يوسف مرتضى

40 سنة على 16 أيلول 1982 كما عرفته وكما عشت بعض فصوله

17 أيلول 2022

02 : 00

اجتياح بيروت 1982

في منتصف شهر تموز من العام 1982 على ما أذكر، وكان قد مضى حوالى 40 يوماً على بداية اجتياح قوات العدو الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران، وكانت بيروت وضاحيتها الجنوبية عرضة لقصف عنيف من البحر والجو والبر، في ذلك الوقت، عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني بدعوة من الأمين العام جورج حاوي اجتماعاً حضره من تمكّن من الوصول من أعضائها في تلك الظروف الصعبة.

عقد الاجتماع في الطابق الخامس تحت الأرض في مبنى سينما «سارولا» في الحمرا، في هذا الاجتماع أطلق جورج حاوي مبادرته بضرورة تحويل تنظيم الحزب مجموعات سرّية والبدء بالمقاومة خلف خطوط العدو، وحثّ الأحزاب والقوى الوطنية الأخرى على المشاركة ضمن تسمية موحدة، اتفق لاحقاً على أن تكون جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. وفي حيثيات هذا القرار للجنة المركزية، «المقاومة الوطنية»، هو استباق لأي محاولة من البعض في الداخل والخارج لإعطاء المقاومة صبغة فئوية أو دينية تفقدها مضمونها الوطني التحرري.

في ذلك الوقت كنت عضواً في اللجنة المركزية للحزب وسكرتيراً لمحافظة ساحل المتن الجنوبي، ومن هذا الموقع توليت مهمة نائب قائد القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية التي رئسها العميد عارف خطاب من منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت مولجة إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان بالمحور الممتد من خلدة جنوب - غرب إلى غاليري سمعان، شمال - شرق والأوزاعي، شمال غرب. عدت من اجتماع اللجنة المركزية في ذلك الوقت وأعددت مع مكتب لجنة المحافظة الخريطة التنظيمية للمرحلة المقبلة في مقاومة العدو. توزع العدد الأكبر من أعضاء المنظمة الحزبية إلى مجموعات صغيرة بين ثلاثة إلى خمسة أعضاء، على أن يكون التواصل في ما بينها عمودياً، والتنفيذ يبدأ فور البدء بتنفيذ إتفاق فيليب حبيب، وأن تبقى مجموعاتنا على جهوزيتها في مواقعها على المحاور للتصدي لأي محاولة من قوات العدو وحلفائه لاختراقها.

بعد يومين أو ثلاثة من توقيع اتفاق فيليب حبيب الذي أفضى إلى وقف القتال وخروج منظمة التحرير ومقاتليها من بيروت، وبينما كنت في مكتب الحزب في الضاحية الجنوبية، وصلتني برقية من الرفيق جورج حاوي يستدعيني فيها للحضور إلى مكتب الحزب في الزيدانية. وفي ليل ذاك اليوم ذهبت إلى الزيدانية برفقة الرفيقين سليم نورا ودياب اللهيب، كانت الطرقات مهشمة ومليئة بالحفر والجمر المتولد من الحرائق التي أحدثتها قدائف العدو الإسرائيلي في الطرقات على خط قصقص - البربير. التقيت الرفيقين جورج حاوي والياس عطالله، سألني الرفيق جورج عما أعددناه للتنظيم السري، بعدما شرحت له خريطتنا التتظيمية والإدارية وصيغة شبكة المراسلين الوسطاء بين المجموعات، أثنى علينا، وقال لي: سيتولى الرفيق الياس مهمة متابعة المقاومة وأنت ستكون على تواصل معه عبر المراسلة الشخصية ف.ح، ومهما حصل معكم وهكذا يجب أن تبلّغ الرفيقات والرفاق عند الاعتقال بأن يرموا كامل المسؤولية علي شخصياً. بعد نقاش امتد لساعتين تقريباً وضعنا خلاله العناوين الأساسية لخطة عملنا، غادرت الزيدانية عائداً إلى الضاحية، وقمت مع الرفاق في قيادة المنطقة بتنفيذ خطة التنظيم السري، حددت لنفسي مركزين سريين، واحداً في الضاحية في منزل صديق عزيز لم تكن توجد حوله أية شبهات سياسية في تلك المرحلة، وآخر في وطى المصيطبة في بيروت، منزل شقيق زوجتي الضابط في الجيش اللبناني.




جورج حاوي




في فجر السادس عشر من أيلول دخلت قوات إسرائيلية وقوات عميلة إلى مخيمي صبرا وشاتيلا من جهة بئر حسن ومستشفى عكا، وحاول البعض منها التقدم باتجاه طريق المطار القديمة في مقابل مستشفى الساحل وهم يطلبون من المواطنين عبر مكبرات الصوت رفع الأعلام البيض على منازلهم، تصدت لهم مجموعة من الحزب الشيوعي بقيادة رضوان شريم ومجموعات أخرى من حركة «أمل» ومسلحون من أبناء المنطقة وأمطروا آليات العدو المتقدمة بوابل من قدائف الـ»ب7» وقدائف البنادق الرشاشة وأوقعوا بينهم العديد من الإصابات ومنعوهم من التقدم. في ذاك اليوم أطلق الرفيقان جورج حاوي ومحسن إبراهيم بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الشهير، الذي نقله الرفيق مصطفى أحمد إلى جريدة «النداء» لتوزيعه على الصحف ووسائل الإعلام العاملة في تلك الأثناء. وفي21 أيلول نفذت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية العملية الأولى عند صيدلية بسترس التي استشهد فيها الرفاق جورج قصابلي ومحمد مغنية وقاسم الحجيري وقضى مؤخراً بعد معاناة مع المرض شريكهم في تلك العملية الرفيق مازن عبود. وكرت سبحة العمليات في بيروت حتى ليل 27 أيلول حيث خرجت قوات الاحتلال من العاصمة بعدما تكبدت خسائر كبيرة وهي تذيع عبر مكبرات الصوت: يا أهل بيروت، أوقفوا إطلاق النار، فنحن سننسحب صباحًا!

في الثامن من تشرين الأول علمنا أن جولة من المفاوضات ستعقد بين الرئيس أمين الجميل وأوري لوبراني من جانب الإسرائيليين تحضيراً لاتفاق تعاون بين لبنان وإسرائيل عرف لاحقاً باتفاق 17 أيار. وفي العاشر منه وبعدما كنت قد تلقيت إشارة من الجهة الأعلى بضرورة توجيه ضربة لذاك الاجتماع، قمت بدوري بالتواصل مع مسؤول إحدى المجموعات وزودته عبر المراسلة ف.خ بالمعلومات الضرورية عن العملية وكيفية التزود بالسلاح اللازم لتوجيه ضربة إلى «ليبانون بيتش» أثناء انعقاد جلسة المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية الساعة الخامسة بعد الظهر.

في ذاك اليوم أعتقد أنه كان يوم خميس، حضرت والدتي مع شقيقي من البقاع إلى بيروت، وكان قد مر عام تخللته فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان لم ألتق بوالدتي، وهي مشغولة البال علي، طلبت من زوجتي بإلحاح وأصرت عليها ضرورة إبلاغي باللقاء بها. جاءت زوجتي برفقة أخي الرقيب في الجيش اللبناني واصطحباني من مركزي السري في وطى المصيطبة في بيروت الغربية إلى منزلي في شارع حاطوم في حارة حريك حيث كانت والدتي بانتظاري. وما إن وصلنا، ودخلنا المبنى وصعدنا إلى شقتي في الطابق الثالث، وبينما والدتي تأخذني بأحضانها، إذ بقوة من الجيش اللبناني الذي كان يقوده إبراهيم طنوس، تطوق المبنى ويدخل ضابط مع عدة جنود يأمر باعتقالي واقتيادي إلى مدير مخابرات الجيش اللبناني في بيروت جورجي وهبي، قائد المخابرات كان في حينها جوني عبدو، بعد معاندة ومشادة تخللها تهديد زوجتي بوضع المسدس في رأسها من قبل الضابط قائد الوحدة، أذعنت للأمر، وما ان خرجنا من الباب حتى نزعوا عني قميصي وأغمضوا به عيوني. ومنذ تلك اللحظة دخلت في رحلة من الإعتقال والتعذيب الرهيب أمتدت لقرابة ثلاثة أشهر. هذه قصة تروى بذاتها في مناسبة أخرى حيث لا يتسع لها المقال.

خرجت من الاعتقال وكانت قيادة المقاومة في الحزب قد اتخذت جميع التدابير لحماية تنظيم المقاومة الذي كنت مسؤولاً عنه. وبعد تحرري من الإعتقال علمت أن العملية التي كانت مقررة لم تحصل، بينما أنا اعتقلت في ذات التوقيت الذي كان يجب أن تحصل فيه العملية. لا يزال هذا الموضوع لغزاً بالنسبة لي، رغم مراجعتي قيادة الحزب بالأمر أكثر من مرة، ثم للأسف تآكلت الخبرية مع مرور الزمن. اهتمت قيادة الحزب بحمايتي من الملاحقة، وحماية جهاز المقاومة، فقررت تغيير مهماتي، فانتقلت إلى العمل في قطاع العلاقات الخارجية ومنظمات الحزب في الخارج، حيث عملت أيضاً مراسلاً لجريدة «النداء» في الاتحاد السوفياتي وكان مقري في موسكو. وهكذا انقطع نشاطي المباشر في جبهة المقاومة التي بفضل تضحيات مناضليها تمكنت حتى العام 1987 من تحرير المساحة الأكبر من الأراضي اللبنانية ودحرت قوات العدو إلى داخل ما كان يسمى الشريط الحدودي.

بعد ذلك، في العام 1988 اتخذت السلطات السورية قرارها بالتضييق على جبهة المقاومة الوطنية ووقف عملياتها وأطلقت يد المقاومة الإسلامية. وبينما نسمع في كل خطاب لأي مسؤول في «حزب الله»، تربيحاً للجميل للبنانيين، أنه لولاهم ولولا تضحياتهم، لما كنا نعيش، ويستخدمون ما قاموا به من مقاومة في الشريط الحدودي، ليطبقوا معادلة من حرر الأرض يحكمها، متجاهلين أن التحرير هو انجاز ساهم به جميع اللبنانيين وليس فقط من حمل البندقية، كما يتجاهلون أن أحزاب جبهة المقاومة الوطنية وفي مقدمهم الحزب الشيوعي اللبناني الذين كان لهم الفضل في تحرير المساحة الأكبر من الارضي اللبنانية المحتلة لم يطالبوا يوماً بمكافأة أو تعويض لإنجازاتهم تلك، لأن ما قاموا به ليس سوى تجسيد لقناعاتهم بحرية وطنهم وسيادته واستقلاله.

التاريخ إن حكى؟؟ وسوف لن نتأخر في تقليب صفحاته تباعاً في المستقبل. المجد والخلود لشهداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ولجميع الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن سيادة لبنان واستقلاله، والف تحية للجرحى والمصابين ولجميع المناضلين الذين كان لهم شرف النضال من أجل تحرير الأرض والإنسان في لبنان.


MISS 3