ألكسي كوفاليف

بعد الهزائم في أوكرانيا... معارضة جديدة في وجه بوتين

19 أيلول 2022

المصدر: meduza

02 : 00

مناصرة لبوتين
بدأت حركة احتجاجية جديدة تتشكّل في روسيا، لكنها ليست داعمة للديمقراطية ولا معارِضة للحرب، بل إنها تتألف من أكثر مناصري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطرفاً. ثارت حفيظة هذا المعسكر بسبب الكارثة العسكرية المستمرة خلال الحرب الروسية القائمة منذ ستة أشهر في أوكرانيا. يطالب أعضاء هذا الفريق بوتين بتصعيد الحرب، واستعمال المزيد من الأسلحة المدمّرة، واستهداف المدنيين الأوكرانيين بوحشية متزايدة. حتى أنهم هاجموا الجيش الروسي والقيادة السياسية علناً، على اعتبار أن هذه الجهات هي التي تكبح القوة الروسية الشاملة، لكن نادراً ما يذكر هؤلاء بوتين بالاسم.

تحمل هذه النزعة إلى تأييد تصعيد الحرب، بما في ذلك توسّع المطالب باستخدام الأسلحة النووية، جانباً خطيراً على نحو خاص. لكن من خلال تسويق فكرة وهمية مفادها أن الجيش الروسي "القوي" يتعرّض للهزيمة بسبب أعداء محليين، لا بسبب الجنود الأوكرانيين الذين يتفوقون في القتال على أراضيهم بفضل تكتيكاتهم المعاصرة والأسلحة الغربية، قد تنعكس هذه الحركة المستجدة سلباً على ظروف ما بعد الحرب، أو حتى الوضع الروسي بعد رحيل بوتين.

يصعب التعبير عن حجم الكراهية والازدراء في المنشورات التي يكتبها هذا المعسكر المتطرف في المدوّنات. هم يصفون الأوكرانيين بالمحتلين غير الشرعيين لأراضي الإمبراطورية الروسية، أو أتباع الهمجيين النازيين الذين يحكمون كييف، ويدعون إلى تدمير مدنهم و"إرجاعها إلى العصر الحجري". حتى أنهم يعتبرون المجازر المرتكبة ضد المدنيين أشبه "بذبح الخنازير". فيما يستعمل هؤلاء الروس صفة "النازيين" لوصف الأوكرانيين، تحمل آراؤهم معاني الإبادة الجماعية التي تشبه أسوأ جرائم القرن العشرين، حتى أنها تتخذ طابعاً فاشياً أو نازياً جديداً في بعض الحالات.

معظم أصحـــاب المدونات مجهولون في الغرب، باستثناء دائرة صغيرة ومتخصصة من مراقبي الشؤون الروسية، وقد لفت عدد منهم أنظار الصحافة الدولية. وبما أنهم يتكلمون في معظم الأوقات عن الإخفاقات الروسية العسكرية على أمل تشجيع الكرملين على تصعيد معاركه، أصبح بعضهم مصدراً مهماً للأخبار مباشرةً من جبهة القتال. حتى كتابة هذه السطور، تعجّ حسابات خبراء الحرب الغربيين على تويتر بخرائط مفصّلة نشرها الروس الداعمون للحرب، وهي توثّق الهزيمة المستمرة في المواقع الروسية في منطقة "خاركيف" في الوقت الحقيقي. في المقابل، تكون المصادر الأوكرانية متأخرة في بياناتها، فهي تحاول بهذه الطريقة أن تحافظ على سرية العمليات.

كذلك، تختلف مواقف أصحاب المدونات الذين يطلقون هجومهم اللاذع، عبر "تلغرام" و"يوتيوب" بشكلٍ أساسي، عن القنوات الروسية المملوكة للدولة، فهي تحتفل بانتصار وهمي من دون تقديم أي محتوى لتبرير موقفها. يُعتبر إيغور غيركين، المعروف بلقب "ستريلكوف"، الأشهر بين هذه الأسماء. هو ضابط متقاعد من جهاز الأمن الفدرالي الروسي ومتخصص بإعادة تمثيل مشاهد الحرب الأهلية الروسية، وقد اعترف بكل فخر بأنه "أشعل فتيل حرب دونباس" في العام 2014، حين قاد مجموعة من الروس المسلّحين نحو الحدود الأوكرانية، واستولى على مدينة "سلوفيانسك"، واحتفظ بها طوال ستة أسابيع تقريباً.

على جميع المستويات، يُعتبر ستريلكوف متطرفاً عنيفاً، حتى أنه قد يكون مجرم حرب لأنه نفّذ جرائم قتل غير شرعية في إقليم "دونباس" المحتل في العام 2014. لكن بدأت الصحافة الغربية تقتبس أخباره باعتباره ناقداً لاستراتيجية الحرب التي يطبّقها بوتين منذ شهر نيسان، حين أعلن صراحةً أن انسحاب روسيا من ضواحي كييف وأجزاء من شمال شرق أوكرانيا جعل الهزيمة الروسية حتمية. استعمل ستريلكوف قناته على "تلغرام" (فيها 500 ألف متابع) وبثّه المباشر على شبكة "فكونتاكتي" الروسية لنعت وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بعبارة "الجنرال الهش"، ووصف نائب مجلس الأمن الروسي ديمتري مدفيديف بعبارة "الأحمق المتلعثم". هو يعتبر غياب التعبئة العسكرية في الأرياف شكلاً فادحاً من الرقابة الجنائية. لكنه تجنّب بكل وضوح انتقاد بوتين مباشرةً، لا بداعي الاحترام لشخصه، بل "بانتظار انتهاء الحرب" كمــا ألمح في منشـــور حديث له. لم تحصل محاولات مباشرة لإسكاته لهذا السبب على الأرجح.

تكمـــن المفارقة في تحوّل عدد من أقل الأشخاص قبولاً في روسيا إلى أشرس النقاد لاستراتيجية الكرملين اليوم، ولو أن الأسباب التي تبرر هجومهم خاطئة. إيغور مانغوشيف هو واحد منهم: إنه مدير "وكالة أبحاث الإنترنت" التي تدير مجموعة من الجيوش الإلكترونية في "سانت بطرسبرغ"، روسيا، وكانت مسؤولة عن حملات التضليل وعمليات التدخل في الانتخابات الغربية. مانغوشيف هو واحد من أشرس داعمي الإبادة الجماعية في الحرب الروسية في أوكرانيا، وقد قدّم في الفترة الأخيرة عرضاً مريعاً في أحد نوادي موسكو، فاستعرض جمجمة بشرية يزعم أنه أخذها من جندي أوكراني تعرّض للقتل خلال حصار "ماريوبول" الدموي. في السياق نفسه، ينشر مانغوشيف في قناته على "تلغرام" مواقف من النوع التالي: "سنحرق منازلكم، ونقتل عائلاتكم، ونأخذ أولادكم ونربّيهم وكأنهم روس". هو يزعم أيضاً أنه لعب دوراً في اختراع الحرف "Z" وتحويله إلى رمز للغزو الروسي. لكن يحمل مانغوشيف بغضاً شديداً تجاه كبار الضباط العسكريين وصانعي القرار الروس في الكرملين، وهو يهاجمهم طوال الوقت بسبب ترددهم وسباتهم البيروقراطي الذي يعتبره أكبر عائق أمام جهود الحرب.

يحمل يفغيني راسكازوف المستوى نفسه من الأحقاد. هو معروف باسم "توباز"، وينتمي إلى وحدة المرتزقة اليمينية المتطرفة "روسيتش" (لها صلة بمجموعة "فاغنر"). في 20 نيسان الماضي، نشر راسكازوف ما بدا أنه احتفال بعيد ميلاد أدولف هتلر من دون تسمية الزعيم النازي السابق مباشرةً. وبعدما خسر الروس مدينة "بالاكليا" في شرق منطقة "خاركيف"، خلال الهجوم الأوكراني المفاجئ في الأسبوع الماضي، سخر راسكازوف من وزارة الدفاع الروسية حين حاولت تصوير الهزيمة وكأنها "خدعة تكتيكية". وفي مناجاة فردية، عدّد راسكازوف جميع العوامل التي تفتقر إليها آلية الحرب الروسية من وجهة نظره: الاعتراف بوقوع هزيمة محلية بكل صدق، ووزارة دفاع تخضع لإصلاحات شاملة، وقادة أكثر براعة، وجيش مرن يتمتع بقدرة أعلى على تنسيق عملياته بين مختلف فروعه.

في محاولة لتفسير الوضع البائس الذي يواجهه الجيش الروسي في أوكرانيا، بدأ المعسكر الداعم للحرب يطوّر فكرة وهمية عن "التعرّض للغدر"، بما يشبه النسخة التي استعملتها ألمانيا بين الحربَين العالميتَين. سبق وارتفعت الأصوات التي تتّهم كبار القادة الروس صراحةً بدرجة فاضحة من قلة الكفاءة وتطالب بطردهم، بما في ذلك الناقد المتطرف والمحلل على شبكة "آر تي"، إيغور خولموغوروف. لقد أصبح غضب هذه الحركة من "النُخَب" الخائنة واضحاً (لا أحد يسمّي المستهدَفين مباشرةً، لكن يحمل الجميع حقداً كبيراً تجاههم). حتى أن البلد يشهد على ظهور ثقافة فرعية ناشئة على صلة بهذه الحركة، مع أنها لا تزال هامشية. تُعتبر أغنية "فرقة المحاربين القدامى" للمغني بافيل بلامينيف نسخة روك معاصرة من أغنية ألمانية من فترة العشرينات كانت تحمل عنوان "نحن رفاق القوات السوداء" وأصبحت في مرحلة معينة النشيد الرسمي للنازيين. في النسخة التي يقدّمها بلامينيف، يعود محارب روسي في إقليم "دونباس" من الحرب وهو مليء بمشاعر الغضب، ويدعو جميع رفاقه الجنود إلى حرق قصور الأثرياء وتبادل زوجاتهم بين اللصوص. وفي إشارة مقلقة للكرملين، بدأت المعارضة الجديدة والمؤيدة للحرب تلجأ إلى الرسائل الغاضبة التي تدعو إلى مكافحة الفساد وكانت قد أجّجت الحركة التي قادها المعارض الروسي المسجون اليوم، ألكسي نافالني.

بغض النظر عن إقدام الكرملين على إطلاق حملة قمعية الآن أو امتناعه عن هذه الخطوة، لا مفر من أن تتطور الخطابات السامة التي تلقيها الحركة الناشئة، لا سيما إذا خسرت روسيا الحرب، علماً أن هذه الخسارة تبدو شبه حتمية في الوقت الراهن. بعدما يتّضح الشرخ الكبير بين الحملة الدعائية الرسمية التي تشيد بـ"العملية الخاصة" البسيطة والناجحة من جهة، والهزيمة الساحقة على أرض الواقع من جهة أخرى، من الطبيعي أن يبحث جزء كبير من الروس عن جهة للومها على هذا الوضع. تحمل التجربة الألمانية أهمية كبرى في هذا المجال، فقد كان خليط الهزيمة، والذل القومي، والانهيار الاقتصادي، بمثابة أرض خصبة للحركات اليمينية المتطرفة التي لامت الأعداء المحليين، واغتالت السياسيين الليبراليين، وأجّجت مشاعر الكره المعادية للسامية، وأقسمت على أخذ انتقامها من قوات الحلفاء التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى. إنه الخليط السام الذي استغله هتلر للوصول إلى السلطة.

ستكون هزيمة روسيا الحتمية، وضائقتها الاقتصادية الحادة، وخسارتها لمكانتها كقوة عظمى بسبب بلدٍ لا يعترف به الكرملين، أفضل بيئة حاضنة للمتطرفين. من المتوقع أن تتوسّع تداعيات هذا الوضع إذا سقط نظام بوتين ونشأ صراع على المسار المستقبلي لروسيا. وإذا أصبح القوميون المؤيدون للحرب المعسكر المعارِض الوحيد في روسيا، قد يسير العالم أجمــع في اتجــاه قاتم وخطير.