وحده بوتين قادر على إرساء السلام في أوكرانيا!

10 : 24

في 9 كانون الأول، قابل الرئيس الأوكراني الجديد فولوديمير زيلينسكي الرئيس الروسي بوتين وجهاً لوجه في باريس. فحافظ على كرامته ولم يقدم أي تنازلات: إنه إنجاز حقيقي نظراً إلى المصالح المتضاربة والضغوط التي يتعرض لها هو وبلده البائس الذي يمر بأوقات صعبة. بعد اجتماعات طويلة، اتفق الجاني والضحية بكل بساطة على تبادل السجناء ووقف إطلاق النار في بعض المناطق والاجتماع مجدداً في نيسان. ثم اعتبر زيلينسكي النتيجة "تعادلاً" بين الطرفين، وهو نجاح يُحسَب له ضد عدوه.

إجتمعت روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا بصفتها دولاً أعضاء في "قمة النورماندي" التي تهدف إلى إنهاء الحرب التي بدأت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2014. خلال السنة نفسها، شملت المحادثات في البداية روسيا، وأوكرانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي في جنيف، تحت رعاية الأمم المتحدة. لكن فشلت هذه المساعي ورفض بوتين مشاركة الكتلتَين النافذتَين بطريقة خارجة عن سيطرته، ثم اختار فرنسا وألمانـيا بدلاً منهما.تناقش القـادة في قصر الإليزيه طوال ثماني ساعات، وتخلل النقاش عشاء فاخر طبعاً. في ذلك اليوم، مات ثلاثة جنود أوكرانيين، فارتفعت بذلك حصيلة قتلى الجيش إلى 4100 عنصر تقريباً وفق مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. حتى الآن، أدى الهجوم الروسي إلى سقوط 14 ألف قتيل، وتهجير مليون ونصف المليون أوكراني، وتدمير معقل الصناعة في أوكرانيا، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم. يُعتبر هذا الصراع أكبر كارثة إنسانية تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.مع ذلك، يتبنى ماكرون سياسة متساهلة مع روسيا، حتى أنه عكّر صفو السياسة الأوروبية واستخف بمكانة أوكرانيا في الأشهر الأخيرة. سارع الرئيس الفرنسي إلى اعتبار القمة ناجحة، مع أن جهوده كانت مجرد مبادرة إيجابية، على غرار تحركاته اللاحقة. لن يتغير شيء طالما يبقى بوتين رئيس روسيا ويتولى ماكرون قيادة المحادثات.




لم يكن بوتين يسعى إلى عقد السلام، بل أراد أن يكسب تأييد شركائه في القمة تزامناً مع إلحاق ضرر إنساني وإقتصادي بالأوكرانيين. منذ العام 2015، زادت الصادرات الفرنسية إلى روسيا بنسبة الضعف تقريباً، ويجاهر ماكرون الآن بأهمية العلاقة المباشرة مع روسيا بالنسبة إلى أوروبا. أما ألمانيا التي تمثلت في الاجتماع بالمستشارة ميركل المُنتهية ولايتها، فتوشك على التحول إلى أهم معقل أوروبي للغاز الطبيعي الروسي بعدما أنهت شركة "غازبروم" الروسية تركيب خط أنابيب "نورد ستريم 2". حاربت معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ذلك المشروع لأنه سيقصي بريطانيا ويضعفها. هذا المشروع برأيهم هو سلاح على شكل خط أنابيب تحت الماء، ويعطي بوتين القدرة على إغراق الدول والجمهوريات الأوروبية التابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي في الظلام أو الركود.

أطلق رئيس حكومة بولندا السابق، ماتيوس موراويكي، تحذيراً في هذا الصدد منذ سنتين فقال: "عند بناء خط "نورد ستريم 2"، سيفعل بوتين ما يشاء بأوكرانيا، ثم ينتشر جيشه على الأرجح على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي".على صعيد آخر، تضع الولايات المتحدة، حليفة أوكرانيا الأخرى، أرقام الرئيس وبوتين على قائمة الاتصال السريع. وبدل تقديم دعم شامل لبلد محاصر، ينشغل البيت الأبيض بمستنقع إجراءات عزل الرئيس الأميركي. من دون دعم أميركي قوي، انتفض "الشارع" الأوكراني مجدداً قبل الاجتماع وتجمّع الآلاف مسبقاً للتحذير من إلغاء أي "خطوط حمراء" أو التنازل لصالح بوتين. نجحت هذه التظاهرات الحاشدة ضد الكرملين، كما حصل في العامَين 2004 و2014.

ثم أطلقت واشنطن إشارات متضاربة. بعد يوم على لقاء باريس، استضاف ترامب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في البيت الأبيض، وهو اجتماع طالب به زيلينسكي لكنه لم يحصل عليه منذ انتخابه. لكن بعد يومين، فرض الكونغرس عقوبات قاسية لتأخير خط "نورد ستريم 2" بمعدل سنتين أو حتى ثلاث سنوات ولمنع "بوتين من الاستفادة من مليارات الدولارات التي يمكن استعمالها لتأجيج العدائية الروسية"، كما يقول السيناتور الجمهوري تيد كروز.

في غضون ذلك، اضطربت القارة الأوروبية ككل بسبب مواقف ترامب وخطة "بريكست"، لكن أصدر ماكرون طوال أسابيع أيضاً سلسلة من التصريحات التي قلبت أوروبا رأساً على عقب. فاعتبر حلف الناتو في حالة "موت دماغي"، وأعلن عن رغبته في الحد من حجم الاتحاد الأوروبي، وتشكيل جيش أوروبي، وإنهاء عزلة روسيا. في الشهر الماضي، عارض وحده إطلاق محادثات مع ألبانيا ومقدونيا الشمالية بشأن انتسابهما إلى الاتحاد، فوضع بذلك أربعة بلدان أخرى من دول غرب البلقان في موقف صعب ووجّه رسالة مخيفة إلى أوكرانيا. في الوقت نفسه، كان بوتين يزيد الضغوط على صربيا ومولدوفا وجهات أخرى للانضمام إلى الاتفاق التجاري في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. لكن حين رفضت أوكرانيا ذلك الاتفاق في العام 2014 وفضّلت التوقيع على شراكة مع الاتحاد الأوروبي، غزت موسكو البلد رداً على هذه المواقف.تصاعد التوتر قبل موعد القمة بسبب تغريدة السفير الفرنسي السابق في الولايات المتحدة، جيرار آرو، الذي رضخ لبوتين بالكامل وكشف مقاربة الواقعية السياسية السائدة في الإليزيــه: "السؤال المحوري هو التالي: هل سيوافق بوتين على تحوّل أوكرانيا إلى دولة فاصلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي/الناتو، أم أنه يريدها دولة تابعة له"؟




لكن يفشل ماكرون دوماً في تحقيق أهدافه المرتبطة بإعادة تشكيل الاتحاد الأوروبي. ستكون العقوبات وتدابير عزل الكرملين مجرّد إجراءات دفاعية ضد أي اعتداء مستقبلي، وتُعتبر أوكرانيا الحاجز الوحيد في أوروبا ضد روسيا: لديها جيش يضاهي حجم الجيش الفرنسي (205 آلاف عنصر ناشط)، وتحمي قواتها التي اكتسبت خبرة واسعة في ساحات المعركة جدار أوروبا الشرقي من روسيا منذ ست سنوات تقريباً. اقتصادياً، تكثر المجالات الواعدة في أوكرانيا: يد عاملة شابة ومثقفة، تطور عالي المستوى في قطاع تكنولوجيا المعلومات، إمكانات زراعية وصناعية هائلة، ناخبون صوّتوا في معظمهم لصالح الديموقراطية وحكم القانون والانتماء إلى أوروبا.

كانت قمة باريس فاشلة حتماً. في مؤتمر صحافي، شكر بوتين ماكرون وميركل، لكنه تجاهل زيلينسكي. وبعد يومين، نسف احتمال عقد أي محادثات مقبلة خلال مؤتمره الصحافي في موسكو، في 10 كانون الأول، حين قال: "يصرّ الجانب الأوكراني على إعطائه فرصة لإغلاق الحدود باستعمال قواته العسكرية. لكن يسهل أن أتخيل ما سيحصل لاحقاً. ستتكرر أحداث سربرنيتشا بكل بساطة". كان يعني بكلامه المجزرة التي أقدم فيها صرب البوسنة (من العملاء المفضلين لدى بوتين اليوم) على قتل أكثر من 8 آلاف مسلم في أسوأ مذبحة جماعية شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

بوتين ونظامه عبارة عن بلطجية وفاسدين، وهم وحدهم قادرون على وقف هذه الحرب، لا صالونات النورماندي التي تعج بهواة معتادين على الأماكن الفاخرة. قد يعتبر قادة روسيا الأراضي المحتلة ورقة مساومة، لكن لا قيمة لهذه الورقة أمام مظاهر النهب والدمار التي نشروها. أو قد يرغبون في تحويلها إلى منطقة رمادية للتأثير على مسار أوكرانيا الغربي وتخريبه. لكن بغض النظر عن الاستراتيجية المنتقاة، ستبقى الحرب عبارة عن صراع جامد وتحتاج أوكرانيا إلى المضي قدماً. يقضي خيارها الوحيد بحماية نفسها من عمليات الغزو شرقاً وتحقيق الازدهار. على أوروبا أن تحذو حذوها أيضاً!


MISS 3