كريس ميلر

هل أصبح الإقتصاد الروسي على المحك؟

12 أيلول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في شهر نيسان، بعد أسابيع قليلة على بدء الغزو ضد أوكرانيا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الغرب يعجز عن خنق الاقتصاد الروسي في أي ظرف. لن تنجح حملة العقوبات الأميركية والأوروبية ولن تتمكن من إخضاع بلده. قال بوتين أمام مسؤولين في نظامه: "يمكننا أن نقول بكل ثقة منذ الآن أن هذه السياسة تجاه روسيا فشلت. استراتيجية الحرب الاقتصادية الخاطفة فشلت". يسهل أن نتوقع هذا النوع من مواقف التحدي من بوتين وقادة روس آخرين. لكن بعد مرور ستة أشهر على اندلاع الحرب وفرض العقوبات، بدأ عدد كبير من المراقبين يشكك بقدرة العقوبات الغربية على تحقيق النتائج الحاسمة التي تعهد بها مهندسوها. راجع مراقبون دوليون، مثل صندوق النقد الدولي، توقعاتهم حول الناتج المحلي الإجمالي الروسي وغيّروا التقديرات التي نشروها في وقتٍ سابق من هذه السنة. مقارنةً بالتوقعات الأولية التي نُشِرت بعد فرض العقوبات مباشرةً، قدّم الاقتصاد الروسي أداءً أفضل من المتوقع بفضل السياسات الروسية التكنوقراطية المتقنة من جهة، وبسبب أسواق الطاقة العالمية الضيقة التي حافظت على ارتفاع أسعار النفط والغاز من جهة أخرى.

يجب أن يوضع أداء روسيا الاقتصادي الذي فاق التوقعات في سياقه الصحيح. لم يتوقع عدد كبير من المراقبين وصانعي السياسة أن تُسبب العقوبات مشاكل كافية لدفع روسيا إلى الخروج من الصراع خلال أشهر قليلة، لذا يُفترض ألا يكون استمرار الحرب الروسية حتى الآن مفاجئاً. رغم كل شيء، يتابع الاقتصاد الروسي تلقي الضربات، إذ يتباطأ النمو فيه بما يفوق البطء الذي شهده خلال الأزمة المالية في العام 2008، ومن المستبعد أن يتعافى هذا النمو بعد الأزمة. تتكل مستويات المعيشة على الإنفاق الاجتماعي غير القابل للاستمرار، وقد يضطر البلد لاتخاذ قرارات شائكة حول ميزانية الحكومة خلال السنة المقبلة. حتى الآن، أعلن بوتين أمام الروس أنه ينفذ "عملية عسكرية خاصة" ولا يخوض حرباً قد تفرض تضحيات صعبة على الشعب. لكن مع مرور الوقت، من المتوقع أن تتصاعد تكاليف الحرب وآثار العقوبات على الروس العاديين.

بما أن الغرب فرض مجموعة من العقوبات الصارمة على صادرات الغاز والنفط الروسية، وبما أن حظر واردات النفط في الاتحاد الأوروبي لن يسري مفعوله قبل شهر كانون الأول، لم يتغير حجم صادرات النفط الروسية بدرجة كبيرة منذ فرض العقوبات. بدأت هذه العقوبات تجبر روسيا الآن على بيع النفط بسعر مُخفّض بمعدل 20$ تقريباً للبرميل الواحد. لكن تشير أحدث البيانات الشهرية التي نشرتها الحكومة الروسية حول العائدات الضريبية النفطية إلى حصد البلد عائدات من التصدير بقدر ما كان يفعل في شهر كانون الثاني. في المقابل، تراجعت عائدات صادرات الغاز الطبيعي (تُعتبر أقل أهمية بكثير من صادرات النفط بالنسبة إلى روسيا) بعدما منع الكرملين بيعها إلى أوروبا.

لكن على عكس مجال الطاقة في روسيا، تعرضت بقية أجزاء الصناعة الروسية لضربات موجعة. كانـــــت قطاعات السيـارات، والشــــاحنات، والقاطرات، وكابلات الألياف البصـــرية، الأكثر تضــرراً، فقد تراجع مستـوى الإنتاج بأكثر من النصف في كل قطاع منها. وفي قطاعات أقل تعرّضاً للملكية الأجنبية أو سلاسل الإمدادات المعقدة، مثل الأقمشة أو تصنيع المواد الغذائية، لا يزال الإنتاج مستقراً أو ارتفع مستواه في بعض الحالات مقارنةً بالسنة الماضية.

يتعلق أحد أسباب هذا الاضطراب الصناعي بانسحاب الشركات اليابانية والأميركية والأوروبية التي تملك مصانع لها في روسيا. من المنتظر أن يفتح جزء من هذه المصانع أبوابه مجدداً تحت ملكية روسية جديدة، لكن تصعب إدارتها بطريقة مستقلة على الأرجح. كذلك، يجد المصنّعون صعوبة في تأمين المواد اللازمة. أصبح تلقي السلع من الخارج أكثر تعقيداً بكثير اليوم، نظراً إلى صعوبة الوصول إلى المنتجات التي لا تخضع لقيود رسمية أو شحنها أو دفع ثمنها.

تتعلق مسألة أساسية خلال الأشهر المقبلة باحتمال تصاعد هذه الاضطرابات الصناعية أو حلّها. من جهة، احتاجت روسيا حتى الآن إلى سنة ونصف تقريباً لإنشاء شبكات بديلة للدفع والخدمات اللوجستية، ويُفترض أن تسمح هذه الشبكات بوصول نسبة من الواردات الأساسية وغير الخاضعة للعقوبات. ومن جهة أخرى، أعلنت الشركات الروسية التي خضعت للتقييم أنها تتابع الاتكال على قوائم الجرد الراهنة، ما يعني أنها تواجه صعوبة في تأمين المعدات اللازمة حتى الآن. كذلك، تكشف البيانات الشهرية أن الواردات الروسية من السلع والقطع الصناعية تبقى أقل من المستويات التي سجّلها البلد قبل الحرب.

يحمل مصير القطاع الصناعي الروسي أهمية كبرى لأسباب عدة. تُعتبر الصناعة مصدراً أساسياً للوظائف، لا سيما في البلدات الواقعة في جبال الأورال أو سيبيريا، حيث يتّكل الناس على مصنع واحد أو صناعة واحدة. في الماضي، أدى تسريح العمال في تلك المدن إلى اندلاع احتجاجات كبرى، وتصاعد الاضطرابات الاجتماعية، وزعزعة الوضع السياسي. وتكشف أبحاث جديدة أجرتها منظمة بحثية روسية أن نصف بلدات الصناعة الواحدة ستواجه تداعيات مباشرة بسبب العقوبات المستجدة. كذلك، ستجد الحكومة الروسية صعوبة في تأمين الأموال لدعم الصناعات المحاصرة نظراً إلى تراجع ميزانية الحكومة.

زادت صعوبة تقييم الوضع المالي للحكومة الروسية بعدما توقف الكرملين عن نشر التفاصيل حول مستوى الإنفاق، فهو يريد بذلك أن يخفي تكاليف الحرب الحقيقية. في نيسان الماضي، وهو الشهر الأخير الذي نشرت فيه روسيا بيانات مفصّلة، زاد الإنفاق على الدفاع بنسبة 40% في السنة. وبالإضافة إلى زيادة الأجور وتكاليف العمليات لتمويل الهجوم على أوكرانيا، سيحتاج الكرملين أيضاً إلى تخصيص موارد كبرى مستقبلاً لإعادة بناء مخزون واسع من المعدات التي تضررت أو تدمّرت في ساحات المعارك الأوكرانية. من الواضح إذاً أن تكاليف الحرب تتصاعد مع مرور الوقت، وهي لا تؤثر على ميزان مدفوعات الحكومة المركزية فحسب، بل تنعكس أيضاً على الحكومات الإقليمية التي أصبحت مُطالَبة بتشكيل وحدات من المتطوعين.

من المتوقع أن تنتج فورة الإنفاق هذه ضغوطاً تضخمية خلال السنة المقبلة. لم تعد الحكومة تحصد العائدات بقدر ما كانت تفعل سابقاً، وأدى التراجع البسيط في أسعار النفط العالمية منذ شهر حزيران إلى انخفاض عائدات الضرائب النفطية الروسية إلى مستويات طبيعية، مقارنةً بالعائدات المفرطة التي كانت تنتجها في الأشهر الأولى التي تلت الغزو. لكن تراجعت العائدات الضريبية غير النفطية بدرجة كبيرة. بسبب التضخم خلال أول سبعة أشهر من العام 2022، تراجعت العائدات غير النفطية بنسبة 15% تقريباً، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم خلال بقية أشهر السنة.

نتيجةً لذلك، قد تتجه ميزانية روسيا إلى تكبّد عجز كبير في حال استمرار النزعة الراهنة. قد يتغير هذا الوضع خلال الأشهر المقبلة، لا سيما إذا ارتفعت أسعار النفط والعائدات الضريبية معها. لكن من المستبعد أن يختفي الطلب على الإنفاق طالما تستمر الحرب ويتراجع مستوى المعيشة.

إذا توسّع العجز في الميزانية، قد يجد الكرملين نفسه في وضع معقد، فهو بدأ الحرب من دون ديون كبرى، لكن أعاقت العقوبات الغربية قدرته على إصدار سندات جديدة إلى معظم المستثمرين الخارجيين. في هذه الظروف، قد تتراجع قيمة الروبل مقابل الدولار، ما يُسهّل استرجاع توازن الميزانية لأن نفقات الحكومة الروسية لا تحصل إلا بعملة الروبل. لكنّ أي تراجع في الروبل قد يرفع معدل التضخم، تزامناً مع تخفيض مستوى المعيشة وإضعاف خطاب الكرملين حول عدم فعالية العقوبات واستقرار الاقتصاد الروسي.

على مستوى معيّن، يحق للكرملين أن يُصِرّ على فكرة استقرار الاقتصاد الروسي. لا تزال معظم البنوك قادرة على السداد، وتعمل معظم الصناعات بشكلٍ طبيعي، ويتابع قطاع الطاقة ضخ النفط. كذلك، تكثر المواد الغذائية على رفوف المتاجر، مع أن أعداد السيارات الفاخرة بدأت تتراجع. قد يصبح إنتاج السيارات والغسالات أقل من المتوقع، فيضطر المستهلكون لتأجيل المشتريات الكبرى إذا أمكن. تتعلق أفضل السيناريوات بالنسبة إلى الكرملين بنزعة الروس إلى تخفيض نفقاتهم وتدبّر شؤونهم في هذه الفترة.

لكن بدأت تكاليف الحرب والعقوبات المرافقة لها تتراكم، مع أن التداعيات الأولية كانت أقل وطأة من توقعات الغرب أو مخاوف روسيا. حتى الآن، يشعر قادة روسيا بالسرور لأنهم صمدوا رغم العقوبات الغربية القائمة منذ ستة أشهر. لكن ستتابع الصناعة الروسية تعثرها خلال السنة المقبلة، فتجد صعوبة في التكيّف مع عالمٍ يفتقر إلى السلع الغربية المستوردة. ما لم ترتفع أسعار النفط بدرجة كبيرة، ستواجه الحكومة الروسية مقايضات أكثر صعوبة بين الإنفاق الاجتماعي وتحمّل عجز الميزانية والتضخم المتزايد. لن ينهار الاقتصاد الروسي بطريقة تُجبِر الكرملين على إنهاء الحرب. لكن يواجه البلد ركوداً حاداً، وتتراجع فيه مستويات المعيشة بكل وضوح، وتتلاشى الآمال بتعافي الاقتصاد سريعاً.


MISS 3