ماذا لو لم يكن ترامب مجنوناً؟

09 : 40

فيما يواجه الرئيس الأميركي إجراءات جدّية لعزله ويعقد في الوقت نفسه اتفاقاً تجارياً ثنائياً مهماً، حان الوقت للتفكير بالسؤال التالي: ماذا لو لم يكن دونالد ترامب مجنوناً؟ صفة "الجنون" مناسبة لوصف رئيسٍ يتفوه بكلماتٍ لا يقولها أي رئيس آخر، ويتشاجر مع خصومه بطريقة لا يفعلها أي رئيس آخر، ويتخلى عن مبادئ كثيرة تُحدد المعايير الطبيعية في واشنطن. حتى ترامب، الذي لا يعتبر نفسه "مجنوناً"، لا يمانع على ما يبدو الفكرة التي يأخذها خصومه المحليون والخارجيون عنه، حتى أنه يمزح بشأنها أحياناً.


ربما ينظر ترامب بإيجابية أيضاً إلى الاستنتاج الموحّد الذي يحمله كبار السياسيين عنه، من الحزبَين الأميركيين، بما في ذلك مسؤولون من أوساطه الخاصة. في حديث معهم عن هذا العالم البديل الذي يحكمه رئيس يؤكد على انضباطه وأحكامه المسبقة في المعارك التي ينضم إليها وفي المواقف التي تتدفق من فمه وأصابعه، توقّع معظمهم أن يبدأ ترامب سنة 2020 بأفضل مكانة ممكنة. مع تراجع نسبة البطالة إلى 3.5%، من المتوقع أن يفوز بولاية ثانية بكل راحة ويتجاوز الوضع الشاق الذي يواجهه راهناً. حتى أنه سيتباهى على الأرجح باختراق أهم أفكاره للحواجز القديمة وتحوّلها إلى ركيزة لتنفيذ أجندات الحزبَين الجمهوري والديمقراطي.

تثبت أفكار ترامب في مجال التجارة (اتضحت هذا الأسبوع في الاتفاق التجاري الجديد لأميركا الشمالية) أنه اختار مبدأ التجارة الحرة الذي تبنّته النُخَب ذات العقلية التجارية في الحزبَين معاً. وحتى فكرته القائلة إن الولايات المتحدة يجب أن تعتبر الصين خصماً طويل الأمد في مجال الاقتصاد وقوة عالمية قيد التطور بدأت تزداد شيوعاً في الحزبَين. كذلك، تتعدد أفكاره الأخرى التي كسبت التأييد، منها ضرورة إخراج البلد من "الحروب اللامتناهية"، وآراؤه المتساهلة حول إنفاق الحكومة ورفضه المفاهيم القديمة عن الضوابط المالية. في المقابل، تنقسم الآراء بشدة حول أفكاره بشأن الهجرة. لكن حتى في هذا الملف، نجح ترامب في كسب تأييد الناخبين من الطبقة العاملة بعدما كانوا من مناصري الحزب الديموقراطي.

كشف استطلاع أجرته جامعة "كوينيبياك" هذا الأسبوع أن 57% من الناخبين يعترفون بتحسّن وضعهم المالي منذ أن أصبح ترامب رئيساً: إنه مؤشر واضح على فرص إعادة انتخابه.

لكن يبرز عامل ضمني آخر يرتبط بالنتائج التاريخية. كان أهم الرؤساء مبتكرين على مستوى التواصل. لذا يمكن اعتبار براعة ترامب على موقع تويتر بمستوى براعة فرانكلين روزفلت على الراديو، أو براعة جون كينيدي وريغان في عالم التلفزيون.

بالتالي، ثمة جواب واضح على السؤال المرتبط بجنون ترامب: لقد أصبح رئيساً بسبب أسلوبه المبني على التحدي وكسر المعايير السائدة، ويصعب أن نتوقع فوزه لو أنه تكلم أو تصرف كأي سياسي عادي. يمكن تغيير السؤال الأساسي على الشكل الآتي: ماذا لو تمكن ترامب من تعديل العناصر التي تبدو جنونية كي تتماشى مع المحور السياسي والإعلامي التقليدي، فيستعملها حين تخدم أهدافه لكنه يتجنب في المقابل أبرز المواقف الصاخبة والمتطرفة؟

قد تبدو مهاجمة وسائل الإعلام أو السياسيين الديموقراطيين، من أمثال نانسي بيلوسي أو تشاك شومر، بإهانات شخصية لاذعة، مقاربة غريبة مقارنةً بالمعايير التقليدية، لكنها كفيلة باستمالة مناصري ترامب وتشكّل جزءاً من الصفات التي تجذب مؤيديه إليه. لكن من المتوقع في المقابل أن تؤدي مواقفه المتعاطفة مع مثيري الشغب في "شارلوتســفيل"، أو مهاجمة "مكتب التحقيقات الفدرالي" أو أشخاص من فريق الأمن القومي الخاص به، إلى نفور الشباب وسكان الضواحي، لا سيما النساء، من الحزب الجمهوري.

في الفترة الأخيرة، يبــــدو أن ترامب نفسه يشارك في لعبة التساؤلات. في تجمّع حزبي في "دالاس" في شهر تشرين الأول، عمد إلى تجميد جسمه وتكلم بنبرة رتيبة بما يشبه أداء أي سياسي تقليدي وقال: "سيدات وسادة تكساس، إنه لشرف كبير لي أن أكون معكم في هذه الأمسية". ثم أضاف على وقع هتافات الحشود: "يسهل أن يكون الشخص رئيساً. كل ما عليه فعله هو أن يبدو جامداً".




في تشرين الأول أيضاً، انتقد نفسه في لحظة نادرة، فخاطب الحشود قائلاً: "أنا أقدم أفضل أداء من دون تحضير مسبق. لكني أعترف أيضاً بأنني أقدم أسوأ أداء عندما لا أستعد مسبقاً". هذا التصريح يُذكرنا بمزاحه خلال عشاء صحافي في واشنطن، في العام 2018، حين تكلم عن تحضيراته للتفاوض مع الدكتاتور الكوري الشمالي الغريب كيم جونغ أون، فقال: "في ما يخص المجازفة التي ترافق التعامل مع رجل مجنون، إنها مشكلته لا مشكلتي".على صعيد آخر، كان خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه الرئيس في العام 2019 مثالاً حياً ومتماسكاً على أجندته السياسية، فقد اشتق جزء صغير من الخطاب على ما يبدو من النص المُحضّر مسبقاً أو استعمل لغة يصعب أن تصدر من أسلافه ("لو لم يتم انتخابي رئيساً للولايات المتحدة، أظن أننا كنا لنخوض الآن حرباً مع كوريا الشمالية").طرح تصريحه الرسمي في حملة إعادة انتخابه، خلال تجمّع في "أورلاندو" في حزيران، الأفكار نفسها. كان 20% من 7 آلاف كلمة عبارة عن هجوم شخصي من النوع غير المسبوق في العصر الحديث، لكنّ هذه المواقف ما عادت تلفت النظر حين تصدر عن ترامب ("هيلاري الملتوية"، "بيرنـي المجنون"، "الخصـوم الديموقراطيون المتطرفون الذين يتحركون بدافع الكره والأحكام المسبقة والغضب").بعد فترة قصيرة من انكشاف المسألة الأوكرانية هذا الخريف، ألقى ترامب خطاباً في "مينيابولس"، وطرح ثلثه أفكاراً متطرفة جديدة ("الاشتراكيون كارهو أميركا" في إشارة إلى النائبة ألحان عمر؛ "إما أنها غبية جداً أو فقدت صوابها بالكامل" في إشارة إلى بيلوسي؛ "هؤلاء الأشخاص مرضى نفسيون" في إشارة إلى خصومه عموماً). في السياق نفسه، سخر ترامب من العلاقة التي جمعت العميلان السابقان في "مكتب التحقيقات الفدرالي"، ليزا بايج وبيتر سترزوك، علماً أنهما خسرا عملهما بعد الكشف عن علاقتهما ونشر رسائل نصية معادية لترامب.ستان غرينبرغ هو منظّم استفتاءات ديمقراطي كتب حديثاً عبارة "الحزب الجمهوري، ارقد بسلام" لوصف مشاكل الجمهوريين القديمة والمتواصلة في حقبةٍ تشهد تغيرات ديمغرافية سريعة. فكّر غرينبرغ بسيناريو مختلف، حيث يبذل ترامب قصارى جهده بعد انتخابه لترسيخ مكاسبه بين الناخبين من الطبقة العاملة وكل من يشعر بأن السياسة التقليدية خذلتهم. كان ليطرح برنامجاً ضخماً للبنى التحتية ويُحدد محوراً جديداً للسياسة الأميركية. ما كان الجمهوريون في هذه الحالة ليخسروا في مجلس النواب في العام 2018، وكان ترامب ليضمن فوزه بولاية ثانية.لكنه مجرد سيناريو خيالي. بعد فوزه في العام 2016 استناداً إلى مواضيع ذات طابع عنصري مؤثر وحاجته الدائمة إلى تقوية روابطه بقاعدة ناخبيه للحفاظ على ولاء المحافظين المشككين، اضطر ترامب لتنظيم عهده الرئاسي بناءً على سياسة نشر الرسائل المثيرة للانقسام. يقول غرينبرغ: "ترامب ليس مجنوناً فحسب، بل إنه هجومي ولا شيء يردعه... لكنه يجازف بإيصال الجمهوريين إلى انتخابات كارثية على جميع المستويات في العام 2020".

لكن يحذر ستيف بانون، مستشار سابق لترامب في البيت الأبيض، معسكر المعارضة ويدعوه إلى عدم الاتكال على هذه النظرية. توقعت التوجهات السياسية التقليدية النتيجة نفسها في العام 2016، حتى أن بانون شخصياً دعا ترامب أحياناً إلى تخفيف أسلوبه العدائي، لكنه يضيف: "في النهاية تبيّن أنه كان محقاً وأنا مخطئ"!


MISS 3