عملاء بوتين في أوروبا... كيف يطارد العملاء الروس خصوم الكرملين؟

11 : 28

يبدو أن "فرقة موت" روسية تقتل أعداء موسكو في الغرب بهدف زعزعة استقرار أوروبا. ويبدو أن المعتدين المرتبطين بالحكومة الروسية مسؤولون عن قتل مواطن جورجي في برلين. في صيف العام 2013، ركب قاتل في موسكو دراجة هوائية واتجه نحو ضحيته. شاهده رجل الأعمال الروسي ألبرت نازرانوف، ثم دار شجار قصير في المرحلة اللاحقة. أطلق القاتل النار على الرجل في رأسه وأعلى جسمه من مسافة قريبة. ثم ركب دراجته وابتعد عن المكان. يمكن رؤية هذا المشهد كله عبر كاميرات المراقبة المستعملة لحل الجريمة.

في صيف العام 2019، ركب قاتل دراجة هوائية أيضاً واتجه نحو ضحيته، لكن وقعت الحادثة هذه المرة في برلين. فأطلق النار على سليم خان خانغوشفيلي من جورجيا، وأصابه في رأسه وأعلى جسمه من مسافة قريبة قبل أن يرحل. هكذا وصف الشهود الحادثة.

ذكر تقرير من إعداد "دير شبيغل" و"بيلينغ كات" و"ذي إنسايدر" و"دوسييه سنتر" أن جريمتَي القتل لم تكونا متشابهتَين فحسب، بل إن القاتل نفسه نفذهما على الأرجح. وفق مقارنات الطب الشرعي، تكشف الصور نقاط تشابه واضحة. الرجل الذي حمل جواز سفر عليه اسم فاديم سوكولوف في برلين هو الروسي فاديم كراسيكوف المشتبه بتورطه في جرائم في موسكو أيضاً.تريد الحكومة في برلين أن تنتظر تقدم التحقيقات قبل أن تفكر بفرض عقوبات إضافية على موسكو. يشعر المسؤولون في دار المستشارية الألمانية حتى الآن بالقلق من مقارنة تداعيات مقتل خانغوشفيلي على السياسة الخارجية بقضية الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال.

لكن تبدو الأدلة الظرفية قوية وتشير معطيات كثيرة إلى مقتل المواطن الجورجي خانغوشفيلي لأسباب سياسية، مع أن روسيا أنكرت جميع الاتهامات كما حصل في الماضي.خلال فترة معينة في ألمانيا، اعتُبِر خانغوشفيلي تهديداً إسلامياً محتملاً، وتوقّع البعض إيجاد أدلة وافية حول مقتله في هذا الإطار بالذات.


لكن كشفت التحقيقات بعد فترة قصيرة مؤشرات مفادها أن روسيا كانت تعتبره عدواً للدولة. ينحدر خانغوشفيلي من وادي "بانكيسي" في جورجيا. وحين اندلعت حرب الشيشان الثانية في العام 1999، قرر عدد كبير من الشبان هناك الانضمام إلى القتال. شارك خانغوشفيلي بدوره وأصبح قائداً ومقرباً من الزعيم الانفصالي الشيشاني أصلان مسخادوف الذي قُتِل على يد الجهاز السري الروسي في العام 2005.بدءاً من شهر تشرين الأول الماضي، أصبحت صحيفة "نيويورك تايمز" أول وسيلة إعلامية تنشر تقارير عن اقتناع أجهزة المخابرات الغربية بمسؤولية وحدة سرية تحمل الرقم 29155 عن سلسلة الأعمال التخريبية والإجرامية في أوروبا. برزت أدلة على نشوء هذه الجماعة منذ فترة. ذكرت مواقع "بيلينغ كات" و"إنسايدر" و"شبيغل" تفاصيل عن مهام الوحدة وبنيتها وأعضائها وطبيعة علاقتها بالسلطة الروسية.



مشهد لاغتيال رجل الاعمال الروسي ألبير نازرانوف في موسكو


كشفت التقارير أن فريقاً مؤلفاً من 20 جندياً تقريباً ولواء رفيع المستوى يُستعمَل كي يشنّ الكرملين حملة واسعة النطاق لزعزعة استقرار أوروبا وإضعافها. يكون عملاء "مديرية المخابرات الرئيسية" الروسية في الوحدة 29155 من النوع المناسب لهذه المهام، فهم مستعدون للأوقات الصعبة ومدرّبون على هذه الأنواع من العمليات الحساسة في الخارج ويعرفون أنها تشمل أعمال تخريب ومؤامرات وعمليات اغتيال. هم أشبه بمقاتلي الظل.من خلال وضع هذا الفريق في صلب جهاز المخابرات العسكرية، يصبح تلقائياً تحت سلطة وزارة الدفاع.

لكن تكشف بيانات الاتصالات المبنية على المكالمات الهاتفية خلال المهام أن العملاء يتلقون أحياناً تعليمات من أشخاص مقربين للرئيس الروسي، ويُقال إنهم يأتمرون من بوتين.وفق أبحاث شملت مصادر متعددة، على غرار سجلات المدنيين الروس وبيانات جوازات السفر ومواقع إلكترونية خاصة بالأكاديميات العسكرية، تبيّن أن معظم أعضاء فرقة الموت يأتون من خلفيات متشابهة.


تتراوح أعمارهم بين أواخر الثلاثينات ومنتصف الأربعينات، وهم خريجو أكاديميات مرموقة ويتمتعون عموماً بخبرة قتالية انطلاقاً من حروب كتلك التي وقعت في الشيشان أو أوكرانيا، وغالباً ما يشاركون في عمليات القوات العسكرية الخاصة. لكن تتعلق أهم نقطة مشتركة بينهم بدرجة وحشيتهم!نشأ الفريق على الأرجح في العام 2009. وتشير معطيات المنتديات العسكرية الروسية إلى تأسيس الوحدة في الأصل كقسم تدريبي للعمليات الخاصة. ويمنح مرسوم صادر عن وزارة الدفاع في العام 2012 علاوة لـ"وحدة فرعية" في هذا القسم، وهي إشارة محتملة إلى فريق القتلة المؤلف من 20 عضواً.


يُقال إن قائد الوحدة هو اللواء أندريه أفريانوف، رجل أشيب في بداية الخمسينات من عمره. وبحسب المعطيات في قواعد بيانات التأمين، هو يعيش في حي سكني راق خارج موسكو.
يتساءل المحققون الألمان الآن عن تورط رجال أفريانوف بجريمة القتل في حديقة برلين، واحتمال تورط قتلة من موسكو في جرائم سابقة في ألمانيا.

اهتمت النيابة العامة الألمانية و"مكتب الشرطة الجنائية الفدرالية" بالسؤال الثاني المرتبط بتحقيق مستقل حول جريمة القتل في حديقة برلين. وفق معلومات حصلت عليها "دير شبيغل"، طرح التحقيق الأخير الذي يحمل اسم "نوفي" مؤشرات مفادها أن المجرمَين المزعومَين في قضية سكريبال أمضيا ثلاثة أيام بالقرب من "فرانكفورت" في العام 2014. يريد المحققون اكتشاف ما فعلاه هناك. كذلك، تذكر معلومات "شبيغل" و"بيلينغ كات" أن أفريانوف كانت له معارف في ألمانيا أيضاً.



برنامج للتعرف على الوجه وجد نقاط شبه بين صورتي كراسيكوف وسولوكوف


هل يطّلع بوتين دوماً على المهام التي تنفذها "مديرية المخابرات الرئيسية"؟ وهل يوافق شخصياً على جميع المحاولات التي تهدف على ما يبدو إلى زعزعة استقرار الغرب، وحتى الاعتداءات الإلكترونية وعمليات القرصنة والحملات الهجومية المستهدفة واغتيال أعداء الدولة؟

ليس بالضرورة... لكن في العام 2006، وقّع بوتين على قانون يسمح صراحةً للدولة بارتكاب جرائم قتل في الخارج. تذكر الصحافية البريطانية هايدي بليك في كتابها الأخير From Russia with Blood (من روسيا بالدم): "عملياً، كان بوتين يستعمل قوة قاتلة للتخلص من أعدائه منذ بداية عهده الرئاسي، ولطالما كان الغرب يغفل عما يحصل. وحتى الاتحاد السوفياتي كان متخصصاً بفن القتل من دون ترك أي أثر وراءه". بعد فترة قصيرة على ارتكاب جريمة القتل في حديقة "كلاينر تيرجارتن" في برلين، بدأ السياسيون الألمان يفترضون أن العملية كانت اغتيالاً سياسياً. بعد ثلاثة أيام على جريمة القتل، اعتبر دبلوماسيون ألمان، بقيادة وزير الخارجية هايكو ماس، أن مسألة سياسية شائكة تلوح في الأفق ولا أحد يعرف نهايتها بعد، وتكلموا عن "نسخة ألمانية من حادثة سكريبل".

اتفقت دار المستشارية الألمانية ووزارة الخارجية في البداية على تطبيق استراتيجية متحفظة، فرفضت الجهتان التدخل طالما تبقى القضية في خانة التحقيق الجنائي الخاضع لإدارة سلطات مدينة برلين. وفق هذه الخطة، لن يتم اتخاذ أي تدابير سياسية إلا بعدما تستلم النيابة العامة الفدرالية القضية.

في فصل الخريف، توسعت مشاعر الإحباط داخل الحكومة الألمانية. بعدما فشل المحققون في بلوغ أي نتيجة غداة طلب المساعدة من السلطات الروسية، قررت الحكومة إشراك "المخابرات الخارجية الألمانية".

اتكلت المخابرات الألمانية على علاقاتها في موسكو كي تطلب من الروس أن يقدموا المساعدة خارج إطار قنوات إنفاذ القانون الرسمية العادية، وهو طلب ممكن بين الوكالات الاستخبارية. لكن كان الرد غير مُلزِم. وحين طلبت منهم "المخابرات الخارجية الألمانية" مباشرةً إجراء تحقيق في روسيا، أصبحت نبرتهم أكثر عدائية. أدركت المخابرات حينها أن أي عملية ألمانية ستُعتبر عملاً معادياً، وهدد الروس بالذهاب إلى حد اعتقال عملائها. لقد اتضح الآن أن موسكو لن تتعاون في هذا الملف. أمام هذا الوضع، قررت دار المستشارية طرد عميلَين روسيَين من ألمانيا، لكنها اتخذت هذا القرار حين استلمت النيابة العامة الفدرالية الألمانية التحقيق بجريمة القتل. كان هذا التدبير "مناسباً" برأي نوربرت روتغن، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني وعضو حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" الذي تنتمي إليه ميركل. يضيف روتغن: "نريد علاقات حسنة مع روسيا، لكن يختلف الوضع حين لا يحصل أي تحقيق حول شبهات بارتكاب جرائم قتل بأمرٍ من الدولة الروسية في ألمانيا بموجب القانون".

رد أوروبي مشترك

يجب أن يتأكد التحقيق برأي روتغن من تماشي جريمة القتل في حديقة برلين مع النمط الروسي الذي يقتل العملاء المنشقين وأعداء آخرين للدولة: "إذا ثبت ذلك، لا بد من إصدار رد أوروبي مشترك، كما حصل في قضية سكريبال".

كذلك، يظن رودريش كيسويتير، المتحدث في شؤون السياسة الخارجية باسم المحافظين في البرلمان، أن طرد العميلَين الروسيَين كان صائباً: "بناءً على نتائج تحقيقات النيابة العامة، لا يمكن استبعاد صدور رد أوروبي موحّد".

عاش فاديم كراسيكوف المُتّهم بارتكاب جريمة برلين والمعروف بفاديم سوكولوف في مدينة "إيركوتسك" الروسية لسنوات طويلة. لديه ولدان كبيران: شاب وفتاة. حين تواصلت "شبيغل" مع زوجته عبر الهاتف، تفاجأت بما سمعته، فقد تركها زوجها قبل 16 عاماً ولم تسمع عنه شيئاً منذ ذلك الحين. حتى أنها تقول: "ظننتُ أنه مات منذ فترة طويلة"!