شخصية السياسي أهم من برنامجه في أوروبا !

14 : 47

تتعدد الدروس التي يمكن استخلاصها بشأن السياسة الأوروبية المعاصرة بعد فوز بوريس جونسون المدوي في الانتخابات البريطانية، ويتعلق أبرزها بقواعد الشخصية السياسية. صحيح أن الحملة الانتخابية كشفت بكل وضوح عن عمق الانقسام حول خطة "بريكست" في بريطانيا حتى الآن، لكن يبدو أن معظم البريطانيين يتفقون على إعجابهم بجونسون عمومًا، وذلك رغك شخصيته الغريبة (أو ربما بفضلها!). أثبتت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات أن رئيس الحكومة البريطاني محبوب أكثر من زعيم حزب "العمال" جيريمي كوربين بنظر معظم الفئات السكانية. 



لطالما كان الإعجاب بشخصية المرشّح عاملاً مؤثراً في خيارات الناخبين. لكن في الماضي، كان السياسيون الذين يتمتعون بكاريزما عالية في أوروبا (في المعسكر الديمقراطي على الأقل) يطرحون برنامجاً سياسياً مدروساً ويمثلون حزباً يتشارك أعضاؤه ميولاً متشابهة.

بعبارة أخرى، كان هؤلاء يُجمِعون على أكثر من مسألة واحدة، على غرار "بريكست" أو معارضة توافد المهاجرين. تكثر الشخصيات التي تنطبق عليها هذه المواصفات، منها مارغريت ثاتشر، وفرانسوا ميتيران، وهلموت كول، وويلي براندت.

لكن في المشهد السياسي اليوم، أصبحت البراغماتية والانتهازية الصريحة بديلة عن الإيديولوجيا والمبادئ، وغالباً ما تكون الأحزاب مجرّد غطاء للشخصيات اللافتة التي تقودها.

يقول المحلل السياسي الألماني المخضرم جوزيف جانينغ إن هذه الشخصيات بدأت تكسب النفوذ نتيجة الانهيار المؤسسي للأحزاب السياسية القديمة في أوروبا.

أدى فشل الأحزاب القديمة في معالجة مخاوف الناخبين المرتبطة بمسائل شائكة، على غرار العولمة والتكنولوجيا والهجرة، إلى ترك فراغ واضح. فسارع السياسيون الجدد في أوروبا إلى استغلال الوضع عبر طرح أنفسهم كأشخاص متمردين على المقاربات التقليدية ومستعدين لكسر وضع المراوحة من داخل هياكل السلطة، كما فعل جونسون والزعيم النمساوي المحافظ سيباستيان كورتز، أو من خارجها، كما فعل إيمانويل ماكرون الذي تخلى عن الحزب الاشتراكي الفرنسي لتأسيس حركته الخاصة، واليميني المتطرف ماتيو سالفيني، زعيم "رابطة الشمال" الذي حوّل حزبه إلى قوة وطنية.

يطبّق جونسون في بريطانيا معادلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الناجحة، فلا يتمسك بخصائص محددة لضمان نجاحه بل يفضّل نشر أفكار أسطورية، فيتعبر "بريكست" طريقة فاعلة لاسترجاع أيام المجد البريطاني ويطرح نفسه كنسخة معاصرة من وينستون تشرشل.

منذ فترة غير طويلة، كانت المسائل المرتبطة بأخلاق جونسون وترامب وحياتهما الخاصة لتقضي على فرصهما في ترأس حزبَيهما. أما اليوم، فلا تبدو القاعدة الشعبية مستعدة لتجاهل تلك المسائل فحسب، بل إنها تدعم قادتها بزخم غير مسبوق.



تتقاسم الشخصيات السياسية غير المألوفة اليوم صفة أخرى أيضاً: الصرامة. طوال عقود، كانت أحزاب السلطة في أوروبا تعمل كأي شركة ناجحة وجديرة بالثقة، فتُوظف أفضل الأشخاص ثم توصلهم تدريجاً إلى مناصب عليا. في معظم الحالات، كان منصب رئاسة الحكومة يتوّج أي مسيرة سياسية ممتدة على عقود عدة.

أدرك كورتز الانهيار المؤسسي الحاصل في "حزب الشعب" اليميني الوسطي في النمسا، فحضّر من وراء الكواليس طوال سنوات الخطة الهجومية التي أوصلته إلى أعلى منصب في الحزب في العام 2017 وهو في عمر الثلاثين. وبعد توليه هذا المنصب، تخلص من الحرس القديم وغيّر اسم الحزب المرموق كي يصبح "لائحة سيباستيان كورتز – حزب الشعب الجديد". حتى أنه غيّر لون توقيعه من الأسود إلى الفيروزي. وبعد بضعة أشهر، أصبح المستشار الاتحادي، وهو الأصغر سناً في تاريخ البلد بعد حقبة الحرب.

كانت طريقة جونسون في التلاعب بحزب "المحافظين" دراماتيكية بامتياز. حين حوّل معقل القدامى إلى حزب الطبقة العاملة المستاءة، اعتبر عدد كبير من المناصرين أنهم ما عادوا يستطيعون التعرف على حزب "المحافظين".

في الأسبوع الماضي، كتب الصحفي السابق في مجلة "تلغراف"، بيتر أوبورن، تعليقاً لاذعاً فقال: "هذه الحكومة ليست محافِظة بأي شكل، حتى أنها نقيض تام لكل ما يعنيه معسكر المحافظين".

تتعلق المسألة الأساسية الآن بمعرفة نتائج السياسة المبنية على شخصية المسؤولين في أوروبا. ماذا يحصل حين يكتشف الناخبون أن خياراتهم غير نافعة؟

يجيب روبين نيبليت، مدير معهد "تشاتام هاوس" في لندن: "قد يصبحون أشبه بالألعاب النارية، فينفجرون غضباً قبل أن يختفي أثرهم سريعاً".

صحيح أن أوروبا شهدت سابقاً وصول سياسيين يتمتعون بخليط من الكلام الرنان والكاريزما إلى السلطة (على غرار سيلفيو برلسكوني)، لكن لم يسبق أن برز هذا الكم منهم في الوقت نفسه، لا سيما في الأنظمة الديمقراطية الناضجة في أوروبا الغربية.

ما لم تُستبدَل المؤسسة السياسية المتداعية ببنية جديدة، يخشى بعض المراقبين أن يصبح المشهد السياسي الأوروبي أقرب إلى أميركا اللاتينية حيث يفرض السياسيون الشعبويون والفاسدون سيطرتهم، علماً أن التزامهم بالديمقراطية يُعتبر عابراً في أفضل الأحوال.

سبق وانتشر هذا الوباء في أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية، بدءاً من المجر حيث تطغى "ديمقراطية غير ليبرالية" بقيادة فيكتور أوربان، وصولاً إلى جمهورية التشيك وبلغاريا ورومانيا.

قد تبدو ألمانيا، بقيادة أنجيلا ميركل، مُحصّنة ضد سطحية السياسة المبنية على شخصية المرشحين، وغالباً ما تُعتبر في الخارج نقيضاً للنزعة الخرقاء التي تسيطر على سياسات أوروبا.

لكن عند التدقيق بالوضع عن قرب، يتبين أن الزعيمة الألمانية لا تُجسد عصر السياسة المبنية على الشخصية فحسب، بل إنها رائدته. ما من بلد أوروبي خاضع لسطوة زعيمه بقدر ألمانيا بعد 14 سنة على بدء عهد ميركل.

طورت ميركل صورتها العامة بحذر منذ البداية. لكن على عكس ما حصل في إيطاليا أو بريطانيا، حيث ينجذب الناخبون إلى الجوانب المرحة لدى السياسيين، يفضّل الألمان في المقام الأول الاتزان والتواضع، وهي مواصفات تنطبق على ميركل حرفياً. لكن من الأفضل ألا نسأل عن المبادئ التي تتمسك بها!

لم يسبق أن أصرّت ميركل على أي أفكار إيديولوجية ثابتة، على غرار نظرائها الرجال. في العام 2003، حين كانت لا تزال في المعارضة واعتُبرت ألمانيا "رجل أوروبا المريض"، دعت إلى تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية "النيوليبرالية" الجذرية بناءً على حركة السوق. وحين لم تتحقق تلك الأفكار، تخلّت عنها بعد وقت قصير.

في العام 2009، خاضت حملتها على أساس برنامج لإطالة صلاحية محطات الطاقة النووية في ألمانيا. وخوفاً من سخط الرأي العام بعد كارثة "فوكوشيما" في اليابان، غيّرت مسارها فوراً وسرّعت انسحاب ألمانيا من مشاريع الطاقة الذرية.

ورغم سلسلة من الانتكاسات الانتخابية التي واجهها حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، تحظى ميركل بأكبر شعبية بين نظرائها في ألمانيا حتى الآن وتُعتبر الأجدر لتولي منصب المستشارة. فيما تشهد بقية بلدان أوروبا والعالم تحرراً متزايداً في خياراتها، يشعر الألمان بالراحة لأنهم يعرفون أن "أمهم" كما يسمّونها لا تزال مسؤولة عنهم.

لكن تبرز مفارقة كبرى في هذا المجال: يبدو أن الشعبية العالمية التي كسبتها ميركل من خلال تمويه الحدود السياسية التقليدية في السياسة الألمانية هي التي ساهمت في انهيار الأحزاب التقليدية المحلية، بما في ذلك حزبها الخاص. تُعتبر الأحزاب في "الائتلاف الكبير" بقيادة ميركل ("الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"الحزب الديمقراطي الاجتماعي") قابلة للتبديل بنظر عدد كبير من الناخبين.



سارع اليمين المتطرف الذي يجاهر بمعارضة توافد المهاجرين، وحزب "الخضر" الذي يركّز على المخاوف المرتبطة بالتغير المناخي، إلى سد الفراغ الناشئ. يعتبر بعض المراقبين السياسيين أن سر نجاح حزب "الخضر" (حلّ مكان "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" في استطلاعات الرأي باعتباره ثاني أكبر حزب في ألمانيا) يكمن في شخص رئيسه روبرت هابيك الذي يتمتع بجاذبية عالية.

قبل ظهور هابيك وشريكته في رئاسة الحزب أنالينا باربوك، كانت نسبة تأييد حزب "الخضر" ثابتة تحت عتبة 10%. لكنها تبلغ اليوم 23%، وقد حصل هذا التحول مع طرح البرنامج السياسي نفسه.

سياسة التسويق هي التي تغيرت! لا أحد يستطيع اتهام حزب "الخضر" بافتقاره إلى أجندة مفصّلة، لكن من الواضح أنه يُركّز راهناً على صورته أكثر من جوهره.

أصبح هابيك (50 عاماً)، بوسامته ورجولته وسلوكه المريح، محبوب وسائل الإعلام. في برلين، انتشرت ملصقات ترويجية لحضور جلسة قراءة معه في شهر نيسان. سيقرأ هابيك مقاطع من كتابه الجديدWho We Could Be (من يمكن أن نكون) عن الثقافة السياسية في ألمانيا.

اكتسب هابيك شعبية هائلة لدرجة أن البعض يعتبره الحصان الأسود لتولي منصب المستشار الاتحادي، علماً أن هذه الفكرة كانت لتُعتبر سخيفة منذ سنة واحدة فقط.

بغض النظر عن مصير نجوم السياسة الجدد في أوروبا، من المستبعد أن يتلاشى التركيز على شخصية المرشحين في أي وقت قريب. قد يبدو هذا التحول مفاجئاً، لكنه ينجم فعلياً عن تغيرات عميقة ومتراكمة في المناخ السياسي عموماً.

يقول نيبليت: "كان هذا الوضع متوقعاً منذ فترة طويلة، لذا سيستغرق اختفاء هذه الظاهرة وقتاً طويلاً أيضاً"!