قائمة بين طرفَين متساويَين بل بين فريق يتوسّل المساعدة وفاعل خير. قد يعيد الكرملين النظر بسياساته الخبيثة والمعادية للغرب ويضبط عدائيته إذا أدرك حجم اتكاله على الصين.

لكن يُفترض ألا تتوقع الولايات المتحدة أن يؤدي هذا التحول إلى نشوء علاقة ودّية مع روسيا، أو تشكيل تحالف ضد الصين، أو حصول تغيّر سريع في تصرفات روسيا. قد تمرّ سنوات قبل أن يتبنى القادة الروس موقفاً أقل صدامية تجاه الغرب. ومن المستبعد أن تصبح روسيا يوماً متكاملة مع المجتمع الغربي أو أن تضحّي في أي مرحلة بعلاقتها مع الصين مقابل تحسين روابطها مع الولايات المتحدة وأوروبا. يجب أن تتقبل الولايات المتحدة إذاً الاختلافات المحورية بين روسيا والغرب على مستوى القيم والمصالح الأساسية على المدى الطويل، منها دعم حقوق الإنسان والحُكم الديمقراطي.

مع ذلك، قد يستنتج الكرملين في نهاية المطاف أن سياسة الإنصاف (أي الحفاظ على روابط مثمرة مع الصين والغرب في آن) تصبّ في مصلحته. بعبارة أخرى، يبقى ظهور نسخة مختلفة من روسيا ممكناً، حيث تنشأ سياسة خارجية أكثر توازناً، فتحرص على تجنب التشابكات المعقدة مع الصين أو الغرب، وتحترم وحدة أراضي الدول الأخرى، وتلتزم بواجباتها القانونية الدولية. يجب أن تتحلى الولايات المتحدة بالصبر وتبدي استعدادها للانتظار إلى أن تدرك روسيا أنها لن تُحقق مكاسب كبرى إذا أصبحت خاضعة للصين مستقبلاً.

يجب أن تتجنب الولايات المتحدة انهيار روسيا المباشر من الداخل، فتتابع معاقبة بوتين على الحرب في أوكرانيا شرط أن تدرك في الوقت نفسه أن زعزعة استقرار روسيا، أو حتى تفكيكها كما يدعو بعض المعلّقين، لا تصبّ في مصلحتها. في نهاية الحرب الباردة، شعر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب بالقلق من انهيار الاتحاد السوفياتي. لم يكن قلقه يتعلق بأهمية الحفاظ على النظام السوفياتي بل باحتمال أن تخرج الأسلحة النووية والمواد الانشطارية عن السيطرة بعد تفكك قوة نووية عظمى، ما يعني تعزيز الانتشار النووي في الدول اللاحقة والتحريض على نشوء جماعات إرهابية جديدة وشبكات للجرائم المنظمة. لا تزال هذه المخاطر قائمة بعد مرور أربعة عقود على تلك الحقبة. قد يؤدي انهيار روسيا إلى اندلاع صراع أهلي دموي وزعزعة استقرار أوراسيا خلال السنوات المقبلة.

يبقى احتمال اندلاع انتفاضة شعبية في روسيا منخفضاً، إذ يبدو موقع بوتين في السلطة آمناً حتى الآن، فهو يحظى بدعم جهاز قوي لتنفيذ حملات القمع الداخلي. سمحت العقوبات المفروضة على روسيا حتى اليوم بإضعاف القوة الاقتصادية الروسية، لكنها لم تطلق عواقب مشابهة لمظاهر الدمار والإهانة التي تحمّلها الروس خلال الأزمة الاقتصادية التي سبّبها انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات.

لكن تكشف التجارب أن مظاهر الهدوء في الوقت الراهن قد تكون مُضلّلة. قد لا يعرف المسؤولون الأميركيون مستوى الغدر الحقيقي في أوساط بوتين الداخلية، وقد يعجزون عن توقّع نوع الفوضى المرتقبة بعدما يخسر الحاكم المستبد سطوته. من المتوقع أن يبدأ صراع مرير على السلطة بعد رحيل بوتين، طوعاً أو لأسباب أخرى، بما يشبه الصراع الذي تلا موت ستالين في العام 1953. بغض النظر عن هوية خَلَفه، ستستمر سياسات بوتين القومية والانتقامية بعد رحيله على الأرجح، مثلما تابع نيكيتا خروتشوف سياسات ستالين الصدامية والمعادية للغرب، حتى أنه عمد إلى تكثيفها وأطلق في النهاية أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962.

يجب أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات حذرة في جميع الأحوال، فتعترف بأن الانهيار الاقتصادي والفوضى السياسية هما من أسوأ تداعيات بناء الأنظمة الليبرالية. كذلك، يُفترض ألا تعتبر نشوء دولة ديمقراطية ليبرالية في روسيا بعد عهد بوتين حدثاً تاريخياً حتمياً. لا مفر من أن يلقي الماضي بثقله على روسيا لأن المؤسسات القمعية المحلية تستطيع أن تحافظ على نفوذها وأصبح الشعب الروسي معتاداً على الامتثال وتجاهل الشؤون السياسية، علماً أن الولايات المتحدة عوّلت بكل سذاجة على هذا الشعب سابقاً لإحداث تغيير ديمقراطي في روسيا. لا تستطيع واشنطن أن تجعل التوقعات المرتبطة بإرساء الديمقراطية داخل روسيا في مرحلة معينة ركيزة لسياستها على المدى الطويل. بل يجب أن يبني الشعب الروسي بنفسه ديمقراطية روسية حقيقية، إذ لطالما كان تأثير واشنطن على هذا النوع من النتائج محدوداً جداً وسيبقى كذلك دوماً.

شهد آخر ثلاثين عاماً على فشل روسيا في إيجاد مكانها في الغرب. على عكس ألمانيا واليابان اللتين رسّختا موقعهما في النظام الغربي بعد تعرّضهما للهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية، رفضت روسيا تقبّل مكانتها المتراجعة بعد الحقبة السوفياتية. حاولت الولايات المتحدة مراعاة رغبة موسكو في كسب الاحترام عبر دعوة روسيا للانضمام إلى منتدى مجموعة السبع المؤلف من بلدان متقدمة (عادت وطُرِدت منه لاحقاً)، وعبر إنشاء مجلس مشترك بين حلف الناتو وروسيا. لكن تتابع موسكو تصعيد احتجاجاتها وتخضع لخليط سامٍ من القومية والإمبريالية.




الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ | شباط 2022



مع ذلك، يجب أن يتابع صانعو السياسة الأميركية استكشاف الطرق التي تسمح بتسريع نشوء روسيا الأقل عدائية، حتى لو اقتصر السبب على تخفيف التوتر بين أكبر دولتَين نوويتَين، تزامناً مع تصعيب استفادة الصين من ضعف روسيا.

على الولايات المتحدة أن تشجّع الروس على تخيّل مستقبلٍ تصبح فيه روسيا لاعبة مؤثرة ومستقلة على الساحة العالمية، حيث تحاول التعايش مع الغرب بطريقة سلمية ومفيدة. قد تستفيد موسكو والغرب من نشوء نسخة روسية غير تابعة أو خاضعة للصين، وقد يكون حياد روسيا المحتمل (أي عدم انحيازها في المنافسة الاستراتيجية الراهنة مع الصين) أكبر مكافأة تستطيع الولايات المتحدة عرضها على الإطلاق. يُفترض أن تؤكد الرسائل الأميركية لروسيا على ما تعرفه النُخَب السياسية الروسية أصلاً: تسعى الصين بكل بساطة إلى خدمة مصالحها الخاصة، وهي تعتبر روسيا مجرّد أداة لتحقيقها.

قد تكون الصين أول من يساعد الغرب على أداء هذه المهمة. سبق وأطلقت بكين صفقة شائكة مع موسكو عبر الاستفادة مثلاً من حاجة روسيا الفائقة إلى بيع مصادر الطاقة للتفاوض حول حسومات كبرى. في الماضي، كانت الصين تتحمل علاقات روسيا المستقلة مع الهند وفيتنام وتحترم دور الكرملين المؤثر في آسيا الوسطى، ولو على مضض. لكن حين تدرك الصين حجم تأثيرها على روسيا، ستحاول حتماً أن ترسم السياسة الخارجية الروسية بطرقٍ تخدم مصالحها الخاصة.

هذه السياسة الصينية الصارمة قد تمنح الأوساط السياسية الروسية سبباً وجيهاً لإعادة النظر بعدائيتها الراسخة ضد الغرب. ستدرك موسكو في نهاية المطاف أنها تستطيع توسيع نفوذها الدولي وزيادة تأثيرها على القوى الأخرى، بما في ذلك الصين، عبر كبح نزعتها العدائية في أوروبا.

تكمن المفارقة في احتمال أن تضمن روسيا مستقبلاً تتعايش فيه سلمياً مع الغرب لولا خطط بوتين الإمبريالية. أدى عدوانه في أوكرانيا إلى تصعيب المهمة على روسيا والولايات المتحدة في آن. مع ذلك، تبقى الفرصة سانحة لتصحيح أخطاء بوتين الإجرامية وغير المنطقية، حتى لو اضطرت روسيا لمواجهة العقوبات أولاً. يجب أن تقرر روسيا مدى استعدادها لمتابعة العيش في أجواء من العزلة والغضب، لكن تستطيع واشنطن أن تُذكّر موسكو بالخيارات الأخرى المتاحة أمامها إذا أبدت اهتماماً صادقاً بتصحيح نزعاتها التدميرية. إلى حين حصول ذلك، يجب أن تضبط الولايات المتحدة أسوأ التصرفات الروسية وتنتظر تبدّل الظروف.


MISS 3