إيرينا بوروغان

تداعيات الحظر الأوروبي الكارثي على الروس

6 تشرين الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

نزول ركاب روس من قطار Allegro الروسي في محطة السكك الحديدية في هلسنكي | فنلندا، آذار ٢٠٢٢
بعدما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "تعبئة جزئية" في الحرب ضد أوكرانيا بساعات، بدأ عشرات آلاف الرجال الروس يهربون من روسيا. قصد عدد كبير منهم الجمهوريات السوفياتية السابقة، أو تركيا التي لا تزال تستقبل الروس إذا كانوا يملكون الوسائل اللازمة لبلوغ البلد. لكن يتراجع عدد الروس الذين وصلوا إلى البلدان التي يُفترض أن تكون متحمسة ومجهزة نظرياً لاستضافة خصوم بوتين: إنها دول الاتحاد الأوروبي. أغلقت هذه الدول نقاط الدخول بشكلٍ شبه كامل من روسيا، براً وجواً، وأصبح حصول الروس على التأشيرات شبه مستحيل. وحتى فنلندا، التي وافقت في البداية على استقبال آلاف الوافدين الروس، عادت وأعلنت أنها ستغلق حدودها.

تتعارض قيود السفر هذه مع المصالح الغربية، فهي تنعكس سلباً على الحرب في أوكرانيا وعلى الحركات المعادية لبوتين في روسيا. منذ بدء الغزو مثلاً، استضافت لاتفيا مجموعة كبيرة من الصحفيين المنفيين الروس الذين شاركوا في تحدي أفكار بوتين بشأن الحرب. لكن عادت الحكومة واتخذت موقفاً أكثر صرامة بشأن الوافدين الروس الجدد. تشتق هذه السياسات في دول أخرى من الاتحاد الأوروبي من حملة أوسع لمعاقبة الروس العاديين على الحرب. في البداية كانت هذه الحملة تُركّز على العقوبات الاقتصادية، لكن بدأت حكومات أوروبية متزايدة تمنع سفر الروس إلى الخارج خلال الصيف.

قد تهدر أوروبا بهذه الطريقة فرصة مهمة لمساعدة هذه الفئة من الروس، فقد يشكل هؤلاء أكبر قيمة استراتيجية يمكن الاستفادة منها. حتى أن هذا الموقف يغفل عن تاريخ طويل وناجح من الدعم الغربي للمنفيين الروس. مع دخول الحرب في أوكرانيا مرحلة جديدة وأكثر خطورة اليوم، يجب أن يفهم المعنيون تداعيات هذا الحظر ونتائجه العكسية على المدى الطويل. في الوقت نفسه، أصبح الوضع طارئاً بالنسبة إلى الروس أيضاً، إذ يبدو أن الكرملين يتجه إلى إغلاق حدود البلد قريباً أمام المؤهلين للتجنيد العسكري، ما يعني أن فرصة الخروج من البلد قد تتلاشى سريعاً. دعمت أوكرانيا قرارات الحظر الأوروبي بقوة، لكن يُفترض أن تعيد النظر بمعارضتها دخول الروس، علماً أن موقفها هو الذي أثّر في قرارات القادة الأوروبيين. أعلن بعض القادة في أوروبا أنهم لن يفكروا بقبول طالبي اللجوء الروس، مع أنهم يخالفون بذلك عدداً من المبادئ الأساسية لعقيدة حقوق الإنسان الأوروبية.

كان نشوء "روسيا الأخرى" جزءاً من نتائج تاريخ الهجرة الروسية الطويل والمؤلم خلال القرن العشرين. تشير هذه التسمية إلى الجماعات المنفية الحيوية التي تشكّلت في الغرب خلال الحقبة الشيوعية، وتؤكد هذه الفكرة هرب أفضل وألمع الأشخاص من روسيا (مفكرين، وفنانين، وصناعيين، وكتّاب، وأرستقراطيين، وأعضاء في الكنيسة) كي لا يلطّخهم فساد النظام السوفياتي. كانت "روسيا الأخرى" مجرّد رؤية خيالية عن البلد طبعاً، لكنها بقيت فكرة جاذبة لكل من يقيم في الاتحاد السوفياتي.

على مرّ الحرب الباردة، شارك الغرب في ترويج ذلك المفهوم عبر شركات إعلام أميركية مموّلة من بريطانيا والولايات المتحدة، فساهمت هذه المؤسسات في تطوير الروابط بين المواطنين السوفيات و"روسيا الأخرى" والحفاظ عليها. كذلك، عمدت تلك الشركات إلى توظيف المهاجرين الروس وعبّرت عن توجّهاتهم، وكانت هذه المقاربة جزءاً من استراتيجية متعمّدة طوّرها الدبلوماسي جورج كينان وآخرون في فترة الحرب الباردة.

خلال الحقبة السوفياتية، تعامل الكرملين مع مفهوم "روسيا الأخرى" بجدّية مطلقة، فاستهدفت الاستخبارات السوفياتية الروس الذين حاولوا أن يهاجروا أو كانوا قد هاجروا أصلاً عبر استعمال جميع الوسائل المتاحة، بدءاً من الاغتيالات وصولاً إلى حملات التضليل، لإضعاف نشاطاتهم. في المقابل، حاول أول رئيس ديمقراطي روسي، بوريس يلتسن، أن يحصد دعم أعضاء "روسيا الأخرى" في محاولة منه لتدمير بقايا الحُكم الشيوعي، فدعا المهاجرين الروس مباشرةً إلى المشاركة في بناء دولة جديدة، وأعطى الخدمة الروسية لراديو الحرية الإذن لفتح مكتب في موسكو، بعد أسبوع على فشل الانقلاب الذي قادته الاستخبارات السوفياتية في آب 1991.

تعامل بوتين أيضاً بجدية مع "روسيا الأخرى" عند وصوله إلى السلطة، لكن كانت أسبابه تختلف عن دوافع يلتسن، فهو أعاد إحياء الرؤية العالمية لأسلافه السوفيات واعتبر المنفيين السياسيين الروس مصدر تهديد. لقد أراد أن تنشأ روسيا موحّدة ولم يتحمّل فكرة وجود نسخة بديلة عنها. منذ تشرين الأول 2001، أنشأ بوتين هيئة للمهاجرين الروس وسارع إلى السيطرة على عناصر أساسية من حركة الهجرة الروسية، لا سيما في أوساط الكنيسة. وبفضل جهود بوتين الشخصية، أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الخارج جزءاً من بطريركية موسكو. إنه جزء من الأسباب التي تفسّر دعم الكنيسة اليوم للحملة الدعائية الحربية التي ينشرها الكرملين.

يثبت تاريخ "روسيا الأخرى" الطويل أن الغرب يميل إلى تجاهل المنفيين الروس ويجازف بمواجهة تداعيات خطيرة. إذا كانت القوى الغربية جدّية بشأن احتواء التهديد العسكري الروسي، فيجب أن تطبّق استراتيجية تتجاوز حظر التأشيرات والفرضيات البسيطة التي تختزل المجتمع الروسي بكيان واحد. أولاً، يجب أن تدرك الحكومات الأوروبية أن الجماعات الروسية في الخارج، بمن في ذلك الفئات المقيمة داخل بلدانها، توسّعت بفضل موجة الهجرة الكثيفة خلال العقود السابقة. كذلك، يشكّل مجتمع المنفيين ساحة معركة أخرى، وهي من أهم الساحات على الأرجح، حيث يحتدم الصراع لاستمالة الشعب الروسي. لكن لا يمكن التأكيد على انتصار الغرب في ساحة المعركة هذه في الوقت الراهن. على عكس الهاربين من الحرب اليوم، يبدو أن جزءاً من الروس الذين يحملون جنسية أخرى في البلدان الأوروبية لم يقتنع بالحملة المعادية لبوتين. شارك آلاف الروس مثلاً في تظاهرات داعمة للكرملين في ألمانيا، في 9 أيار الماضي، تزامناً مع ذكرى "يوم النصر" الروسي. يملك هؤلاء المحتجون المؤيدون للكرملين جوازات أوروبية، ما يعني أن حظر التأشيرات لن يُسهّل التعامل مع هذه الفئة من الناس. يُفترض أن تتكلم معهم جهات مؤثرة، ولا أحد أفضل من الصحفيين أو نخبة المفكرين الروس لأداء هذه المهمة.

ثانياً، يجب أن تضع الحكومات الغربية استراتيجية واضحة حول أحدث نسخة من "روسيا الأخرى"، أي نخبة المفكرين التي غادرت البلد بسبب حرب بوتين. لا يستطيع الغرب أن يتجاهل وجود هذه الموجة الجديدة أو يلغيها بكل بساطة. أدّى غزو أوكرانيا، ثم التعبئة التي أعلن عنها بوتين حديثاً، إلى زيادة المخاطر المطروحة بطريقة جذرية. لا يقتصر الهدف الأساسي على تحديد

الطرق التي تسمح بإرساء الديمقراطية في روسيا مستقبلاً، بل إنه يتعلق أيضاً بالمشاركة في هزم الغزو الروسي لأوكرانيا اليوم وجعل أي أشكال أخرى من العدوان مستحيلة. وفي ظل توجّه روسيا إلى إغلاق حدودها أمام الروس الذين يحاولون المغادرة، قد ينفد الوقت الذي يملكه الغرب للتحرك.

يجب أن يقرر الغرب ما يريد تحقيقه مع الروس في الخارج. إذا أرادت الحكومات الأوروبية أن تشارك في إضعاف الجهود الحربية الروسية، فيجب أن تعرف أن هامش التحرك أصبح ضيقاً أمامها، إذ يبحث عشرات آلاف الروس اليوم عن ملجأ آمن لهم لتجنب إرسالهم إلى القتال في أوكرانيا قبل أن تمنعهم موسكو من الرحيل. إذا كانت أوروبا تريد حصول ذلك، فيجب أن تتمسك بموقفها حين تتعامل الحكومات الغربية مع رجال الأعمال الروس عندما يطلبون تأشيرات استثمارية، أو مع خبراء تكنولوجيا المعلومات الروس الذين يسعون إلى تغيير مكان إقامتهم بأي ثمن. قد لا يحمل جزء منهم مواقف معادية للحرب، ويرغب آخرون في عيش حياة مريحة في الغرب بكل بساطة. لكن في هذه المرحلة من الحرب، لا يستطيع الغرب أن يتحمّل كلفة تجاهلهم. تشكّل هذه المجموعة فئة قيّمة قد تبقى في روسيا وتساعد بوتين على خوض حربه وتقوية قدراته السيبرانية، أو قد تقيم في الخارج وتقدّم مساهماتها للمجتمع الغربي. إذا اقتنص القادة الغربيون هذه الفرصة، سيسيرون على خطى أسلافهم في الحرب الباردة ويتفوّقون في معركة استمالة الروس. حتى أنهم قد يطرحون أنفسهم كقدوة للتعامل مع مواطنين يحاولون الهرب من بلدان تطغى عليها أنظمة إجرامية.

لكن إذا أصرّت الحكومات الأوروبية على مسارها الراهن، قد تجعل دخول الروس إلى أوروبا امتيازاً تستفيد منه مجموعات صغيرة ومنتقاة، ما يزيد مصاعب المنفيين الذين يحاولون إنشاء نسخة مختلفة من روسيا. وإذا لم تساعد تلك الحكومات من يحاولون الهرب الآن، فقد تُسهّل بكل بساطة إرسالهم إلى صراعٍ تتوق أوروبا إلى إنهائه، وقد يضطر هؤلاء للتضحية بحياتهم هناك في نهاية المطاف. لن يكون حظر التأشيرات الأوروبية كافياً لتغيير مسار الحرب، حتى أنه قد يطيل مدة سفك الدماء بعد تجاهل الروس العاديين، ما يعني الإمعان في عزل الروس عن العالم الواقع خارج نفوذ بوتين.