تيمور أوماروف

كازاخستان بدأت تتحرّر من قبضة روسيا

24 أيلول 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قادة الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون خلال قمة في سمرقند | أوزبكستان، 16 أيلول ٢٠٢٢
لم يغيّر الغزو الروسي لأوكرانيا النظام العالمي، لكنه بدّل الظروف الجيوسياسية في آسيا حتماً. قبل الحرب، كانت روسيا تتكل على عدد من الحلفاء المقرّبين: بيلاروسيا غرباً، والصين شرقاً، وكازاخستان جنوباً. لكن على عكس بيلاروسيا والصين، لم تعد كازاخستان اليوم تبحث عن فرص تستفيد منها في علاقتها مع روسيا، بل إنها تحاول تدريجاً تفكيك ذلك التحالف الذي لم ترغب فيه يوماً من دون استفزاز موسكو.

لم يعبّر أي مسؤول في كازاخستان عن دعمه لموسكو منذ غزو أوكرانيا في شهر شباط. بل رفض الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف دعم روسيا صراحةً. كذلك، لم تعترف كازاخستان بالجمهوريات الناشئة في إقليم "دونباس" الأوكراني، وهي لا تساعد روسيا في التحايل على العقوبات الاقتصادية. محلياً، حاربت كازاخستان أي مؤشرات لدعم حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا داخل المجتمع الكازاخستاني عبر منع رموز الحملة الدعائية الروسية العسكرية وإلغاء احتفالات "يوم النصر" في 9 أيار.

تدرك كازاخستان أنها تواجه عوائق لا يمكن تجاوزها في علاقتها مع موسكو، لا سيما اتكال الاقتصاد الكازاخستاني على روسيا لتلقي أبسط السلع مثل الملابس والمواد الغذائية. عندما أوقفت روسيا تصدير السكر هذه السنة بسبب مخاوفها من حصول نقص محلي، واجه الكازاخستانيون نقصاً في المواد وارتفاعاً في الأسعار.

لهذا السبب، يجب أن تتابع كازاخستان التعامل بحذر مع الكرملين. من خلال تجديد استقرار الوضع في منطقة "ألماتي" المضطربة بأقل جهود ممكنة، خلال أيام معدودة من شهر كانون الثاني الماضي، أثبتت موسكو حجم نفوذها في السياسة الكازاخستانية المحلية. لكن تُشجّع هذه القوة أستانا على محاولة التحرر من قبضة موسكو.

في المقابل، تريد روسيا أن تحافظ على علاقاتها مع كازاخستان بشكلها الراهن. زادت أهمية كازاخستان كشريكة لروسيا أكثر من أي وقت مضى بعد زيادة عزلة موسكو. كذلك، تدرك روسيا أن قدرتها على المساومة بلغت أدنى مستوياتها تاريخياً كونها تحتاج إلى أستانا لتقاسم أعباء العقوبات عبر التساهل مع بعض الشركات الروسية، ما يُسهّل التصدير الموازي للسلع الخاضعة للعقوبــات، أو عبر منع الشركات الكازاخستانية من قطع علاقاتها مع الشركات الروسية. كذلك، تحتاج روسيا إلى كازاخستان كي تبقى المحرّكة الأساسية لمشروع التكامل الروسي، "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي".

وضعت كازاخستان، منذ استقلالها، تقليص الهيمنة الروسية وتنويع علاقاتها مع العالم على رأس أولويات سياستها الخارجية. وكان كل صراع تخوضه روسيا على حدودها الغربية (مع جورجيا مثلاً في العام 2008، وأوكرانيا في العام 2014) يعيد التأكيد على صوابية المسار الذي اختارته كازاخستان. لم تعترف أستانا يوماً بأبخازيا، أو أوسيتيا الجنوبية، أو أشباه الدول العازلة الروسية الأخرى، ولم تكن مستعدة لاعتبار شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا لأنها كانت لتعطي الشرعية لمحاولات موسكو التصرف بالطريقة نفسها مع كازاخستان، ولو بشكلٍ غير مباشر.

كلما تورطت موسكو في مواجهتها مع الغرب والمجتمع الدولي، ستصبح كازاخستان أكثر استعداداً للتخلي عن روسيا حين تسنح لها الفرصة، تزامناً مع محاولة تجنب أي خسائر محتملة نتيجة استياء موسكو.

منذ غزو روسيا لأوكرانيا في شهر شباط، لم تعد الخطوط الحمراء في علاقة كازاخستان مع روسيا واضحة بالقدر نفسه. لم تكن روسيا تستاء مثلاً من التدريبات العسكرية المشتركة بين كازاخستان وحلف الناتو سابقاً، لكن تعتبر موسكو نفسها اليوم في حربٍ مع الغرب وقد تطلق تحركات أكثر عدائية.

في الوقت نفسه، تحصل كازاخستان على فرصة ضمنية من نوع آخر في ظل غياب الخطوط الحمراء في هذه العلاقة الثنائية. أصبحت روسيا ضعيفة وهي تستعمل كامل طاقتها ومواردها في أوكرانيا أو لحماية استقرار نظام بوتين. في المقابل، تستغل أستانا هذه المرحلة لتكثيف تعاونها مع بلدان أخرى تتقبّلها موسكو.

بعد مرور أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا، زار توكاييف تركيا للمرة الأولى منذ تنصيبه. حملت تلك الزيارة دلالات كبرى، فقد رفع الطرفان علاقتهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية ووافقا على بدء إنتاج الطائرات التركية المسيّرة في كازاخستان. الأهم من ذلك هو موافقة كازاخستان على تبادل الاستخبارات العسكرية مع تركيا. إنها المرة الأولى التي يوافق فيها بلد منتسب إلى "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" على تبادل معلومات استخبارية حساسة مع أحد أعضاء الناتو.

زار توكاييف باكو في الفترة الأخيرة أيضاً. ترفض كازاخستان دعم الحملات العسكرية الروسية، لكنها لم تتردد بالطريقة نفسها حين قررت الانحياز إلى طرف معيّن في الصراع المستمر بين أذربيجان وأرمينيا على ناغورنو كاراباخ. هزم جيش أذربيجان أرمينيا، حليفة كازاخستان في "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، في ناغورنو كاراباخ، لكنّ هذا الحدث لم يمنع توكاييف من تهنئة الرئيس إلهام علييف على "استرجاع وحدة الأراضي" في بلده. اتفق الطرفان على تكثيف التعاون الاقتصادي بينهما، وهو عامل بالغ الأهمية لقطاع الأعمال في كازاخستان، إذ يواجه هذا القطاع مشاكل كبرى بسبب صدمة العقوبات ضد روسيا والضغوط المتعمدة التي تفرضها موسكو على الاقتصاد المحلي.

تفاجأ الكثيرون بتحركات توكاييف الجريئة، لأن بوتين هو الذي أنقذه من السقوط خلال أحداث اعتبرها توكاييف محاولة انقلاب في كانون الثاني الماضي. كل من يظن أن قيادة كازاخستان تدين للكرملين بوجودها يفترض أن موسكو قررت التدخل في كانون الثاني للبحث عن فرص جديدة وتوسيـــع نفوذها في المنطقة.

لكن تدرك كازاخستان أن دوافع موسكو الأساسية خلال تلك الفترة المضطربة تتعلق بخوفها على أمنها الخاص إذا خرج الوضع عن السيطرة في بلد مجاور لها، لأن عملية صنع القرار في الكرملين تطرح المخاطر بدل أن تبحث عن الفرص الإيجابية. مع ذلك، تحمل الرموز والشائعات أهمية كبرى في عالم السياسة، لذا لا يريد توكاييف أن يعتبره أحد زعيماً عيّنه الكرملين، بل يرغب في تهدئة المستائين من التدخل الروسي محلياً. كان إعلانه عن إجراء انتخابات مبكرة هذا الخريف محاولة منه لكسب الشرعية من الشعب الكازاخستاني.

في روسيا، يشعر المعسكر المؤيد لاستعمال القوة في النخبة السياسية بالاستياء إزاء الأخبار الصادرة من كازاخستان، وتبدي موسكو استعدادها لتذكير أستانا بالثمن الذي ستدفعه إذا تدهورت العلاقات بين البلدين. تشكّل روسيا خِمْس تجارة كازاخستان الخارجية الإجمالية، ويمرّ أكثر من نصف عمليات الشحن بالأراضي الروسية. قد تقرر روسيا، إذا اشتدت الضغوط عليها، أن تقطع مصدر الدخل الأساسي الذي تتكل عليه كازاخستان. في الوقت الراهن، يمرّ 80% من صادرات النفط الكازاخستاني في "اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين" الذي تبلغ فيه حصة روسيا 31%. في الأشهر القليلة الماضية، وقعت خمس حوادث على صلة بذلك الخط، وأدت إلى وقف صادرات النفط بشكلٍ كامل أو جزئي من كازاخستان إلى أوروبا.

قد يؤدي إغلاق "اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين" إلى حرمان ميزانية كازاخستان من أكثر من 40% من مداخيلها. تبلغ كمية النفط القصوى التي يمكن تصديرها من كازاخستان إلى أوروبا عبر الطريق البديل في بحر قزوين حوالى 100 ألف برميل يومياً، بينما ينقل "اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين" أكثر من مليون برميل. حتى الآن، لا يستطيع أي طريق بديل أن يضاهي "اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين" من حيث الحجم أو السعر أو سرعة التسليم، لكن تريد كازاخستان أن توسّع هامش مناوراتها على الأقل في طرقات التصدير التي تستعملها. يمرّ طريق بديل محتمل في ميناء باكو، وهو السبب الرئيسي وراء زيارة توكاييف للمنطقة في الفترة الأخيرة.

رسمياً، تتابع موسكو الكلام عن ازدهار العلاقات المستقرة مع كازاخستان. لكن على أرض الواقع، قد يتحول غضبها من حليفتها إلى استياء عارم. لم يعترف الكرملين بهذا الوضع علناً، وهو أمر طبيعي، لكنه يسمح لمؤيدي استعمال القوة في أوساط المسؤولين والمحللين الروس بتهديد كازاخستان. أدى انتشار أنباء كاذبة حول "إبادة الروس" في كازاخستان إلى تأجيج المواقف حول "اجتثاث النازية" هناك.

في شهر آذار، اقترح سيرغي سافوستيانوف، نائب عن مدينة موسكو من الحزب الشيوعي، ضمّ كازاخستان إلى "منطقة نزع السلاح واجتثاث النازية" لحماية المصالح الأمنية الروسية. وفي شهر آب، ذكر ديمتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، أن موسكو قد تنشغل بمصير شمال كازاخستان بعد أوكرانيا. ادعى مدفيديف أن حسابه تعرّض للقرصنة، لكن أكّد الصحفي الروسي المعروف ميخائيل زيغار أن فريق الرئيس الروسي السابق هو الذي صاغ ذلك الموقف لتصوير مدفيديف كداعم للحرب.

يبقى إقدام روسيا على شن حرب أخرى على حدودها احتمالاً مستبعداً (لا سيما بعد الهجوم المضاد الناجح من جانب القوات الأوكرانية في الفترة الأخيرة)، لكن قد يتعلق أبرز جانب سلبي في استراتيجية كازاخستان المستجدة تجاه روسيا بالعجز عن توقّع طريقة صنع القرار في الكرملين.


MISS 3