آدم هوشايلد

لماذا تصالح بوتين مع ألدّ أعداء السوفيات؟

26 تشرين الأول 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 00

متطوعون ينتشلون جثث المدنيين الذين قتلوا في بوتشا وإرسالها للتحقيق | 12 نيسان ٢٠٢٢
يستحيل أن يشاهد أحد الغزو المتغطرس الذي أطلقه فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا من دون أن يشعر بالصدمة من وحشيتها. تناثرت جثث النساء والرجال المكبّلين في شوارع «بوتشا»، واغتصب الجنود الروس النساء أمام أزواجهنّ أو أولادهنّ أحياناً، ونَهَب الروس أغراضاً بجميع الأحجام، بدءاً من الهواتف الخلوية وصولاً إلى جرافات حصاد القمح العملاقة. كذلك، تلاحقت شهادات الناس حول أعمال التعذيب التي تراوحت بين الضرب، والصعقات الكهربائية، والاختناق شبه الكامل بأكياس بلاستيكية.

تكون جميع الحروب دموية، لكنها لا تتبع هذا النهج دوماً. قتلت الحرب العالمية الأولى ملايين الناس مثلاً. لكن قال بوريس سيرجيفسكي، طيار مقاتل في الخدمة الجوية الإمبراطورية الروسية في غرب أوكرانيا، إن إسقاط طيار ألماني فوق الأراضي الروسية كان مرادفاً حينها لدفنه مع مرتبة الشرف العسكرية الكاملة. كانت تلك الحرب تهدف إلى احتلال الأراضي. لكن في الحرب الروسية المعاصرة، يُصِرّ بوتين على اعتبار الغزاة ومن يتعرّضون للغزو «شعباً واحداً». مع ذلك، يريد الروس على ما يبدو تحقيق هدف آخر: إهانة الأوكرانيين، وتجريدهم من إنسانيتهم، ومشاهدتهم يعانون.

لفهم الأسباب الكامنة وراء وحشية الغزو، لا بد من مراجعة خلفية بوتين في الشرطة السرية، وحُكمه الدكتاتوري، ونزعته إلى توسيع نطاق نظامه. يُعتبر ماضي روسيا عاملاً مؤثراً آخر. في السنوات الأخيرة، برّر بوتين طموحاته التوسعية عبر نشر نسخته الخاصة من التاريخ الروسي. تحتفل المناهج الدراسية ومجموعة وطنية من الحدائق التاريخية اليوم بدولة موحّدة زادت قوتها وتوسّع حجمها بفضل قادة أقوياء تحدّوا جميع أشكال التدخل الأجنبي، بدءاً من بطرس الأكبر وصولاً إلى ستالين. لكن يتعلق جزء وحشي لافت من ذلك التاريخ بمرحلة لم تكن فيها الدولة موحّدة بأي شكل: إنها الحرب الأهلية الروسية قبل قرنٍ من الزمن، فقد أمضت قوات «الحركة البيضاء» ثلاث سنوات دموية وهي تحاول خلع النظام البلشفي الجديد من السلطة.

قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، في العام 1991، وصف حكّامه تلك الحرب بطريقة لاذعة: كان أعضاء الحركة البيضاء مجرّد رجعيين أشرار حاولوا تأخير انتصار الحُكم السوفياتي المجيد. لكن يحمل بوتين نظرة مختلفة، فهو يرغب في استرجاع قوة روسيا في عصر القياصرة ونفوذ الاتحاد السوفياتي في آن. كانت الحرب الأهلية عبارة عن صراع يجسّد معظم عناوين المرحلة الراهنة: عنف وحشي، مخاوف روسية من حصول تدخّل أجنبي، هجرة أدمغة اللاجئين المتعلمين، صدام بين أحلام الإمبراطورية والمناطق الانفصالية التي تطمح إلى الاستقلال.

في بداية العام 1918، كان البلاشفة حكّام مملكة مفلسة، وقد بدأوا يسمّون أنفسهم شيوعيين بعد فترة قصيرة. احتل الجيش الأحمر الذي شكّلوه بسرعة موسكو، وبتروغراد، ومساحة واسعة من وسط روسيا التي تشمل نسبة كبيرة من صناعات البلد. حاول أعضاء الحركة البيضاء في المقابل التقدّم نحو أراضي الجيش الأحمر من جبهات متعددة، أبرزها سيبيريا، والقطب الشمالي، وجنوب روسيا، وأوكرانيا، والمساحة المعروفة اليوم باسم بولندا. كانت أقلية من عناصر الحركة البيضاء تأمل في نشوء ديمقراطية برلمانية، لكن أراد معظمهم استرجاع نسخة من النظام القديم.

إغتصب كل فريق نساء الفريق الآخر ونَهَب كل ما يريده. رفع الشيوعيون شعار «اسرقوا ما سبق وسُرِق!» (من الطبقات العليا)، واشتكى جنرال من الحركة البيضاء من وضع جيشه، حيث جمعت بعض الأفواج مسروقات قد تَسَع في 200 عربة شحن. استعرض الطرفان جثث الأعداء بشكلٍ فاضح، فعلّق أعضاء الحركة البيضاء جثث الجيش الأحمر على أعمدة التلغراف في سكة الحديد العابرة لسيبيريا، وزُيّنت قاطرة تابعة للجيش الأحمر بجثث ضباط مذبوحين. وعند القبض على الحاكم الأعلى ألكسندر كولشاك أخيراً، تعرّض لإطلاق النار (إنه مصير مقبول نسبياً في تلك الحقبة)، لكن مُنِع الجميع من دفنه. رُمِيت جثته في حفرة بعد تقطيعها ثم طافت في الجليد الذي يغطي نهر سيبيريا.

إنتهت تلك الحرب طبعاً بانتصار الجيش الأحمر وترسيخ حُكم لينين الذي لم يتقبّل أي معارضة في وجهه. خلال عقد من الزمن، تحوّل النظام إلى دكتاتورية بقيادة ستالين. لكن حتى لو انتصرت الحركة البيضاء، كان حاكمها الأعلى ليفرض على الأرجح نسخته الدكتاتورية الخاصة. في مطلق الأحوال، كانت تلك الوحشية اللامحدودة على مر ثلاث سنوات أشبه بتجربة استعملها النظام اللاحق لاكتساب الخبرة. حتى أن النظام الراهن استفاد منها بالطريقة نفسها. الأعداء هم خونة لا يستحقون أي كرامة. عندما اعتبر الرئيس الروسي السابق، ديمتري مدفيديف، منتقديه في أوكرانيا والخارج «أوغاداً وحثالة»، يسهل أن نتذكر التعابير التي استعملها لينين مراراً لوصف قوات الحركة البيضاء: «قمل»، «براغيث»، «ذبــاب»، «طفيليات» تستحق الإبادة.

ينسى الكثيــرون أحيانـــــاً أن الحرب الأهلية الروسية شملت قوات من بلدان أخرى. شعر الأميركيــون، والبريطانيــــــون، والفرنسيـــــــون، وحلفاؤهم، بالرعب من توسّع الثورة ووصولها إلى شعوبهم المستاءة والمنهكة من الحرب، وكانوا يتوقون إلى مساعدة الحركة البيضاء، وكان وزير الحرب والجو البريطاني حينها، وينستون تشرشل، من أشرس داعمي هذه الحملة. قال تشرشل لاحقاً: «لو حصلتُ على الدعم المناسب في العام 1919، أظن أننا كنا لنخنق الثورة البلشفية في مهدها». كان ذلك التدخل يُركّز بشكلٍ أساسي على تقديم الأسلحة والإمدادات إلى عناصر الحركة البيضاء، منها 200 ألف زي عسكري بريطاني مثلاً. لكن شارك الجنود في القتال أيضاً، بما في ذلك 13 ألف أميركي، وانتشروا على طول ساحل القطب الشمالي وفي أقصى شرق روسيا.

في المحصلة، تم إرسال حوالى 200 ألف جندي أجنبي إلى روسيا، فضلاً عن عشرات السفن البحرية إلى المياه المحيطة. تمرّد جزء منهم عند نشره ضد قوات الجيش الأحمر، لا سيما البحّارة في القوات البحرية الفرنسية في البحر الأسود. على غرار ملايين الغربيين في تلك الفترة، كان هؤلاء المتمردون مقتنعين بأن الثورة الروسية تُعبّر فعلاً عما تجاهر به، ما يعني أن الهدف الحقيقي يتعلق بنضال العمّال لفرض سيطرتهم. في بلدٍ تشتدّ فيه مظاهر كره الأجانب، لم ينسَ الشيوعيون الذين حققوا النصر في نهاية المطاف هوية القوات الأجنبية التي حاولت خنق حركتهم منذ نشوئها.

يرتبط جانب آخر من الحرب الأهلية الروسية بالصراع الذي نشهده اليوم مباشرةً. لم تكن تلك الحرب تهدف بكل بساطة إلى تحديد هوية حكّام روسيا، بل كانت تتعلق أيضاً بتحديد المناطق التي ستحكمها روسيا. تزامناً مع احتدام الصراع على طول آلاف الأميال من الغابات، والجبال، وحقول القمح، والسهول، اندلعت حروب عدة داخل الحرب الكبرى. استفادت المناطق النائية في الإمبراطورية الروسية القديمة من الصراع بين الجيش الأحمر والحركة البيضاء للنضال في سبيل الاستقلال. نجحت بولندا، وفنلندا، ودول البلطيق في مساعيها، لكن فشلت أوكرانيا في تحقيق الهدف نفسه. أدى القتال في أوكرانيا إلى نشر الاضطرابات والفوضى في المدن التي تظهر في عناوين الأخبار اليوم: كييف، وأوديسا، وخاركيف، وخيرسون، وماريوبول. كان المعسكران الأبيض والأحمر من ألد الأعداء، لكنهما اتّفقا على نقطة واحدة: يجب أن تكون حدود روسيا التي يريدان السيطرة عليها أكبر ما يكون. كان هذان الفريقان يكرهان حركات الاستقلال غير الروسية، لا سيما في أوكرانيا، تلك الأرض الغنية بالحبوب، والحديد، والفحم.

غداة الحرب الأهلية الروسية، أصبحت أوكرانيا واحدة من 15 جمهورية ذات حُكم ذاتي ظاهرياً داخل الاتحاد السوفياتي. أعلن بوتين أن تلك البنية كانت مجرّد خطأ فادح، لكن لم يتوقع أحد طوال سبعين عاماً أن تتفكك الإمبراطورية السوفياتية الضخمة على طول تلك الخطوط. لطالما كان بوتين يحلم بإعادة إنشاء إمبراطورية أكبر حجماً: هو خَدَم الإمبراطورية السوفياتية حتى انهيارها، ولطالما كرّم إمبراطورية القياصرة، على عكس أسلافه السوفيات. اليوم، يُعتبر آخر قيصر اغتيل على يد البلاشفة من ضحايا القمع السياسي رسمياً، وقد أعطى بوتين في العام 2008 الإذن لإنتاج فيلم ضخم وطويل تكريماً للأميرال ألكسندر كولشاك. وفي السنوات الأخيرة، أعادت حكومته مكانة فخرية إلى جماعة القوزاق سيئة السمعة، فنشأت عشرات أكاديميات القوزاق العسكرية في أنحاء البلد، وحصلت هذه المبادرة على دعم أحفاد لاجئين من عصر القياصرة في الخارج.

في العام 2005، حرص بوتين على إعادة رفات الجنرال أنطون دينيكين، قائد الجيوش البيضاء في جنوب روسيا وأوكرانيا، من الولايات المتحدة، علماً أنه توفي في المنفى. كان دينيكين يقاتل تحت شعار «روسيا واحدة وغير قابلة للتقسيم». ذكر بوتين، حين زار قبره الجديد في موسكو، أن الجنرال كان يؤمن بأن أوكرانيا جزء من روسيا. يتعارض هذا الحلم الآن مع أوكرانيا المعاصرة التي عاشت مستقلة طوال ثلاثة عقود، رغم عيوبها وتعثرها. على وقع هاتين الرؤيتَين المتصادمتَين، من الواضح أن الاضطرابات العالقة في تاريخ روسيا لا تزال تلقي بثقلها على الظروف الراهنة.