بدأ الموسيقيون الروس يغادرون البلد الآن، ولم يعد الموسيقيون الغربيون يقصدون روسيا لتقديم عروضهم. في العام 2011، وصل تيودور كرنتزيس، وهو موسيقي شاب ومعروف من اليونان، إلى مدينة "بيرم" الروسية. كان المعقل السيبيري للصناعة العسكرية يحاول إعادة إحياء دار الأوبرا، واعتُبِر كرنتزيس على مستوى التحدي، فحوّل دار الأوبرا في المدينة إلى معقل غير متوقع لصناعة أفضل أنواع الموسيقى. وعندما دفعته الأوساط البيروقراطية المحلية في "بيرم" إلى التنحي من منصبه في العام 2019، تابع تقديم العروض في روسيا، حتى أنه حصل على الجنسية الروسية. لكن أطلق كرنتزيس الآن أوركسترا جديدة من مكان هادئ في برلين من دون إحداث أي ضجة.
كرنتزيس ليس الموسيقي الكلاسيكي المشهور الوحيد الذي تخلى عن المناصب الروسية. في بداية شهر آذار، استقال المدير الموسيقي لمسرح البولشوي، توغان سوخيف، من عمله في المسرح ومن منصبه الإداري في الأوركسترا الوطنية الفرنسية "دو كابيتول دي تولوز"، فقال: "كان عدد كبير من الناس ينتظر أن أعبّر عن نفسي وأن يسمع رأيي حول ما يحصل في الوقت الراهن [حرب أوكرانيا]. لكني أستقيل من هذين المنصبَين معاً لأنني اضطررتُ لمواجهة خيار مستحيل بين الموسيقيين الروس والموسيقيين الفرنسيين الأعزاء على قلبي".
كذلك، ترك فاسيلي بيترينكو، وهو موسيقي روسي مرموق آخر، منصبه كمدير فني في الأوركسترا السيمفونية الأكاديمية التابعة للدولة الروسية وأوقف عروضه في روسيا. وفي "نوفوسيبيرسك"، استقال المدير الفني توماس ساندرلينغ من منصبه أيضاً، وهو ابن الموسيقي الألماني كيرت ساندرلينغ لكنه مولود في العاصمة السيبيرية. أوضح ساندرلينغ ما حصل في بيان له قائلاً: "بعد العدوان الروسي الأخير في أوكرانيا، لا سيما التفجير العنيف للمدن الأوكرانية وتوسّع التوتاليتارية في روسيا، شعرتُ بأنني مضطر للاستقالة من منصب المدير الفني في أوركسترا نوفوسيبيرسك الفيلهارمونية". في غضون ذلك، استبعد مسرح البولشوي للتو المدير الشاب ألكسندر مولوشنيكوف، الذي انتقد الحرب، من إنتاجَين مرتقبَين من نوع الأوبرا.
وحتى نجمة السوبرانو الروسية، آنا نتريبكو، غادرت البلد ولو رغماً عنها، علماً أنها كانت قد تبرعت لصالح دار أوبرا في إقليم "دونيتسك" الذي يسيطر عليه الثوار في العام 2014 وحافظت على تواصلها مع الكرملين سابقاً. أُلغِيت عروض نتريبكو في الغرب بسبب امتناعها عن استنكار غزو أوكرانيا، ثم عادت واستنكرت ما حصل فألغى القيّمون على الحفلات الموسيقية الروسية عروضها. قال منظمو الحفلات في دار أوبرا "نوفوسيبيرسك" بعد إلغاء حفلٍ هناك: "يبدو أن العيش في أوروبا والحصول على فرصة تقديم العروض في القاعات الأوروبية يهمّها أكثر من مصير وطنها".
في الوقت نفسه، غادر عدد كبير من الموسيقيين الآخرين روسيا من دون إعلان قراره، لا سيما الروس الذين لا يريدون المجازفة بتعريض أفراد عائلاتهم المتبقين في روسيا للخطر. ينتقل معظم الفنانين إلى برلين وفيينا. لكنّ خسارة روسيا ليست مكسباً فعلياً لهذه العواصم الموسيقية الأوروبية. يقول مدير فني رائد: "في عالم الموسيقى الكلاسيكية، تُعتبر برلين وفيينا مكتظتَين أصلاً". لا مفر من أن يخسر الجميع في ظل احتدام المنافسة هناك، رغم وجود المستوى نفسه من التمويل والجماهير.
في غضون ذلك، ألغى نجوم العالم إطلالاتهم في روسيا بكل بساطة. في شهر نيسان الماضي، انسحبت مغنية الميزو سوبرانو اللاتفية، إلينا غارانكا، من حفل في سانت بطرسبرغ، وألغى مغني الباس باريتون الألماني الشهير، توماس كواستهوف، حفل جاز في موسكو. تؤكد المواقع الإلكترونية التابعة لدور الأوبرا الفردية أو قاعات الحفلات الروسية أن حضور أي فنانين غربيين أصبح نادراً، وتشمل العروض الروسية في معظمها فنانين من الدرجة الثانية أو الثالثة بشكل عام.
يقول لوري بريستو، سفير بريطانيا في روسيا بين العامين 2016 و2020: "إذا لم يرفع الفنان الروسي صوته ضد الدولة الروسية في الغرب، يعني ذلك أنه يدعمها. لكن إذا لم يعلن هذا الفنان ولاءه للدولة في روسيا، يعني ذلك أنه معارض لها". أسّس بريستو، خلال عمله في موسكو، أوركسترا مهرجان "بريتن شوستاكوفيتش" التي جمعت بين موسيقيين بريطانيين وروس في بداية مسيرتهم الفنية. هو يقول إنه كان يتعامل مع الجواسيس وحالات التسمم، وأراد أن يثبت ما تستطيع العلاقات البريطانية الروسية أن تؤول إليه. لكن علّقت الأوركسترا نشاطاتها الآن.
منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أوقف عدد كبير من قاعات الحفلات الغربية دعوة فِرَق الأوركسترا والأوبرا والباليه لتقديم عروض خاصة، مع أن جزءاً منها تابع النشاطات المتفق عليها سابقاً بموجب العقود لأسباب قانونية. (يستطيع الفنانون الروس أن يقدموا العروض حتى الآن، نظراً إلى صعوبة فسخ عقود الموسيقيين الفرديين لمجرّد أنهم امتنعوا عن معارضة حرب أوكرانيا. لا تشمل العقود المبرمة قبل الغزو أي بنود تجبرهم على معارضة أي حرب محتملة، وهو أمر مبرر). كذلك لا تقصد الفِرَق الغربية، بمختلف مستوياتها، روسيا بعد الآن. يقول قائد أوركسترا مرموق: "لا أظن أن أي فِرَق أوركسترا ستقدم العروض في روسيا مجدداً خلال حياتي".
يتردد جميع المعنيين في التعبير عن مواقفهم بطريقة رسمية نظراً إلى حساسية هذا الموضوع. لقد أصبحت مراعاة الظروف الجيوسياسية تجربة جديدة للموسيقيين الكلاسيكيين بقدر رجال الأعمال، إذ لم يضطر هؤلاء يوماً للتفكير بهذه المواقف على مر ثلاثة عقود.
بعد غزو أوكرانيا في شهر شباط الماضي، أصبحت روسيا معزولة عن العالم بطريقة لم يتوقعها أحد، ولا حتى في ذروة الحرب الباردة. في تلك الحقبة، كانت الموسيقى الكلاسيكية تُعتبر شكلاً أساسياً (وغير مسيّس) من التبادلات بين الكتلتَين المتناحرتين لدرجة أن يُسمَح لها باختراق "الستار الحديدي". يقول رينيه نايبرغ، الذي كان سفير فنلندا في روسيا خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين: "بعد وصول [نيكيتا] خروتشوف إلى السلطة، بذل السوفيات جهوداً هائلة لإثبات تميّزهم الموسيقي ومتابعة التبادلات مع الغرب. تحمّل السوفيات جميع أنواع عُقَد النقص، لكنهم كانوا يعرفون أن موسيقاهم من الطراز العالمي". قدّم فنانون عظماء، من أمثال سفياتوسلاف ريختر، عروضاً متكررة في الغرب. وفي العام 1958، فاز عازف البيانو الأميركي، فان كليبرن، في مسابقة تشايكوفسكي الدولية في عهد الاتحاد السوفياتي.
انطلقت هذه المسابقة لإثبات تفوّق السوفيات في المجال الموسيقي، وشكّلت تتويجاً لنظام تعليم الموسيقى الطموح في البلد. هذا الطموح وضع ريختر وأعضاء آخرين من لجنة التحكيم في موقف صعب حين اعتبروا كليبرن صاحب أفضل أداء، فسألوا الكرملين عما يجب فعله في المرحلة اللاحقة وتلقوا جواباً مفاده أنهم يستطيعون منحه الجائزة الكبرى.
اليوم، أصبح هذا النوع من التميّز الموسيقي والتبادلات مستحيلاً. يقول المدير الفني: "الوضع الراهن أسوأ مما كان عليه في الحقبة السوفياتية. لا يخسر البلد الفنانين بكل بساطة، بل إنه يخسر جميع أشكال التبادلات الموسيقية مع الغرب. اليوم، أصبحت روسيا أشبه بمكان خفي. لا أحد يقصد البلد، ولا شيء يخرج منه". يبدو أن هذه العزلة ستستمر. يقول نايبرغ: "لن يسترجع البلد وضعه الطبيعي. هذا الأمر غير ممكن. الحرب الباردة بقيت "باردة" في الماضي، لكن أطلقت روسيا الآن حرباً ساخنة في أوروبا".
رسمياً، لا تزال الثقافة الموسيقية الكلاسيكية الروسية قائمة، فقد بَنَتها أجيال متلاحقة من الفنانين بشق الأنفس قبل فترة طويلة من حقبة الثورة الروسية. يختار الفنانون تقديم الأعمال المعروفة والنموذجية. في وقتٍ لاحق من هذا الشهر مثلاً، ستقدّم فرقة روسية عرض Messiah (المسيح) للملحن جورج فريدريك هاندل في قاعة "تشايكوفسكي" للحفلات الموسيقية. لكن سيكتفي ساندرلينغ وغيره من كبار الموسيقيين الآن باستعراض مواهبهم في الغرب حصراً.
تُعتبر خسارة واحدة من المجالات القليلة المتبقية لإثبات التميّز الروسي مأساة حقيقية لأنها تنجم عن حربٍ كان يمكن تجنبها بسهولة. كان رحيل ساندرلينغ مؤثراً على نحو خاص، فهو وُلِد في "نوفوسيبيرسك" لأن والده اليهودي اضطر لمغادرة ألمانيا النازية. في المقابل، فضّل كيرت ساندرلينغ في الماضي أن يستعرض مهاراته المدهشة في فِرَق الأوركسترا السوفياتية. كان رئيس مجلس الدوما، ششلكالوف، محقاً حين غنّى في المسرحية الأوبرالية Boris Godunov للملحن موديست موسورغسكي: "الحق أصبح مظلوماً في هذا البلد".