مراسم وداعيّة مهيبة لآخر "عمالقة" القرن العشرين

التاريخ "يحتضن" إليزابيث الثانية

02 : 00

خلال رحلة نعش إليزابيث الثانية إلى قصر ويندسور أمس (أ ف ب)

بمراسم ملكية مهيبة تمزج بين عراقة تاريخ المملكة المتحدة وحضارتها وتقاليدها وبين مكانتها اليوم كدولة متقدّمة ومؤثرة في العلاقات الدولية، ودّع البريطانيون والعالم أجمع الملكة الراحلة إليزابيث الثانية الشاهدة على أحداث القرن العشرين التي غيّرت مجرى التاريخ البشري، والمعاصرة خلال سني حكمها الـ70 لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى "الحرب الباردة" وانهيار الاتحاد السوفياتي مروراً بـ"الثورة التكنولوجية" العالمية وصولاً إلى "بريكست" والحرب الروسية ضدّ أوكرانيا... وبرحيلها تنتهي حقبة كاملة لتطوي معها فصلاً من فصول التاريخ الذي احتضنها برحابة وأجلسها حول "مائدة العمالقة" المحفور اسمهم في "سجل الخالدين".


وباتت إليزابيث الثانية ترقد في مثواها الأخير في مدفن كنيسة سانت جورج في قصر ويندسور، بجوار ذويها وشقيقتها مارغريت وزوجها الأمير فيليب، بعد وداع شعبي استثنائي مليء بالعواطف تكريماً لذكرى ملكة حظيت بشعبية تخطّت حدود المملكة المتحدة وحتّى ممالك الكومنولث. وبعد مراسم أخيرة في ويندسور بمشاركة 800 شخص، ووريت الملكة مساء أمس في مراسم عائلية مغلقة في المدافن الملكية.


وقبيل ذلك كسر كبير أمناء البلاط عصاه ليضعها على النعش، في خطوة رمزية للدلالة على انتهاء عهدها، لتغيب بعدها إليزابيث الثانية عن الأعين إلى الأبد، هي التي لطالما اعتلت الابتسامة وجهها وتحلّت بالهدوء لتُصبح أيقونة المملكة بعدما اعتلت العرش لمدّة 70 عاماً و7 أشهر ويومَين.


وانتهت الرحلة الأخيرة للملكة التي توفيت في الثامن من أيلول عن 96 عاماً في بالمورال، مقر إقامتها في اسكتلندا. وقد عبر نعشها أراضي المملكة بالسيارة وبطائرة تابعة لسلاح الجو الملكي وبعربة يجرّها بحارة، وأيضاً أحصنة خلال مسيرة راجلة طويلة.


في إدنبره ومن ثمّ لندن، انتظر مئات آلاف الأشخاص ساعات طويلة، وأحياناً طوال الليل، لإلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة وهي الوحيدة التي يعرفها غالبية البريطانيين، إذ تحمل عملتهم صورتها وكذلك الطوابع، كما يعرفها العالم أجمع.


وعلى غرار الأيام الإثني عشر التي تلت رحيلها، طغت على اليوم الأخير العاطفة الشعبية التي امتزجت بأبهة التقاليد الملكية البريطانية، علماً أن الجنازة مخطّط لها منذ عقدَين. ودخل نعش إليزابيث الثانية إلى كاتدرائية ويستمنستر بعدما نقل على أنغام مزامير القربى وقرع الطبول عزفها عناصر من البحرية الملكية من قصر ويستمنستر حيث كان مسجّى منذ 5 أيام.


وحمل النعش الملفوف بالراية الملكية والذي يعلوه تاج الإمبراطورية، ثمانية عناصر من الحرس الملكي ووضع على عربة مدفع في مسيرة إلى كاتدرائية ويستمنستر. ووصل النعش في مسيرة ومشى وراءه نجلها الملك تشارلز البالغ 73 عاماً وأبناء الملكة الآخرون آن وآندرو وإدوارد ووريث العرش وليام، الذي بات أمير ويلز، والأمير هاري باللباس المدني نظراً إلى انسحابه من نشاطات العائلة الملكية في 2020.


وانضمّت إليهم داخل الكاتدرائية قرينة الملك كاميلا وزوجة وليام أميرة ويلز كايت، وميغن زوجة الأمير هاري. وقد مشى الأمير جورج والأميرة شارلوت، طفلا الأمير وليام، وراء نعش الملكة لدى دخوله الكاتدرائية. وقال أسقف كانتربري جاستن ويلبي، الزعيم الروحي للكنيسة الأنغليكانية التي كانت الملكة على رأسها: "في خطاب شهير ألقته عندما كانت تبلغ 21 عاماً، أعلنت صاحبة الجلال الراحلة أن حياتها مكرّسة تماماً لخدمة الأمة والكومنولث".


وتابع ويلبي: "نادراً ما تم الوفاء بتعهّد على هذا النحو الجيّد"، مشيداً بملكة "مرحة" و"حاضرة من أجل الجميع" و"لها تأثير على حياة كثر". وانتهت المراسم على وقع نشيد الموت "لاست بوست"، الذي يعزف لتكريم الجنود الذين سقطوا في المعارك، وبدقيقتَي صمت في كلّ أرجاء البلاد ومن ثمّ النشيد الوطني الجديد "غود سايف ذي كينغ" (ليحفظ الرب الملك).


ونُقل جثمانها عبر شوارع لندن بمشاركة 6000 جندي وبمواكبة الحرس الملكي بالزي الأحمر وخوذ الفرو السوداء. واحتشد عشرات الآلاف على طول المسار المؤدّي إلى القصر لوداع الملكة الراحلة بالورود والتصفيق والدموع. ووصل إلى كنيسة سانت جورج عبر ممر "لونغ ووك" الرائع المؤدّي إلى قصر ويندسور.


وبعد زيارات منهكة استمرّت 12 يوماً في الأقاليم الأربعة التي تتشكّل منها المملكة المتحدة، وتخلّلها الاختلاط بالجموع، يُضاف إليها الحزن الناجم عن فقدان والدته، يبدأ تشارلز الثالث البالغ 73 عاماً عهده فعلاً. وكان البعض يحلم بعملية انتقالية سريعة مع أمير ويلز الجديد نجله وليام البالغ 40 عاماً. لكن تشارلز الثالث وعد على غرار والدته، بخدمة أبناء المملكة المتحدة طوال حياته.


وارتفعت شعبيّة تشارلز الثالث بشكل كبير وباتت عند مستوى 70 في المئة، على ما أظهر استطلاع جديد للرأي أعدّه معهد "يوغوف"، فيما حصل وليام على 80 في المئة. إلّا أن التحدّيات الكثيرة لا تزال في بداياتها. وتعود الحياة إلى طبيعتها في المملكة المتحدة اليوم، حيث يتوقع أن تعود لتحتلّ أزمة غلاء المعيشة والإضرابات صدارة الصحف صباح الأربعاء.