محمد علي مقلد

8 آذار ضد الثورة و14 ضد نوابها... نقاط على حروف منتقدي نواب الثورة

4 تشرين الأول 2022

02 : 00

قوى الثامن من آذار لم تقصر بحق الثورة، حملت العصي وأحرقت الخيم وسيّرت مواكب الموتوسيكلات وصوبت بنادقها على عيون الثوار ورمتهم بتهمة السفارات وانتهاك السيادة. لكنها بعد الانتخابات البرلمانية «بلعت» دخول ممثلي الثورة لا إلى باحة المجلس النيابي فحسب بل إلى قاعته، ولم يصدر عن أي من أطرافها بحقهم أي كلام مسيء.

قوى الرابع عشر من آذار فعلت عكس ذلك بالتمام والكمال. انتصرت للثورة في الساحات والشوارع. وتبنتها واحتضنتها وزعمت أنها نسخة منقحة من انتفاضة الاستقلال. لكن خبر دخول الثورة إلى البرلمان لم يكن وقعه ساراً على كثيرين من «ذوي القربى» من خريجيها. ربما لأن من فاز إنما فاز باسم الثورة وبقوتها ووهجها لا باسم سواها، ولأن نوابها صنيعة جيل جديد من التفكير وجيل جديد من شباب لبنان وشاباته خارج من كل الاصطفافات التي هيأت للحرب أو خاضتها بالسلاح أو بالكلام.

مفارقة غير بسيطة وتفسيرها كالمشي بين النقط. لكن الوقائع هذه ليست من البديهيات في نظر كثيرين من الأصدقاء، ولذلك سنتوقف بنقاش صريح وودود معهم لتفسير هذه المفارقة.

محط كلام المنتقدين والممتعضين ومربط خيلهم والعمود الفقري في برنامجهم هو السيادة. وتفسيرها المباشر مواجهة مع «حزب الله» وسلاحه ومع الاحتلال الإيراني، ومن لا يعتمد هذا التفسير هو في نظرهم من المرتدين. هذا التفسير ينطلق من فهم مغلوط أو منقوص لمعنى المصطلح، حين ذهب ظنهم، بعد اغتيال الحريري، وبعض الظن إثم، إلى أن الدولة ستستعيد سيادتها بمجرد خروج القوات السورية من لبنان، فاندفعوا بحماس إلى توقيع اتفاق رباعي مع قوى هي في موقع الخصومة لكنها تشاركهم الرأي المضمر بأن السيادة لا تنتهك إلا من جانب قوة احتلال خارجي. ما كان لفريقي آذار أن يلتقيا لولا تطابق موقفهما النظري من موضوع السيادة. لم يصغوا يومذاك لتنبيهاتنا إلى خطورة هذا المنهج من التفكير على مستقبل انتفاضة الاستقلال.

بدأت باكراً أكتب عن انتهاك السيادة من الداخل، إلى أن أعلنت قيادة الحزب الشيوعي ضيقها من كتاباتي، ورأت فيها اتهاماً مباشراً لها ولكل من شارك في الحرب الأهلية بالمشاركة في انتهاك سيادة الدولة. ولم يكن ذلك مدعاة سرور لدى رفاق النضال في الحزب والحركة الوطنية والحلفاء، لأن التوصل إلى مثل هذه الحقيقة ينبغي أن يتلازم مع عملية نقد ذاتي تفضي إلى الخروج نهائياً وقطعياً من عقلية الحرب الأهلية وهو ما لم تكن ظروفه ناضجة بعد ولا سيما في عهد الوصاية.

السيادة هي سيادة الدولة والقانون على حدود الوطن، هذا صحيح. إلا أن انتهاك السيادة يمكن أن يحصل أيضاً من جانب قوى مقيمة داخل الحدود، لا من قبل الجواسيس والعملاء وما لف لفهم فحسب، بل من قبل أهل السلطة وأهل المعارضة بالذات. لم يقتنع المتواجهون في الحرب أو في السلم، أن حربهم كانت حرباً على الدولة والدستور والقوانين قبل أن تكون على سواها، وأن كلاً منهم، حين يصوب على خصمه، كان يصيب الدولة في سيادتها على أرضها وداخل حدودها.

الخصوم في كل حرب أهلية هم بالتعريف شركاء بانتهاك السيادة. وقد نجح نظام الوصاية أيما نجاح في تمديد صلاحية هذا الاستنتاج إلى ما بعد اتفاق الطائف. ولا سيما بعد أن أوكل إلى ميليشيات التهديم مهمة إعادة البناء، وإلى منهج التفكير الميليشيوي وضع اجتهادات غايتها تشويه المصطلحات الدستورية، وأبرز ضحاياها مصطلح السيادة.

السيادة التي تشكل ركناً من ثلاثة في بناء الوطن إلى جانب الأرض والشعب، غابت عن بيانات الحكومات المتعاقبة ما بعد الدوحة واستبدلت بثلاثيات المقاومة والشعب والجيش. كما أن نظام الوصاية أشرف على إدخال الميليشيات ومنهج تفكيرها إلى داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية والإدارية والأمنية فظل منطق الحرب الأهلية هو السائد ولم يعد وجود السلاح واستخدامه التعبير الوحيد عنها أو التجسيد الوحيد لاستمرارها.

لا شك أن مساواة الفريقين الآذاريين في موقفهما من السيادة ظالم في الظاهر. لكن وقائع الحرب الأهلية أثبتت أن أياً منهما لم يقصر في استدعاء الخارج واستدراجه والاستقواء به على أبناء بلده، وأن كلاً منهما عاجز عن خوض معركة السيادة ضد منتهكيها في الداخل لأنه لا فضل لآذاري على آخر في هذا الأمر، حتى أن «حزب الله» اعتبر نفسه وريث المقاومة ضد عدو الخارج ووريث الاستقواء بالخارج، فاستند إلى هذا الإرث ليقيم مع إيران ما سبق لآخرين أن أقاموه عسكرياً مع منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا ومع إسرائيل، وسياسياً مع قوى أخرى عالمية وإقليمية، وتسلح بالقول، البادئ أظلم.

أغلب الظن أن السياديين غضوا النظر وما زالوا، عن الانتهاكات الداخلية للسيادة الوطنية من جانب الممانعة ولم يتعرضوا لها حتى لا يطالهم نصيب من الإدانة بمفعول رجعي أو راهن، لأنهم شركاء في بعث نظام المحاصصة وفي ترسيخ جذور الطائفية في ممارسة أهل النظام وفي إيصال البلاد إلى الجحيم الموعود.

هذه حقيقة مرة، وليست المرة الأولى التي نشير إليها. كتبنا في حينه في نقد 14 آذار، من موقع المنحاز لها والمشارك في كل نشاطاتها ومناسباتها، وأشرنا إلى خطورة الكلام عن «الحضارتين والفسطاطين»، وهما عبارتان كثيراً ما وردتا في خطابها السياسي، خشية أن يفضي ذلك إلى ما كان يتم الترويج له خلال الحرب الأهلية وما يتم التداول به اليوم عن التقسيم والفدرالية، وخشية أن يشكل استجابة لبعث جمر الحرب الأهلية من رماده.

الحقيقة المرة لا تعالج بالنصائح، بل بالمراجعة الشجاعة لكل تجربة الحرب الأهلية من أجل الخروج منها خروجاً قطعياً، وفي ظني أن بعض من لا تعوزهم الشجاعة والجرأة فعلوا ذلك وعليهم أن يستكملوه، فلبنان ما قبل مصالحة الجبل ليس كما بعدها ولبنان ما قبل اغتيال الحريري ليس كما بعده، ولبنان ما قبل 17 تشرين ليس كما بعده.

«المنظومة» الحاكمة تشكلت في عهد الوصاية، وقد آن أوان طي صفحتها بإعادة تشكيل السلطة كخطوة على طريق إعادة بناء الوطن. ونواب الثورة هم أول غيث التغيير لأنهم يشكلون الكتلة الوحيدة غير الملوث ماضيها بالحرب الأهلية، والكتلة الأكبر من خارج كتل الطوائف، ومن موقعها هذا بالذات يبدو من غيرالمنطقي مطالبتها بالانضواء تحت لواء كتل أخرى لم تستكمل بعد نقدها الذاتي لتجربة الحرب.

ليس المقصود بهذا التحليل الدفاع عن كتلة نواب الثورة، أولاً لأنني لست مكلفاً بذلك ولا يحق لي أن أنوب عنهم في أمرٍ هم أعرف مني به وأقدر على المرافعة بشأنه ، فضلاً عن أنني لا أعرف أشخاصهم ولم أطلع على مفاوضاتهم ولا على وقائع اجتماعاتهم من غير الصحف.

بيد أنني أجد نفسي معنياً بهم لأنني معني بالثورة التي هم نتاجها الأصفى، والتي ما زلت مواظباً، من غير انقطاع أبداً، على الكتابة عنها من يومها الأول مقالة اسبوعية على الأقل، ومصراً على اعتبارها ثورة من سلالة الربيع العربي الذي قلت فيه إنه أول ثورة في المنطقة العربية منذ انتشار الإسلام، وما عداه ليس سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية، ولهذا فما المرافعة هذه إلا دفاع عن الثورة، التي يحاول المتربصون من أصدقائها قبل الخصوم النيل منها عن طريق النيل من نوابها.

نواب الثورة ليسوا فوق النقد، لكن بعض النقد يستهدف الثورة بالإصرار على اعتبارها انتفاضة، أي فورة عابرة انتهى دورها أو ينبغي له أن ينتهي، ربما لأن من يقف خلف مثل هذا النقد يشده الحنين إلى صراع الثنائيات القاتلة التي بدأت بالحركة الوطنية والجبهة اللبنانية ولم تنته بـ 8 و14 آذار، والتي جاءت الثورة لتستبدلها بصراع ، أحد طرفيه جيل من المبدعين على عاتقهم بناء مستقبل البلاد، من موقع التعصب للوطن لا للاصطفافات القديمة.

إنهم جيل الثورة المستمرة لا جيل فورة أينعت وحان قطافها.

أخيراً، مثلما بات مستحيلاً على جبهة الممانعة تعيين رئيس للجمهورية بمرسوم من قصر المهاجرين أو بفرضه بقوة سلاح «حزب الله» والقمصان السود، من المستحيل أيضاً وصول مرشح من فريق 14 آذار. لذلك يبدو بحث نواب الثورة عن حل من خارج الاحتمالين الآذاريين هو الأقرب إلى الصواب، حتى لو وقع اختيارهم على مرشح غير موافق على الترشح، ذلك لأنهم يعرفون، سلامة معرفة منتقديهم، أن الغاية من دعوة المجلس النيابي إلى الانعقاد لم تكن تهدف إلى اختيار رئيس للجمهورية بقدر ما هي مناورة برية هدفها إقناع البرلمان، بالدليل الحسي، باعتماد التوافق بدل الانتخاب.