سوزي دينيسون

أزمة الوقود... كيف تتجنّب أوروبا شتاءً قارساً؟

8 أيلول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الثلوج في باريس | كانون الثاني 2021
مع اقتراب نهاية الصيف في أوروبا، تواجه جميع دول الاتحاد الأوروبي أزمة معينة في قطاع الطاقة. بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، انضم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة وبلدان أخرى لتصعيد حملة العقوبات وتدابير الحظر ضد الغاز الطبيعي الروسي، مع أن عدداً كبيراً من دول الاتحاد يتكل على واردات الطاقة الروسية. جاءت هذه التدابير لتزيد تحليق الأسعار سوءاً، فارتفعت كلفة المعيشة بالنسبة إلى شريحة واسعة من الأوروبيين. سبق وحاولت الحكومات الأوروبية تخفيف استهلاك الطاقة عبر الحد من استعمال مكيفات الهواء في المباني العامة ومطالبة المتاجر بإطفاء أضوائها خلال الليل. لكن من المتوقع أن تزداد الأزمة سوءاً. تتخبط الحكومات اليوم للاستعداد لشتاء بالغ الصعوبة.

يُركّز صانعو السياسة في أنحاء الاتحاد الأوروبي على تعزيز الإمدادات الوطنية. سبق وأبرمت دول الاتحاد اتفاقيات ثنائية لتأمين الطاقة من مصادر بديلة، بما في ذلك الجزائر وكندا وقطر. تناقش الحكومات اليوم كيفية بناء خطوط أنابيب لنقل الغاز بين بلدان جنوب أوروبا ووسطها. كذلك، يفكر المسؤولون الأوروبيون جدّياً بأفضل الطرق لزيادة كفاءة الطاقة في بلدانهم. وافق مجلس الاتحاد الأوروبي في شهر تموز على خطة لتوفير الطاقة تفرض على الدول الأعضاء أن تُخفف استهلاك الغاز بنسبة 15% بحلول الشتاء المقبل. حتى أن بعض الحكومات، مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، طرح تخفيضات مستهدفة في مستوى الاستهلاك، لكن تتردد دول أخرى، مثل ألمانيا، في فرض تدابير مماثلة.

في مطلق الأحوال، تعجز هذه الخطوات عن معالجة الأزمة التي تواجهها أوروبا. تتعامل الحكومات الأوروبية اليوم مع أعراض المشكلة وتتجاهل أسبابها. لا يمكن أن تُحقق أوروبا المستوى المناسب من أمن الطاقة من دون سياسة خارجية منسّقة بدل الاتكال على الردود الوطنية الفردية والمجزأة. في ظل غياب أي تحركات متناغمة، سيجد أعضاء الاتحاد الأوروبي أنفسهم في حاجة دائمة إلى التوفيق بين التمسّك بقيمهم وتلبية الحاجات الأساسية لمواطنيهم. إنه توازن هش ولا مفر من أن يسيء إلى المشروع الأوروبي بحد ذاته. يجب أن تتحرك الحكومات الأوروبية بسرعة إذاً لدرء أحلك التداعيات المتوقعة في الشتاء المقبل.

مؤشرات تحذيرية

ظهر مؤشر تحذيري في إيطاليا خلال هذا الصيف، حين أقدم عدد من الأحزاب السياسية على إسقاط حكومة ماريو دراغي بسبب محاولاته إبعاد الاقتصاد الإيطالي عن مصادر الطاقة الروسية. اعتبرت أحزاب المعارضة هذا النوع من الخطوات غير ضروري، وأصرّت على أهمية حماية البلد من تصاعد التكاليف المترتبة عليه من خلال متابعة الاتكال على الغاز الروسي. صُدِمت العواصم الأوروبية الأخرى بقرار إيطاليا الذي يعارض الموقف الأوروبي الصارم والموحّد من حرب بوتين المشينة. إذا كانت روما تستطيع التخلي عن هذه الجهود الجماعية، قد يحذو آخرون حذوها نظراً إلى انتشار أصوات قومية مؤثرة في جميع دول الاتحاد الأوروبي تقريباً. في أول أسبوع من شهر آب، دعت مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا، إلى إنهاء ما سمّته العقوبات "غير النافعة" ضد روسيا. هكذا أصبحت الوحدة المبهرة التي ميّزت الرد الأوروبي على الحرب الروسية مُهددة تحت ثقل الضغوط الاقتصادية والسياسية اليوم.

بدأ الكرملين يلاحظ هذه التصدعات على الأرجح. زادت صرامة مواقف بوتين بدرجة ملحوظة في الأشهر الأخيرة، فلام القوى التي فرضت العقوبات ضد بلده على ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود حول العالم. من المستبعد أن تتخلى موسكو عن سياسة حافة الهاوية، ما يعني أن تتابع اختبار قوة تحمّل أوروبا للانتهاكات الروسية للقانون الدولي والإنساني. يطرح تعنّت بوتين مخاطر كبرى على الأوروبيين. إذا أصبحت التوقعات الراهنة حول انقطاع الكهرباء واقعاً ملموساً في الشركات، ستتأثر القدرة التنافسية الصناعية لأوروبا بدرجة كبيرة. في الوقت نفسه، قد تصبح الأهداف المناخية الأوروبية مُهددة بسبب الردود الارتجالية العابرة التي تهدف بكل بساطة إلى استبدال الغاز الروسي المفقود بوقود أحفوري من أماكن أخرى، بدل تعزيز إنتاج مصادر الطاقة المتجددة في أسرع وقت. يبدو أن العملية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي للانتقال إلى الطاقة الخضراء بدأت تتفكك، إذ تُركّز الحكومات اليوم على تلبية حاجاتها إلى الطاقة على المدى القريب. نتيجةً لذلك، تبدو نزعة أوروبا إلى اعتبار نفسها رائدة عالمياً في مجال معالجة التغير المناخي مشبوهة أكثر من أي وقت مضى. كذلك، لا مفر من التشكيك بالتزامها المعلن بحماية القيم الليبرالية وحُكم القانون فيما تتابع شراء مصادر الطاقة من روسيا، مع أن القوات الروسية تنتهك القانون الدولي وحقوق الإنسان في أوكرانيا. في نهاية المطاف، قد تُضعِف طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع هذه الحرب على المدى القصير مصداقية المشروع السياسي الأوروبي كله.

نحو حماية استقلالية الطاقة في أوروبا

قد تطلق أوروبا مساراً لتجاوز هذه الفوضى والبدء بحماية أمن الطاقة مستقبلاً وترسيخ أمنها عموماً. لم تغفل الصين وكوريا الشمالية وتركيا عن الفوضى التي أحدثها بوتين حين قرر انتهاك قواعد النظام الدولي بكل بساطة. يجب أن تستعد دول الاتحاد الأوروبي الآن للتعامل مع عالمٍ تعمّه الفوضى، فتبدأ بجمع مواردها لتجهيز نفسها للتكيّف مع المستجدات المرتقبة. ويجب أن تفهم أيضاً أن اكتساب الاستقلالية لا يمكن تحقيقه من دون التعاون مع الآخرين. لا مفر من أن تغرق دول الاتحاد الأوروبي في هذا المستنقع المتقلّب إذا تابعت التعامل مع الأزمات بطريقة جزئية، أو إذا تحركت فردياً بدل تطبيق مقاربة جماعية.

على صعيد آخر، يجب أن يستعمل صانعو السياسة خطاباً أكثر صرامة حول أهمية أمن الطاقة المستدامة، تزامناً مع تطبيق التدابير اللازمة للحفاظ على كفاءة الطاقة في أنحاء أوروبا، فتتعاون الحكومات مع مختلف القطاعات والمستهلكين. كذلك، يُفترض أن يوضح القادة أن الاتحاد الأوروبي لن ينجح في مساعيه من دون استهداف جميع أجزاء المجتمع الأوروبي، ويجب أن تبدي التحالفات الحاكمة استعدادها لتحمّل التكاليف السياسية المترتبة عن توجيه رسالة مماثلة. تعاملت مختلف الأحزاب في الائتلاف الألماني الحاكم مع أهمية تخفيض استهلاك الطاقة بدرجات متفاوتة من الجدّية مثلاً. لا يمكن أن يستمر هذا التفاوت. نظراً إلى حجم ألمانيا ونفوذها، قد تعطي مقاربة الحكومة المترددة لدفع المستهلكين والشركات إلى تخفيض الاستهلاك عواقب تتجاوز حدود برلين، فتنعكس سلباً على أي جهود أوروبية موحّدة لتوفير الطاقة.

يتطلب هذا الوضع أيضاً تخطيطاً جماعياً للتحكم بقطاع الطاقة خلال الشتاء، ويُفترض أن تُطبَّق هذه المقاربة على مستوى أوروبي شامل، بدل أن تتبناها الحكومات الوطنية بشكلٍ فردي. يجب أن يتعامل الاتحاد الأوروبي بطريقة استراتيجية مع الموارد التي تستطيع الدول الأوروبية جمعها بطريقة مشتركة قبيل الشتاء المقبل لتجنب المطالبات المجزأة بإثبات حُسن النوايا وتبادل المساعدات بين الدول الأعضاء. يسهل أن تتخذ هذه الطلبات طابعاً مسيّساً وتنشر بذور الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي. تتطلب أي مقاربة استباقية ومشتركة بعض الاستثمارات الجدّية واستعداداً قوياً لتقاسم الأعباء على المستوى الأوروبي للتمكن من تمويل طرق الاستجابة للأزمة القائمة. أصبح الاتحاد الأوروبي اليوم مستعداً لفعل كل ما يلزم لمعالجة المشكلة، بما يشبه وضعه خلال أزمة اليورو في العام 2012، أو خلال أزمة كورونا في صيف العام 2020. يجب أن يفكّر قادته إذاً بتكرار جزءٍ من التحركات التي رافقت زمن الجائحة، بما في ذلك الاقتراض على نطاق واسع من السوق، لدعم مصادر طاقة أكثر نظافة ومصداقية في أسرع وقت واستعمالها كموارد جماعية للاتحاد الأوروبي لتلبية الطلب على الطاقة لفترة تتجاوز الشتاء المقبل. بعبارة أخرى، يجب أن تتماشى استثمارات أوروبا لتلبية حاجات القارة إلى أمن الطاقة مع حجم الأزمة الراهنة.

لكن يجب أن يطوّر الاتحاد الأوروبي في المقام الأول سياسة خارجية قادرة على بناء شبكة واسعة من العلاقات مع دول ثالثة لضمان مستقبل آمن وأكثر استدامة لقطاع الطاقة في أوروبا. يُفترض أن يُكثّف الاتحاد استثماراته مثلاً في برامج الابتكار المشترك، ويُوسّع تعاونه مع الآخرين لتحسين كفاءة الطاقة وإطلاق مبادرات الطاقة النظيفة في البلدان الواقعة في شرقه وفي أفريقيا، لتأمين مصادر موثوق بها من الطاقة الخضراء. كذلك، يُفترض أن يدعم الاتحاد الأوروبي تسريع العملية الانتقالية نحو استعمال الطاقة الخضراء في قطاعات أساسية داخل الدول الشريكة، مقابل منع الشركات التي تنتهك معايير الطاقة الخضراء الأكثر صرامة من الوصول إلى سلاسل الإمدادات الأوروبية وحرمانها من التمويل. لهذا السبب، يجب أن تصبح سياسة الاتحاد الصناعية الخضراء أكثر انفتاحاً وتساعد الشركات في محيط أوروبا على الانضمام إلى نظام الاتحاد الأوروبي ككل. إذا لم يُطبَّق هذا النوع من دبلوماسية الطاقة المستدامة، قد تتكل أوروبا مجدداً على الآخرين بمستوى مشابه للفترة التي سبقت الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

تستطيع أوروبا أن تتجاوز هذه الأزمة وتُوسّع استقلاليتها في خضم هذه العملية. لكن ستُحدد الخيارات التي تقوم بها خلال الأسابيع المقبلة مدى قدرتها على حماية استقلالها، أو اتجاهها إلى تحويل المشروع السياسي الأوروبي إلى ضحية أخرى لحرب بوتين الوحشية.


MISS 3