براين ميلاكوفسكي

متواطئون أم وطنيون؟

13 تشرين الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

نزوح جماعي من مدينة بوكروفسك الأوكرانية - آب 2022

في 11 أيلول الماضي، كان يُفترض أن يحيي نجم البوب الروسي الشوفيني، أوليغ غازمانوف، حفلاً موسيقياً بعنوان "روسيا باقية إلى الأبد!"، في مدينة "إزيوم" الأوكرانية، في إقليم "خاركيف" الشمالي الشرقي الذي احتلته روسيا في بداية شهر آذار. لكن قبل ظهور غازمانوف على المسرح، أطلق الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً مدمّراً في المنطقة، فحرّر "إزيوم" وأخرج القوات الروسية التي تفتقر إلى المعدات من مساحة 6 آلاف كيلومتر مربع. 



لم يكن ذلك الحفل الموسيقي الحدث الوحيد الذي دمّره الهجوم الأوكراني. بعد هزيمة الجيش الروسي بهذه الطريقة المهينة، أجرى الرئيس فلاديمير بوتين استفتاءً صُوَرياً في المناطق الأوكرانية التي يتابع احتلالها، لا سيما "دونيتسك"، و"خيرسون"، و"لوهانسك"، و"زابوريزهزهيا". كشفت النتائج المزورة أن أغلبيات ساحقة تؤيد الانفصال عن أوكرانيا، ثم أعلن بوتين بعد بضعة أيام الاستحواذ على تلك الأراضي رسمياً. في غضون ذلك، تابع الجيش الأوكراني تقدّمه الناجح شرقاً، واستولى على مدن وبلدات كان بوتين قد اعتبرها للتو أراضي روسية. اليوم، تتابع القوات الأوكرانية السعي إلى استرجاع جزءٍ من المناطق التي تخضع لسيطرة روسيا منذ بدء الحرب.

إنه تطور ممتاز لأوكرانيا وحلفائها الغربيين، لكن يطرح هذا الوضع مشكلة على كييف أيضاً. أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في تشرين الأول، أن سكان المناطق المحتلة الموالين لأوكرانيا ليس لديهم ما يخشونه، فقال: "لطالما كانت مقاربتنا واضحة وعادلة: إذا لم يتعاون الشخص مع المحتلين ولم يَخُن أوكرانيا، لا يمكن اعتباره متواطئاً". لكن قد يكون تحديد المتواطئين أكثر تعقيداً مما يظن. تتراوح مستويات الذنب بين الخيانة المباشرة والمشاركة الجامدة. يجب أن يفكّر زيلينسكي إذاً بالتوازن المناسب بين العقوبات وجهود إعادة الاندماج في مناطق مثل "دونباس"، حيث حافظ جزء كبير من الموظفين الحكوميين على مناصبهم خلال الاحتلال. إنها المناطق التي تسعى الحكومة الأوكرانية إلى دمجها بالكامل منذ الغزو الروسي الأول في العام 2014، وقد حققت بعض النجاح في مساعيها. ستكون المقاربة المدروسة لتحديد المتواطئين أساسية خلال المرحلة المقبلة.

في أولى أيام الاحتلال، كان معظم السكان الموالين لروسيا والمستعدين لتقبّل قوات الاحتلال متقاعدين يحنّون إلى عصر الاتحاد السوفياتي. لكن بعد ترسيخ شكلٍ طبيعي ومزيّف من الاحتلال، ظهرت جماعات أكثر تنوعاً من الناحية الديمغرافية وسط الروس الموالين لروسيا في شوارع وساحات البلدات، فراحوا يلوّحون بأعلام صغيرة خلال احتفالات "اليوم الروسي" ويلصقون رمز الدعم للاحتلال ("Z") على سياراتهم. في "كوبيانسك"، في إقليم "خاركيف"، تجمّع عدد من المراهقين لنزع الدرع الأوكراني عن المركز الثقافي المحلي بالمطارق، ثم أجروا مقابلات مع طاقم تلفزيوني روسي في الجوار وعبّروا خلالها عن احتقارهم لأوكرانيا.

لكن تختلف نسبة من رحّبوا بالاحتلال الروسي في أنحاء الأراضي المحتلة في الجنوب الشرقي بطريقة تعكس عموماً الاختلافات التي ظهرت في العام 2014. في "خيرسون" مثلاً، يبقى الدعم الصريح لروسيا نادراً، ويتعلق السبب على الأرجح بالاعتداءات التي أودت بحياة عدد كبير من المتواطئين المحليين. وفي منطقة "خاركيف"، تشير تقارير أولية إلى انقسام الولاءات بالتساوي، مع أن هذه الظاهرة اتّضحت بعد هرب عدد هائل من السكان الموالين لأوكرانيا. وفي "لوهانسك" و"دونيتسك"، يشعر السكان الموالون لروسيا بالقوة نظراً إلى ارتفاع أعدادهم، وهم يسيطرون على المساحات العامة بعد تهجير جيرانهم الوطنيين أو اعتقالهم. نشأت أنماط محددة هناك، إذ تتصاعد مشاعر الولاء لأوكرانيا في المدن والمناطق التي كانت مندمجة مع الاقتصاد الوطني. في المقابل، تتوسع مشاعر التعاطف مع روسيا في القرى البعيدة ومدن الفحم الكئيبة حيث تبقى مظاهر التفاؤل الاقتصادي ضئيلة.

هرب السكان الذين دعموا روسيا من "خاركيف" و"دونباس" غداة الهجوم الأوكراني العسكري المضاد، فحصلت زحمة خانقة على المعابر الحدودية نحو روسيا. شملت موجة النزوح هذه بيروقراطيين نخبويين تخلوا عن ولائهم الأصلي وكانوا يقودون سيارات مستوردة باهظة، فضلاً عن أشخاصٍ يملكون سيارات قديمة من الطراز السوفياتي، ما يعني أن مناصري روسيا من أصحاب الإمكانيات المتواضعة كانوا يهربون أيضاً. شرح البعض للصحافيين الغربيين أنهم يخشون التعرض للاضطهاد ويقلقون على مصير المتواطئين الآخرين في "خيرسون"، فقد يجد هؤلاء أنفسهم متروكين فجأةً إذا تابع الجيش الأوكراني تقدّمه.

هذه المخاوف مبررة، إذ يطالب عدد كبير من الأوكرانيين بمعاقبة المتواطئين مع الروس. هم يقولون إن أوكرانيا كانت متساهلة نسبياً مع منظّمي أول استفتاء روسي غير شرعي كان يهدف إلى تبرير احتلال نصف إقليم "دونباس" في العام 2014، وأصبح جزء كبير من الأشخاص أنفسهم متواطئين مجدداً في العام 2022. يُجرّم قانون مرّره البرلمان في شهر آذار الماضي التعاون مع الدول المعتدية، وهو لا يعفي إلا الأطباء والعاملين في خدمات الطوارئ والصيانة. قد يُحاكَم إذاً الموظفون الحكوميون الآخرون إذا بقيوا في مناصبهم، خصوصاً المعلّمين والعاملين الاجتماعيين.

تكمن الصعوبة الحقيقية في التحقق من نوايا هؤلاء الأفراد وصلاحياتهم. اختار عدد صغير نسبياً من المسؤولين المُنتخَبين التعاون مع الروس، لكن عاد جزء كبير من البيروقراطيين المحليين إلى مناصبهم مع مرور الوقت. أقدم البعض على ذلك بكل سرور وشتم الدولة الأوكرانية صراحةً، لكن اتخذ البعض الآخر هذه الخطوة على مضض. وبغض النظر عن حماسة هؤلاء الموظفين الحكوميين، تنشر وسائل الإعلام الروسية والانفصالية دوماً صوراً وفيديوات لهم تحت العلم الروسي، وتظهر هذه اللقطات خلال ساعات على قنوات "تلغرام" الأوكرانية التي تراقب المتواطئين والمناصرين وتنقل معلوماتهم الشخصية إلى أجهزة الأمن الأوكرانية. لم تترك روسيا بهذه الطريقة أي فرصة نجاة لمن تقبّلوا الاحتلال كواقعهم الجديد.


قد يواجه البعض مأزقاً حقيقياً إذا كان بقاؤه في منصبه غير مرتبط بأي أسباب إيديولوجية. ألموت روشوانسكي هي ناشطة دولية في مجال بناء السلام، وهي تعمل منذ العام 2014 مع نساء ناشطات في شرق أوكرانيا لدعم المدنيين في الأراضي المحتلة. تزعم نساء تتواصل معهنّ روشوانسكي أن المعلمين والعاملين الاجتماعيين بقيوا في مناصبهم في بعض الحالات لأنهم كانوا يخشون ألا يساعد أحد ضحايا العنف المنزلي والاغتصاب، وهما جريمتان شائعتان في مناطق الحرب. برأي إحدى الناشطات، يُعتبر هؤلاء الموظفون "جزءاً من فريقهم" وليسوا عملاء للعدو، لذا يُفترض ألا يُعاقَب كل من بقي في الأراضي المحتلة.

لكن تدعو أولئك النساء في الوقت نفسه إلى معاقبة الحكام المحليين الذين تعاونوا مع المحتلين الروس ومنظّمي الاستفتاء الأخير. من المتوقع أن تتصاعد الدعوات إلى المحاسبة بعد انتشار تقارير عن اكتشاف غرف تعذيب ومقابر جماعية غداة تحرير "إزيوم" ومدن أخرى. لن يتحمّل الأوكرانيون العودة إلى الوضع السابق لأي سبب.

في غضون ذلك، من المتوقع أن تتكثف حملة البحث عن المتواطئين في المناطق التي تشهد انهيار البنية التحتية والإسكان وقطاع الطاقة، وموجات نزوح جماعية، وصدمات نفسية، بسبب الحرب. يجب أن تطبّق الحكومة الأوكرانية مقاربة شفافة ومسؤولة لتحديد المتواطئين ومعاقبتهم، كي لا تصبح هذه الحملة سبباً آخر لتأجيج الصدمات التي يعيشها السكان الغارقون في الأزمات. يُفترض أن تتجنب أوكرانيا إذاً العقوبات الجماعية بحق فئات كاملة من المتواطئين المزعومين، فتعطيهم حق الاستئناف وتفكر بظروف مُخفّفة في بعض الحالات. قد تسهم هذه العملية، عند تطبيقها بإنصاف، في ترسيخ مظاهر المساءلة، والعدل، وحُكم القانون، في المناطق التي تتخلص من الاحتلال الروسي المنافي لجميع المبادئ.