ليلى داغر

دراسة إستطلاعية صادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت

لبنانيون يجوعون... ويئنّون بصمت!

3 تشرين الأول 2022

02 : 00

من حواضر البيت

نشرت الجامعة الاميركية في بيروت دراسة، بقيادة الباحثة الدكتورة ليلى داغر، ومشاركة الدكتور ابراهيم جمالي والدكتور اسامة ابي يونس، شملت نتائج استطلاع واسع النطاق حول الآثار السلبية التي خلفتها الازمة الاقتصادية في لبنان، والتي طالت الوظائف والمداخيل والفقر في الطاقة وسبل العيش واستراتيجيات التأقلم القائمة على الغذاء والمواقف من الهجرة... وذلك في 7 قطاعات اقتصادية.

إعتمدت الدراسة على مسح ميداني شمل 931 اسرة تعتاش من قطاعات الزراعة والبناء والتعليم والاغذية والمشروبات والصحة والصناعة والتجزئة... في كل المحافظات. وتمّ استكمال التحليل الاحصائي وتوضيحه وتعزيزه باستخدام مدخلات خبراء بارزين شاركوا في خمس مقابلات لمجموعة من الخبراء الرئيسيين.

وفي ما يلي الجزء الخاص باستراتيجيات التأقلم القائمة على المعيشة والغذاء:




إستراتيجيات التأقلم الغذائي

أدى حجم ونطاق الازمة الاقتصادية التي طال أمدها في لبنان الى تراجع حاد في دخل الفرد. ويقدر البنك الدولي (2021) أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي قد انخفض من 35.1 الى 38.6% بين عامي 2017 و2021. ودفعت الازمة العائلات اللبنانية عبر القطاعات السبعة الى اعتماد استراتيجيات تأقلم قاسية قائمة على المعيشة. تتراوح بين خفض كمية (وجودة) المواد الغذائية وتخطي الوجبات. ويسلط هذا الجزء من البحث الضوء على مجموعة متنوعة من استراتيجيات التأقلم التي كانت في معظمها سلبية، والتي استخدمتها الاسر لمواجهة الازمة.

بادئ ذي بدء خفّض القسم الأكبر من الاسر في القطاعات السبعة كمية المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب والفواكه والخضروات والخبز، وتحولت الى بدائل أرخص أقل جودة للمواد الغذائية الأساسية.





ماذا قطاعياً؟

إن نسبة المستجيبين من قطاعي البناء والزراعة الذين اضطروا الى تخفيض كمية المواد الغذائية الأساسية هي الأعلى مرة أخرى وتبلغ 90% أو أكثر. وباستثناء القطاع الصناعي، اضطر 80% أو أكثر من المستجيبين في القطاعات المتبقية الى اعتماد ممارسات مماثلة. وكان التحول الى البدائل الارخص للمواد الغذائية الأساسية استراتيجية تأقلم سائدة أخرى بين المستجيبين في القطاعات السبعة، وباستثناء المستجيبين من قطاع الصناعة، يشير أكثر من 85% من المستجيبين في مختلف القطاعات الى ضرورة تطبيق استراتيجية التأقلم هذه.

وتشكل التغيرات في أنماط الاستهلاك استراتيجية ضرورية للتأقلم وتنفق الاسر في القطاعات السبعة نسبة كبيرة من دخلها الإجمالي على الأغذية والمشروبات.

إتساقاً مع النتائج السابقة تشير النتائج الواردة الى أن قطاعي البناء والزراعة يشتملان على ما يبدو على أكبر نسبة من المستجيبين الذين لجأوا الى استراتيجيات التأقلم القائمة على المعيشة والتي تنطوي على تناول الأغذية. وينبغي التشديد في هذا السياق على أنه، باستثناء المستجيبين من قطاعي الصناعة والأغذية والمشروبات، أبلغ 30% أو أكثر من المستجيبين في مختلف القطاعات على ضرورة تخطي وجبة غذائية خلال الأسبوع. بالإضافة الى ذلك، وباستثناء المستجيبين في قطاعي البناء والزراعة، لم يتمكن أقل من 30% من المستجيبين من شراء وجبة مع اللحوم أو الدجاج أو السمك على الأقل مرة واحدة في الأسبوع. ومع ذلك، فان نسبة المستجيبين الذين أبلغوا عن عدم القدرة على تحمل تكاليف استهلاك اللحوم أو الأسماك أو الدجاج مرة واحدة في الأسبوع على الأقل ليست ضئيلة بالنسبة لهذه القطاعات.





تأثّر الأطفال

وتماشياً مع الأعراف الاجتماعية اللبنانية والتقاليد العائلية في محاباة الأبناء، تشير نتائج المسح الى أن نسبة الأطفال الذين اضطروا الى تخطي وجبة طعام واحدة مرة في الأسبوع على الأقل كانت أقل مقارنة مع البالغين. ومع ذلك لا تزال هذه النسبة ملحوظة في قطاعي البناء والزراعة. وعموماً ثمة أدلة تفيد أن الازمة تؤثر على التنوع الغذائي، وقد تزيد من حدوث الجوع المستتر أو نقص المغذيات اذا استمرت هذه التغيرات في أنماط استهلاك الأغذية أو أصبحت أكثر تطرفاً.

فوارق مناطقية

توضح النتائج بعض الفوارق الإقليمية والمناطقية في اعتماد استراتيجيات التأقلم القائمة على المعيشة في ما يتعلق بالغذاء. خصوصاً نسبة المستجيبين ممن يستطيعون تحمل تكلفة وجبة مع اللحم أو الدجاج أو السمك مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.

اللافت هو أن جميع المستجيبين في المنية والضنية والبقاع الغربي أشاروا الى عدم قدرتهم على تحمل تكاليف وجبة مع اللحوم أو الدجاج أو السمك مرة واحدة في الأسبوع على الأقل. إضافة الى ذلك كان على جميع المستجيبين من المنية الضنية، والهرمل، والنبطية، وزغرتا تقليص كمية المواد الغذائية الأساسية التي يستهلكونها. ومما يثير القلق أن جميع المستجيبين من المنية الضنية أشاروا الى ان طفلاً في الاسرة يتخطى وجبة طعام أكثر من مرة في الأسبوع.





النفقات والدخل الشهري

وعند سؤالهم عن قدرتهم على تغطية نفقاتهم على أساس دخلهم الشهري الإجمالي، أشار أكثر من 50% من الاسر التي تكسب رزقها من قطاعات الزراعة والبناء والصناعة والمطاعم الى أنهم لا يوافقون أو لا يوافقون بشدة على تغطية نفقاتهم على أساس دخل أسرهم.

أشارت 67 و62 و59 و62 و59% من الاسر التي تكسب رزقها من قطاعات الزراعة والتعليم والصناعة والتجزئة والأغذية والمشروبات، الى أنها لا توافق أو لا توافق بشدة على امكانيتها لتلبية احتياجاتها نظراً الى دخلها الشهري، كما أن نسبة كبيرة من الاسر التي تكسب رزقها من قطاع البناء وهي 85% لا توافق أو لا توافق بشدة على قدرتها على تغطية نفقاتها نسبة الى اجمالي دخلها الشهري.





المناطق الأكثر فقراً

وفي النتائج أيضاً تفاوتات في القدرة على تغطية النفقات في الاقضية. فعلى سبيل المثال تشير نسبة 100% من الاسر في المنية الضنية والبقاع الغربي الى أنها لا توافق بشدة على قدرتها على تغطية نفقاتها نسبة الى دخلها الشهري.

علاوة على ذلك، فان نسبة الاسر التي لا توافق أو لا توافق بشدة على قدرتها على تغطية نفقاتها في بعلبك ( 92.8%) وزغرتا (83.3) وزحلة (76.4) والنبطية (71.4). ومن المثير للاهتمام ان نسبة الاسر التي تواجه صعوبات في تغطية نفقاتها تتسق عموماً في جميع المدن: بيروت (60.8) وطرابلس (61.7) وصور (66.6) وربما تكون على نحو مفاجئ أعلى من عكار (53.9). أما الاسر في الشوف (37.5) وبعبدا (46.3) فهي الوحيدة التي لديها أقل من 50% من المستجيبين الذين لا يوافقون أو لا يوافقون بشدة على قدرتهم على تغطية نفقاتهم نسبة لإجمالي دخلهم الشهري. وبالتالي فان هذه النتائج تعكس على الأرجح الجهود التي تبذلها الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية للحصول على المساعدة الاجتماعية، في حين أن مستوى الدخل الأعلى من المتوسط الخاص بهذه الأخيرة من المرجح أن يفسر هذه النتيجة.


بيع أصول

وتبين النتائج ايضاً ان بيع الأصول (على سبيل المثال العقارات والمجوهرات والسيارات وما الى ذلك) والانخفاض في المدخرات وتقليل المساعدة المقدمة الى الاسرة والأصدقاء... برزت كاستراتيجيات تأقلم سائدة قائمة على المعيشة في القطاعات السبعة.

في الواقع، باستثناء المستجيبين من قطاعي التعليم والأغذية والمشروبات، اضطر أكثر من 43% من المستجيبين الى بيع أصول تساعدهم على التأقلم وتبلغ هذه النسبة نفسها 62 و51% لقطاعي البناء والزراعة على التوالي. بالإضافة الى ذلك، وباستثناء قطاع الصناعة، اضطر أكثر من 73% من المستجيبين الى انفاق بعض أو كل مدخراتهم من أجل التأقلم.

خفض تصنيف لبنان

خلاصة القول إن استراتيجيات التأقلم القاسية والمضرة في بعض الحالات، القائمة على أسباب العيش التي اعتمدها المستجيبون في مختلف القطاعات، تؤكد الآثار الشاملة لعدة قطاعات التي فرضتها الازمة الاقتصادية اللبنانية على الأجور وسبل العيش. وتتسق استراتيجيات التأقلم هذه أيضاً مع إعادة تصنيف لبنان من قبل البنك الدولي في الشريحة الدنيا من فئة الدخل المتوسط، بعد أن كان في الشريحة الأعلى من فئة الدخل المتوسط.

الزراعة والتصدير

علاوة على ذلك يبدو أن المستجيبين من قطاعي الزراعة والبناء قد تأثروا بالأزمة بشكل أعمق من المستجيبين من القطاعات الأخرى. وقد يبدو هذا غريباً للوهلة الأولى لان الزراعة قطاع تصديري (وليس البناء). وهذا يعني أن قطاع الزراعة كان يمكن أن يستفيد من حيث المبدأ من زيادة الصادرات بسبب تعزيز القدرة التنافسية الناجمة عن الانخفاض الحاد في قيمة العملة. ومع ذلك يشير المشاركون في جلسات الخبراء الى أن الوصول الى أسواق التصدير الإقليمية وعلى وجه التحديد أسواق التصدير الخليجية قد تقلص بسبب الحظر المفروض على المنتجات الزراعية اللبنانية من قبل معظم دول مجلس التعاون الخليجي. ان محدودية الوصول الى أسواق الخليج مقرونة بعوامل تثبيط الصادرات التي يحددها البنك الدولي ( 2021 ب) هي الأسباب الجذرية المحتملة لعدم استفادة القطاع الزراعي من تعزيز القدرة التنافسية للصادرات.

عمالة موسمية

وتتفق النتيجة الرئيسية التي توصل اليها المستجيبون العاملون في قطاع الزراعة والبناء على نحو أكثر حدة مع ارتفاع درجة عدم رسمية الوظائف والآثار الموسمية في هذين القطاعين. والواقع أن تقديرات الطابع غير الرسمي التي قدمتها منظمة العمل الدولية (2022) تضع الزراعة وصيد الأسماك والحراجة والبناء كقطاعات لديها أعلى درجتين من العمل غير الرسمي. وتتماشى هذه التقديرات مع نتائج المسح السابقة بشأن العمل غير الرسمي في الزراعة والبناء التي قدمتها منظمة العمل الدولية (2021).





الصناعة أقل تأثّراً ولكن...

ويبدو أن المستجيبين من قطاع الصناعة أقل تأثراً بالأزمة نسبياً. وأشار المشاركون في جلسات الخبراء الى أن اداء قطاع الصناعة ربما كان أفضل من القطاعات الأخرى بسبب الاستعاضة عن الواردات بالمنتجات المصنعة محلياً. ومن المرجح أن يشكل استبدال الواردات هذا بدلاً من تعزيز صادرات السلع المصنعة تفسيراً للأداء الأفضل نسبياً لهذا القطاع. كما أشار المشاركون في جلسات الخبراء، الى أن القدرة التنافسية التصديرية لقطاع الصناعة قد تأثرت سلباً بتزايد تكاليف توليد الكهرباء الخاصة من مولدات الديزل. ولكن بطبيعة الحال ينطبق هذا غالباً على الصناعات التي تستهلك الطاقة بكثافة في حين تستفيد صناعات أخرى من تكاليف العمل المنخفضة وتكاليف المدخلات الأخرى التي تأثرت بانخفاض قيمة العملة.

كما حدد المشاركون في جلسات الخبراء القيود الشاملة التي تؤثر على جميع القطاعات، وأوضحوا على وجه الخصوص عدم وجود قدرة تنافسية معززة للصادرات (وتكاليف أعلى) للصناعة والزراعة. وتشمل هذه العوامل انقطاع سلسلة التوريد بسبب تفشي فيروس كورونا ونقص السلع الأساسية مثل الديزل والبنزين بسبب ازمة ميزان المدفوعات في لبنان، وهجرة الادمغة وعدم القدرة على الحصول على التمويل والواقع أن القطاع المصرفي في لبنان هو في قلب المشهد المالي غير قادر على أداء مهامه الأساسية في الوساطة المالية.

وقف إستخدام أدوية الأمراض المزمنة أو تخفيضها وعدم زيارة الطبيب عند المرض

أكدت دراسة الجامعة الأميركية أن التكلفة المتزايدة للرعاية الصحية في يوليو/ تموز 2021 وأوائل 2022 أجبرت المستجيبين (أو أفراد الأسرة) في جميع القطاعات على اللجوء الى استراتيجيات تأقلم قائمة على سبل العيش، تتضمن وقف استخدام الادوية المزمنة (أو تخفيضها) وعدم زيارة الطبيب عند الإصابة بالمرض، والتحول من الرعاية الصحية الخاصة الى الرعاية الصحية العامة والتوقف عن استخدام التأمين الصحي الخاص.

بلغ معدل التضخم في مكون الرعاية الصحية في مؤشر أسعار المستهلك 268% خلال الفترة من تموز الى كانون الأول 2021. وقد ارتفع هذا المعدل في الربع الأول من عام 2022 ليصل الى 433.1%. ويمكن أن تعزز الزيادة الحادة في أسعار الرعاية الصحية الى إلغاء الإعانات. وفي الواقع بلغ معدل التضخم في مكون الرعاية الصحية في مؤشر أسعار المستهلك 20.9% في المتوسط من كانون اول الى حزيران 2021.

تشير النتائج الواردة مرة أخرى مقارنة بالقطاعات الأخرى الى أن نسبة أكبر من المستجيبين من قطاعي البناء والزراعة اضطروا الى اللجوء الى استراتيجيات تأقلم سلبية تشمل تخفيض استخدام الادوية المزمنة أو ايقافها وعدم زيارة الطبيب عند الإصابة بالمرض. ومع ذلك فان نسبة المستجيبين في القطاعات الأخرى التي اضطرت الى أن تحذو حذوها هي أيضا عالية. وباستثناء المستجيبين في قطاع الرعاية الصحية، يعمد 25% أو أكثر من المستجيبين في مختلف القطاعات الى خفض أو ووقف استخدام الادوية المزمنة. في حين أن أكثر من 57% من المستجيبين أجلوا أو تغيبوا عن زيارة الطبيب بعد أن مرضوا. وتبين النتائج زيادة الاعتماد نظام الرعاية الصحية العامة المتزعزع الى حد كبير. وبالفعل توجب على نسبة كبيرة من المستجيبين من قطاعات التعليم والبناء والزراعة بلغت 74.4 و80.4 و67.6% على التوالي التحول من الرعاية الصحية الخاصة الى الرعاية الصحية العامة. واضطر أكثر من 54% من المستجيبين من قطاعات الأغذية والمشروبات والتجزئة الى القيام بنفس الشيء. أما قطاعا الرعاية الصحية والصناعة فهما القطاعان الوحيدان اللذان تقل فيهما نسبة المستجيبين الذين انتقلوا من الرعاية الصحية الخاصة الى الرعاية الصحية العامة عن 40%. وتجدر الإشارة هنا الى أن هذه النسب المئوية تشمل أيضاً أولئك الذين حصلوا على الرعاية الصحية الخاصة والعامة على حد سواء والذين كان عليهم التخلي عن الرعاية الصحية الخاصة.

خلاصة القول ان الازمة التي يعاني منها لبنان قد أجبرت نسبة كبيرة من المستجيبين في مختلف القطاعات على اللجوء الى استراتيجيات تأقلم قائمة على المعيشة تنطوي على الحد من إمكانية الحصول على الرعاية الصحية، وربما من نوعية الرعاية الصحية التي يتلقونها. وتشكل هذه النتائج تحذيراً مسبقاً من النتائج السلبية المحتملة على الصحة وطول العمر في المدى القصير في بلد كان يعرف سابقاً باسم مركز الاستشفاء في الشرق الأوسط. وهي تبرز كذلك الاعتماد المتزايد على نظام الرعاية الصحية العامة فضلاً عن العبء الملقى على كاهله.


خلاصات:


%85 نسبة الذين خفضوا كمية المواد الغذائية الأساسية

%87 نسبة الذين انتقلوا الى بدائل أرخص للمواد الغذائية الأساسية

%33 نسبة الذين يتخطّون وجبات خلال الأسبوع

%33 نسبة الذين لا يستطيعون تحمل كلفة وجبة مع اللحم أو الدجاج أو السمك على الأقل مرة في الأسبوع

%17 نسبة الأطفال في الأسر الذين يتخطون الوجبات أكثر من مرة في الأسبوع

%30 نسبة الذين أَوقفوا أو خفّضوا عمداً إستخدام أدوية مزمنة

%63 نسبة الذين أَجلوا أو تغيبوا عن زيارة الطبيب بعد إصابتهم بالمرض