من قال إنّ السياسة الخارجية لا تضمن الفوز بالانتخابات؟

10 : 07

مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في العام 2020، يبدو دونالد ترامب مضطراً لاعتبار سجله في السياسة الخارجية ناجحاً بامتياز. صحيح أنه لم يُقدِم على بناء جدار حدودي مع المكسيك، لكنه نفذ وعوده بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران واتفاق باريس للمناخ، واعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وأعاد التفاوض حول "اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية"، وضغط بشراسة على الصين في الملف التجاري. حتى أنه حقق عدداً كبيراً من الوعود التي أطلقها خلال حملته، بغض النظر عن موقف بقية الأطراف الأميركية منها.
لكن تكشف استطلاعات الرأي العام واقعاً مختلفاً. صحيح أن مواقف الأميركيين من السياسة الخارجية تميل إلى التغيّر ببطء شديد، لكن ترصد الاستطلاعات الحاصلة منذ انتخاب ترامب في العام 2016 مجموعة من التحولات اللافتة، لا سيما بين الناخبين الديمقراطيين. في زمن حركة "أميركا أولاً"، يبدو الديمقراطيون أكثر ميلاً من العادة إلى تأييد حلفاء الولايات المتحدة ومبدأ التعددية. تدعم الأغلبية الساحقة من الديمقراطيين الاتفاق النووي مع إيران واتفاق باريس للمناخ والتبادلات التجارية، علماً أن ترامب يتعرض لانتقادات لاذعة في هذه الملفات كلها. كان مفاجئاً أيضاً أن يتقاسم الرأي العام ككل هذه الآراء، ولو بأكثرية أصغر حجماً.


من الواضح أن الديمقراطيين يبحثون عن زعيم قادر على إعادة إحياء التحالفات المهمة التي تلاشت في عهد ترامب. فقد كشف استطلاع جديد من تنظيم "مركز بيو للأبحاث" أن 70% من الديمقراطيين وأصحاب الميول الديمقراطية يعتبرون تحسين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة أهم هدف في السياسة الخارجية. كذلك، يعتبر معظم الديمقراطيين أن العلاقات الأميركية مع بقية بلدان العالم بدأت تتدهور (بنسبة 85%، وفق استطلاع حزبي غير منشور نظّمه "استطلاع مجلس شيكاغو" في العام 2018)، وأن الولايات المتحدة بدأت تخسر حلفاءها (بنسبة 77%، وفق الاستطلاع نفسه). يحمل الناخبون عموماً انطباعات مماثلة، إذ يعتبر 56% من الأميركيين أن العلاقات الخارجية تتدهور، ويظن 57% منهم أن الولايات المتحدة تخسر حلفاءها. أمام هذا الوضع، تبدو "نجاحات" ترامب في السياسة الخارجية أقرب إلى الأعباء، ومن المتوقع أن يستعمل منافسوه الديمقراطيون هذه النقاط ضده.

تغيير جذري

يمكن رصد حجم تأثير ترامب وظروف انتخابه في طريقة تصنيف أولويات السياسة الخارجية بنظر الديمقراطيين. غالباً ما تتصدر ملفات الإرهاب وكوريا الشمالية والاعتداءات الإلكترونية لائحة التهديدات المحتملة على الولايات المتحدة في استطلاعات الرأي. لكن لاحظ "استطلاع مجلس شيكاغو" في العام 2018 أن الديمقراطيين اعتبروا التهديد الروسي في الانتخابات الأميركية أخطر من جميع التهديدات الأخرى. وكشفت استطلاعات مؤسسة "غالوب" بدورها عن زيادة كبيرة في نسبة الديمقراطيين التي تعتبر القوة العسكرية الروسية تهديداً خطيراً (بنسبة 65% في العام 2019، بعدما اقتصرت على 38% في استطلاع غير منشور في العام 2016). تتعلق المفاجأة الحقيقية راهناً بميل الديمقراطيين إلى تأييد المحاولات الأميركية لاحتواء روسيا أكثر من مناصري الحزب الجمهوري!
الوضع معاكس في الملف الصيني! يعتبر 54% من الجمهوريين أن القوة الاقتصادية الصينية تطرح تهديداً كبيراً، بينما تقتصر هذه النسبة على 37% في معسكر الديمقراطيين، وفق استطلاعات حزبية غير منشورة أجرتها مؤسسة "غالوب" في العام 2019. لا يعتبر الرأي العام ككل الصين مصدر تهديد بقدر القادة السياسيين الأميركيين من الحزبَين. لكن بعد سنة على تصاعد التوتر التجاري بين البلدين، تكشف استطلاعات الرأي عن اقتناع الناس بتضرر العلاقات الأميركية الصينية. ورصد استطلاع في مؤسسة "غالوب" في شهر شباط تراجعاً بمعدل 12 نقطة عن السنة الماضية في نِسَب تأييد الأميركيين للصين، واكتشف "استطلاع مجلس شيكاغو" للعام 2019 أن معظم الأميركيين يضعون الولايات المتحدة والصين اليوم بمصاف الخصوم وليس الشركاء. بين العامَين 2006 و2018، كانت الآراء منقسمة في هذا المجال.


على صعيد آخر، أحدث ترامب تغيرات في الآراء المرتبطة بملف الهجرة، مع أن الحزبين بدآ يغيّران رأييهما بهذا الموضوع قبل انتخابه بأكثر من عشر سنوات. بين التسعينات والعام 2002، كان الاختلاف بسيطاً بين مواقف الجمهوريين والديمقراطيين في موضوع الهجرة. لكن بحلول العام 2019، أجمع 84% من الديمقراطيين وأصحاب الميول الديمقراطية على اعتبار "المهاجرين مصدر قوة للبلد بفضل عملهم الشاق ومهاراتهم". في المقابل، اقتصرت نسبة الجمهوريين التي تحمل هذا الرأي على 42% وفق استطلاع مركز "بيو". وتسود نزعة مشابهة في "استطلاعات مجلس شيكاغو" خلال الفترة الزمنية نفسها. في أوساط الجمهوريين، تُعتبر الهجرة اليوم أكبر تهديد مطروح على البلد، إلى جانب الإرهاب الدولي، بينما يضعها الديمقراطيون دوماً في أسفل الترتيب.
ربما تتعلق أهم ظاهرة في عهد ترامب بميل الأميركيين إلى تبني موقف إيجابي من التجارة. لطالما كانت حماية الوظائف الأميركية هدفاً سامياً بنظر الناخبين من جميع الأحزاب، لكنّ انتقاد التبادلات التجارية الذي طبع الحملات السابقة لن ينفع هذه المرة على الأرجح. رغم تصدّر الخلافات التجارية بين ترامب والصين والمكسيك عناوين الصحف اليومية، زاد تأييد الرأي العام للتجارة بشكلٍ جذري خلال السنة الماضية. كان لافتاً أن تتغير مواقف الجمهوريين على وجه التحديد: في العام 2019، اعتبر 70% منهم أن التجارة فرصة للنمو، بعدما اقتصرت هذه النسبة على 51% في العام 2015. بشكل عام، ارتفعت نسبة الأميركيين (74%) التي تعتبر التجارة الخارجية فرصة للنمو الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى منذ العام 1992، وفق استطلاعات مؤسسة "غالوب"، مع أن نتائج الاستطلاعات تبقى متضاربة بشأن قدرة التجارة على خلق فرص العمل أو تدميرها.

أكبر نقطة ضعف لترامب...

وفق الأفكار التقليدية، لا يمكن الفوز بالانتخابات الرئاسية بناءً على السياسة الخارجية. يَقِلّ عدد الأميركيين الذين يعتبرون مسائل التجارة والنمو بأهمية الوظائف أو الرعاية الصحية. لذا ليس مفاجئاً ألا تلقي السياسة الخارجية بثقلها على الحملات الرئاسية إلا في حالات نادرة. أطلقت حرب العراق جدلاً محتدماً قبل انتخابات العام 2004، لكنها لم تمنع الرئيس جورج بوش الإبن من الفوز بولاية ثانية. وحتى في انتخابات العام 1968 التي تزامنت مع تداعيات حرب فيتنام، أعطى معظم الناخبين أصواتهم بناءً على ملفات محلية.
لا تتمحور الحملات الرئاسية حول السياسة الخارجية في العادة لأن خيارات الناخبين في هذا المجال تتغيّر ببطء تاريخياً. سألت مؤسسة "غالوب" الأميركيين عن الدور الأميركي في حل المشاكل الدولية 13 مرة منذ العام 2001، فأيّد سبعة أشخاص من كل عشرة تقريباً ضرورة أن تؤدي الولايات المتحدة دوراً رائداً أو بارزاً في هذا الملف. كذلك، كشفت "استطلاعات مجلس شيكاغو" في العام 1974 أن أغلبيات مستقرة تدعم الدور الأميركي الناشط على الساحة الدولية. في ظل هذا الإجماع حول الحاجة إلى التزام الولايات المتحدة بالشؤون العالمية، لطالما وجد الطامحون للرئاسة صعوبة في التميّز في ملفات السياسة الخارجية. صوّت المرشح الرئاسي الديمقراطي جون كيري لصالح حرب العراق مثلاً، قبل أن ينتقد طريقة تعامل بوش مع تلك الحرب في العام 2004. وفي العام 1968، كان الفارق بسيطاً بين المرشحَين الرئاسيَين ريتشارد نيكسون وهوبرت هامفري حول حرب فيتنام.
حتى الآن، يدعم معظم الأميركيين الالتزام الأميركي بإدارة الشؤون الدولية وأداء دور قيادي مشترك، فضلاً عن مشاركة الولايات المتحدة في مختلف التحالفات والاتفاقيات. حتى أن الناخبين الأميركيين كثّفوا التزامهم بهذه المبادئ في آخر سنتين، بينما سار الرئيس في الاتجاه المعاكس. تكشف استطلاعات كثيرة عن تراجع التأييد لأجندته الخارجية، بدءاً من إيران وصولاً إلى التغيّر المناخي والتجارة، إذ عبّر 57% من المشاركين في استطلاع جديد في "مركز التقدم الأميركي" عن معارضتهم لأدائه في الملفات الخارجية. من المنطقي إذاً أن يستغل الديمقراطيون الطامحون للرئاسة نقاط الضعف هذه خلال الحملة الانتخابية. قد تكون السياسة الخارجية هذه المرة المسألة التي تُرَجّح كفة طرفٍ على آخر!


MISS 3