هاورد فرانش

تاريخ العبودية يختصر التاريخ البشري كله

14 أيلول 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الزنزانة المخصصة للرق في قلعة "كيب كوست"
في صباح أحد الأيام من شهر تموز الماضي، نهضتُ باكراً للذهاب إلى مكان يقع على بُعد بضعة أميال، على طول ساحل غينيا، لإلقاء خطاب في واحد من أهم المواقع التاريخية في الحقبة المعاصرة: إنها المحطة التجارية المحصّنة في "ألمينا" التي يسمّيها سكان غانا "القلعة". تشرّفتُ بتلقي دعوة إلى هناك من حكومة البلد لإلقاء كلمة حول كتابي الجديد Born in Blackness: Africa, Africans, and the Making of the Modern World, 1471 to the Second World War (مولود في السواد: أفريقيا، والأفارقة، وصناعة العالم الحديث، من العام 1471 حتى الحرب العالمية الثانية)، لكني لم أكن أعرف نوع الجمهور الذي سيحضر هذه المناسبة لسماع كلامي حول كتاب لم يقرأه الكثيرون بعد في غانا. هل هم غانيون مهتمون بتاريخ العبودية الذي أدّى فيه هذا الجزء من ساحل غرب أفريقيا دوراً بارزاً؟ أم أنهم أعضاء من الشتات الأفريقي الذي حاولت الحكومة الغانية التقرب منه بوتيرة متقطعة طوال سنوات لتشجيعه على التفكير ببلده كمكان للحج ووطن بالتبني؟ أم أنهم سيّاح يصعب اكتشاف أصلهم الدقيق؟ سرعان ما تبيّن أن الجمهور الحاضر في الطابق العلوي من ذلك البناء الذي شيّده البرتغاليون في ثمانينات القرن الخامس عشر للمتاجرة بالذهب يطغى عليه أميركيون من أصل أفريقي في منتصف أعمارهم.

أنا أتكلم عن زيارتي إلى قلعة "ألمينا" بسبب الجدل الذي توسّع حديثاً حول استعمالات هذا الموقع من جانب السيّاح، والمؤرخين، والصحفيين الذين يكتبون عن تجربة العالم مع تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي وتأثيرها على المشاركين فيها (من مستفيدين وضحايا) وعلى المجتمع البشري ككلّ. بدأ هذا الجدل بسبب مقالة كتبها جيمس سويت، خبير في الشؤون الأفريقية في جامعة "ويسكونسن" ورئيس "الرابطة التاريخية الأميركية". نشرت المجلة التي تصدرها الرابطة تلك المقالة في الشهر الماضي بعنوان: "هل أصبح التاريخ منسيّاً؟".

كان سويت موجوداً في غانا خلال هذا الصيف أيضاً، وكانت زيارته إلى قلعة "ألمينا" مشابهة لتجربتي هناك بقيادة دليل سياحي "مدرّب". قال سويت إن ذلك الموقع بدا وكأنه مُصمّم للأميركيين من أصل أفريقي، وقد شاهد تأثيرهم في كل مكان خلال جولته، فكتب: "أصبحت قلعة "ألمينا" الآن أميركية أفريقية بقدر ما هي موقع أثري أو تاريخي خاص بغينيا". لكنه عاد واعترض على ذلك التأثير في المقطع اللاحق فكتب أنه، كمؤرخ متخصص بشؤون أفريقيا والشتات الأفريقي، يشعر بالاستياء من النزعة إلى محو الآثار التاريخية والسياسات الضيقة التي تحملها هذه الأفكار: "وصل أقل من 1% من الأفارقة الذين مرّوا بموقع "ألمينا" إلى أميركا الشمالية. قصد معظمهم البرازيل ومنطقة الكاريبي".

اشتكى سويت لاحقاً من كلام الدليل السياحي الذي زعم أن أسلاف الغانيين المعاصرين أرسلوا "خَدَمهم من دون علمهم" إلى عالم العبودية، لكنه لم يتطرق إلى "الحروب أو عبودية السكان الأصليين". أنا أوافقه الرأي حول أهمية توثيق مواقع الاتجار بالرقيق في غانا بتفاصيل إضافية وتحسين طريقة تدريب كل دليل سياحي، لكن لم تكن تجربتي مشابهة هذا الصيف. تكلم الدليل السياحي الذي أصغيتُ إليه خلال جولتي في ذلك الموقع عن عبودية السكان الأصليين، لكنه قال إن تلك الممارسات لم تكن تشبه شكل العبودية في المزارع الغربية، ثم أضاف أن الطمع بالسلع التجارية الأوروبية دفع قادة المجتمعات المتنافسة إلى القبض على الأفارقة وبيعهم على شكل عبيد إلى أصحاب البشرة البيضاء.

كان سويت يهدف من خلال هذه المقالة إلى انتقاد التركيز المفرط على تفسير الماضي استناداً إلى القيم والمفاهيم المعاصرة في أبحاث زملائه الأكاديميين، ما يعني أن الكثيرين يشعرون بأنهم يستطيعون استعمال السياسات المعاصرة لتقييم أعمال الأفراد والمجتمعات أو إصدار الأحكام عليها انطلاقاً من الماضي البعيد.

أطلق هذا الرأي ردود أفعال فورية وقوية من العلماء الآخرين، ما دفع سويت إلى الاعتذار، ولو بأسلوب مبهم. أُضيفت ملاحظة في أعلى مقالته بعد نشرها، جاء فيها: "أنا أتحمل كامل المسؤولية لأن المقالة لم تُعبّر عن حقيقة أفكاري وعن الأضرار التي سبّبتها".

بالنسبـــــة إلى الأميركيين من أصل أفريقي، تكمن قوة "ألمينا" وقلعة "كيب كوست" المجاورة لها في ندرة المواقع الأثرية التي تستذكر تجربة الاستعباد على مستوى العالم. بدا وكأن سويت يفضّل أن يُركّز الأميركيون من أصل أفريقي على زيارة المواقع التي شهدت على الإتجار بأسلافهم (خارج غانا على الأرجح)، وأن يتّجه البرازيليون السود إلى مواقع الإتجار بأسلافهم، ويقوم سكان هايتي وجامايكا بالمثل.

وصل 12 مليوناً ونصف المليون أفريقي وهم مكبّلون وأحياء إلى "العالم الجديد"، حيث أُجبِروا على السخرة وعملوا في معظم الأوقات حتى الموت لتأمين الثروات للآخرين. كذلك، نزح عدد آخر من الأفارقة (أكثر من 12 مليوناً ونصف بحسب رأيي)، وتدمرت حياتهم أو تراجعت مدتها، في خضم الحرب والفوضى التي أطلقتها هذه الموجات في أنحاء أفريقيا بسبب مشاركة عدد كبير من الأفارقة المحليين أو استغلالهم الوضع. لكن رغم هذه الأرقام المريعة، تبقى المواقع الضخمة التي تسمح بتأمّل هذا النوع من أعمال العنف والفصل والخسارة خلال رحلات الحج قليلة على نحو مفاجئ، وهي تتركز في معظمها داخل غانا بسبب حوادث تاريخية معينة أو من باب الصدفة بكل بساطة.

ما هو الدرس الذي يمكن استخلاصه إذاً؟ هل يجب أن يتدفق الناس إلى المواقع الأثرية التي تتماشى مع خلفية أسلافهم أو هويتهم الوطنية مباشرةً؟ إنه معيار غير منطقي على مستويات كثيرة، لأن جزءاً من أهم المبادئ التأسيسية والتنظيمية لممارسات الاستعباد عبر الأطلسي كان يتعلق بتجميع الأفارقة من أي منشأ في الأماكن التي يتجهون إليها لاستعبادهم هناك. كانت هذه المقاربة تهدف إلى إضعاف احتمال حصول انتفاضة منسّقة، وإجبار العبيد على التخلي سريعاً عن هوياتهم ولغاتهم ودياناتهم الأصلية والرضوخ لأسيادهم الجدد.




قلعة "كيب كوست" في غانا



لكن يجب أن تُعطى الأولوية لترميم أو استكشاف أكبر عدد ممكن من المواقع التاريخية الأصيلة التي تعكس هذه الظاهرة التاريخية العالمية. بالإضافة إلى زيارتي إلى غانا خلال الصيف، زرتُ أيضاً مواقع مهمة تاريخياً، لكن أقل شهرة، عن الاتجار بالرقيق في توغو وبنين. أصبحت استثمارات كبرى قيد التنفيذ في بنين لترميم مواقع أثّرت بقوة على عمليات الاتجار بالبشر في أنحاء الأطلسي، أو إعادة تشكيلها في بعض الحالات. اضطلع الأشخاص الذين وقعوا في شرك العبودية في بنين، داخل ممالك محلية قوية، بدورٍ مؤثر لملء "سانت دومينغ" بالسكان: كان الفرنسيون يسيطرون على هذه المساحة سابقاً في جزيرة هيسبانيولا، ويقال إن هذه المنطقة كانت أغنى مستعمرة في التاريخ بفضل توسّع ظاهرة استغلال الأفارقة لإنتاج السكر، والقهوة، والكاكاو، والقطن هناك.

هل يجب أن يتدفق سكان هايتي وحدهم إلى بنين لاستذكار المعاناة التي عاشها أسلافهم بكل أسى هناك؟ هذا التفكير غير منطقي. اشتقّت ثورة هايتي من حركة التمرد الناجحة الوحيدة للعبيد تاريخياً، وبلغت ذروتها في العام 1804 مع نشوء الجمهورية المستقلة الثانية في نصف الأرض الغربي. لكن لم تقف الأحداث عند ذلك الحد: من خلال هزم جيوش القائد الفرنسي نابليون بونابرت، وإسبانيا الإمبريالية، وبريطانيا، ثم فرنسا مجدداً، شارك الأفارقة الذين اكتسبوا الهوية الهايتية في تحويل الولايات المتحدة إلى القوة القارية التي أصبحت عليها.

حصل ذلك لأن نابليون باع الأراضي الشاسعة في لويزيانا إلى حكومة الرئيس الأميركي توماس جيفرسون لتغطية الخسائر المالية الهائلة التي سبّبتها هزيمته. هذه العملية لم تضاعف حجم الولايات المتحدة بين ليلة وضحاها فحسب، بل إنها فتحت وادي المسيسيبي أمام الزراعة على أوسع نطاق، وأطلقت ثاني أكبر موجة هجرة لأحفاد أفارقة تم الإتجار بهم على سواحل القارة. كان نتاج السخرة التي تعرّضوا لها هناك (القطن) كفيلاً بتأمين الألياف التي سهّلت بدء الثورة الصناعية في بريطانيا وأصبحت عاملاً محورياً في التقدم الاقتصادي السريع الذي أحرزته الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر.

في النهاية تبقى المواقع التاريخية مثل قلعة "ألمينا"، سواء كانت تقع في غانا أم بنين أم السنغال، أم تلك التي تنتظر من يرمّمها أو يوثّقها في أجزاء أخرى من القارة، بدءاً من جمهورية الكونغو الديمقراطية وصولاً إلى نيجيريا، معالم أثرية مهمة للبشرية كلّها. سواء شارك أسلافنا في تنظيم عمليات الاتجار بالعبيد أم كانوا من بين الذين تعرّضوا للاستعباد، يُعتبر تاريخهم تجسيداً لتاريخنا جميعاً. يستحق هذا النوع من المواقع أن يقدّره الزوّار من جميع أصقاع العالم ويفهموا تفاصيله ويستذكروا أحداثه. بطريقة أو بأخرى، من الواضح أن التاريخ القاتم الذي تطوّر على مرّ الزمن في هذا الجزء من العالم هو الذي صنع البشر اليوم في كلّ مكان.


MISS 3