نوال نصر

إنتهى عهد لم يبقَ فيه حجر على حجر

بعد "الهيصة" وسيول الأوهام... أتركوا "الجنرال" يرتاح

31 تشرين الأول 2022

02 : 01

من الحب ما قتل (فضل عيتاني)
قبل ستة أعوام، بالتمام والكمال، تلا خطاب القسم والعبور الى القصر: إن من يخاطبكم اليوم، هو رئيس الجمهورية الذي أوليتموه ثقتكم لتحمّل مسؤولية الموقع الأول في الدولة، الآتي من مسيرة نضالية طويلة، ويؤمل منه الكثير في تخطي الصعاب وليس مجرد التآلف والتأقلم معها. البارحة تلا خطاب مغادرة القصر: إن من يخاطبكم اليوم، هو الجنرال ميشال عون، الراجع من الحجر الى البشر...ستة أعوام رئاسة. وقبلها 28 عاماً عينه على الرئاسة. وقبلها أعوام «تمرّد» فيها في القصر الرئاسي. وبعد ذلك كله وعد جدّده: «لن نهدأ قبل انتشال الوطن من الحفرة العميقة التي وضعوه فيها». أخبرنا ما فعلوه هم ونسي أن يخبرنا عن قدراته هو، وعن «الفوفاش» الذي عشنا فيه في عهده. الترسيم؟ الله يعيشنا. هو وعد ونحن، إذا أعطانا الله العمر، سنبقى حتى إشعار آخر متسمّرين، جامدين، في قبضة الأوهام!

هناك من اعتاد التمتع بالأوهام كمدمني الحشيشة. فهل نقول الى هؤلاء تمتعوا بأوهامكم «الفوفاش»؟ كل من راقب البارحة، هؤلاء السارحين في اتجاه بعبدا، الذين غطوا في نومهم في خيَم نصبوها عند «نصاص الليالي» على طريق القصر، ردد: يا حرام. نعم، أشفق كثيرون على هؤلاء. نعم نشفق على هؤلاء الذين يعيشون في الأوهام، التي لولاها لرأوا حقيقة هذه الحياة التي يعيشونها، التي لا يمكن احتمالها. فهل لذلك يكره هؤلاء الحقائق كونها تبدد أوهامهم وتضعهم أمام مرارة الواقع؟

نشفق على هؤلاء. نشفق على من احتفلوا البارحة بانتهاء عهد لم يبق فيه حجر على حجر، وخرج منه من حمل مسؤولية الموقع الأول في الدولة ليقول: سأخرج من الحجر الى البشر. فلماذا استمات ليدخل الى قصر من حجر وهو عالم أنه، وإن أحب لقب «الرئيس القوي»، ضعيف جداً، وسيكون جامداً في قصره كما الحجر. وكل الحجج عكس ذلك مجرد حجج. وكم من حجج يستحيل تفسيرها.



مكمّلين (رمزي الحاج)



شعارات شعارات

العونيون لبوا البارحة النداء. تقاطروا نحو القصر ليقولوا له ما كُتب لهم: معك مكملين. شعار يدغدغ مشاعر من يُمسكون برقاب الناس ويفشلون. فالعونيون لهم من زمان أسلوبهم. اعتاد هؤلاء أن يرقصوا ويدبكوا ويغنوا حتى ولو كانوا مثل الطير المذبوح. هي ساعات هللوا فيها للا شيء. الطريق الى القصر بدت حتى الساعة الحادية عشرة فارغة. عناصر الحرس القديم تجمهروا عند ميرنا الشالوحي بلباسهم الأسود. هؤلاء يخالون أنهم أقوياء. هم اعتادوا منذ فترة على القيام بحركات بهلوانية فيها كثير من الخفة. بدوا فرحين وكأنهم خارجون من انتصار في بلد ليس فيه إلا انكسارات وهزائم وتعب وفقر وفاقة ومرض وعتمة. نتفرج عليهم يوزعون الأعلام على بعضهم وبعض الشعارات التي تتمحور حول عبارة: معك مكملين. ونتابع طريقنا في قلب لبنان المقهور.

أعلام العونيين علقت على المستديرات، عند الصالومي والحايك وعلى الجسور المعلقة في الهواء. باعة الأعلام أخذوا مطارح لهم على الطريق. وعناصر الجيش إنتشروا على الطريق المؤدية الى «قصر الشعب». الطريق بقيت فارغة حتى أبواب القصر. هناك، في موقف السيارات القريب، وضع التيار العوني بسطة أعلام وقبعات برتقالية. وباصات كثيرة تقاطرت تعود الى شركة connex من نوع نيسان، أقلت الحشود العونيين الذين أخرجوا من خزائنهم الثياب البرتقالية ورموها عليهم مطلقين زمامير تراتاتا. الزمور علامة. إنه صدى يتلاشى سريعاً

كلابٌ تشمّ عن بعد في تصرّف عناصر الجيش. وحاجز المدخل الخارجي، الذي يقود الى القصر، يراقب ويسأل ويستفهم ويسمح بعبور المركبات الصغيرة التي تحوز ترخيصاً. يدخل العونيون، معززين بوفود صفراء حزبللاهية، الى مكان «جمهرة» الحشود. نساء يرقصنَ. هنّ كنّ قبل 32 عاماً شابات رقصنَ على نفس الطريق. أكثر من خمسين في المئة من المتقاطرين بكثير ممن دخلوا في المقلب الثاني من العمر. نوستالجيا القصر ما زالت تجتاح مشاعر نسوة ورجال هرموا وهم ينتظرون أن تتبدد الأوهام وتصبح حقائق. أعلام «حزب الله» الصفراء تلاقت مع البرتقالي العوني. هي رفعت عن قصد لتقول الضاحية أنها مع الرابيه حتى آخر رمق.

وأطلقت البارحة حناجر من أرادوا أن يقولوا لعون «معك مكملين» وبين كلمة وكلمات حلّ إسم سمير جعجع. لم يتحدثوا عن أوجاع اللبنانيين المستديمة، وهم يعانون منها كما كل اللبنانيين، فما أرادوه النكاية ثم النكاية ثم النكاية. وأرادوا ايضا الردّ على 17 تشرين. فليتكلموا كما يشاؤون إذا كان ذلك يريحهم. فالحدث لن يتكرر. الفطور مناقيش. وصل متأخراً قليلا لكن أن يصل متأخرا خير من أن لا يصل أبدا. الصحافة تنقلت بين البرتقاليين وبعض الصفر وراحوا يأخذون الآراء التي أكثرت من ذكر «الصرماية» على شكل «صرماية ميشال عون بتسوا الكل». ظننا أننا في حضرة وئام وهاب وهم يستعيرون عبارته «النيابة وصرمايتي سوا» و «المحكمة الدولية وصرمايتي سوا». لغة الصرامي بدت طاغية البارحة.



ميشال عون مغادراً القصر



نقطة وفاصلة

هم في مكان وميشال عون كان في مكان آخر تماماَ. فهو كان يوضب آخر أحلامه في القصر الذي عشقه قبل ان يخرج على السجادة الحمراء متأخراً ساعة كاملة. كان، بحسب من رافقوه في آخر ساعات، يقرأ بصوت عال خطابه أمام جبران باسيل، الذي وضع فواصل له ونقاطاً. إمرأة ملتحفة بالبرتقالي تمنت أن يأتي من يملأ الكرسي بعد الجنرال و»جبران هو الوحيد القادر على ذلك». وكيف لا، وجبران هو حبيب عمه الذي قال عنه في أحد مجالسه «الشجرة المثمرة وحدها ترمى بالحجارة». حصل ذلك يوم كان اللبنانيون يهتفون في الساحات «هيلا هو هيلا هو جبران باسيل (...). فكيف لشخصٍ مكروه بهذا القدر من كثير كثير من اللبنانيين أن يطمح لرئاسة جمهورية لا يطيقه شعبها؟ البرتقاليون يحبونه؟ وهل يكفي ذلك؟ طموح جبران الذي ينتمي- أو كان ينتمي قبل أن يصبح صهر الجنرال- الى فئة الدراويش. لكنه عرف من أين تؤكل الكتف فتعرف في مراهقته الى إبنة الجنرال- قلب الجنرال- شانتال في إحدى حلقات الدبكة في بعبدا. لقاء فنظرة فابتسامة فإعجاب فحب فزواج. تزوجا وبدأت الحكاية.

The game is over. كل اللبنانيين البارحة رددوا هذه العبارة وكل واحد رأى اللعبة قد انتهت في طريق. والعبارة في أغنية «عونك جايي من الله يا لبنان الغالي» وحدها غلبت فالله وحده... وحده... العون. الأغنيات الحماسية تجعل الإنتظار يهون. لذلك لم تهدأ مكبرات الصوت عن بثّها. ولحظة أطلّ ميشال عون على الحشود صدحت أغنية «طلّ القائد عون الكلّ/ كل ما القائد عون يطل/ علي جبينك يا علم». جبران باسيل خرج قبل الجنرال بدقائق. وإحدى النساء راحت تصرخ بمن منعها من الإقتراب منه: بدي شوفو... اتركوني شوفو». ابتسم لها صهر الجنرال فهكذا ردات فعل تجعله يحلق مثل النسر وكيف لا وهو يحب العملقة «أنا القوي» ويعشق تصوير نفسه «غراندايزر». نحجب نظرنا عنه ونراقب خروج ميشال عون من القصر- الحجر. مشى على السجادة الحمراء. تعثّر قليلا. صعد على منبره وقال كلمته. تلخبط مرات. وهذا طبيعي لرجلٍ في مثل سنّه. نشفق عليه. ننتظر أن ينهي كلمته التي رمى فيها كلِ الترسبات الجهنمية يميناً ويساراً. نحاول أن نلتقط معه عبارة: الجمهورية والتدقيق الجنائي والرئاسة وكل الكلمات التي «تلخبطت» على لسانه كي لا يظهر بعكس ما يفترض أن يظهر فيه رئيس لبنان السابق. نعم، تمنينا لو يتركوه يرتاح.




تعليق الأعلام في الإنتظار





الحجر والبشر

ميشال عون يصبح اليوم، عند الساعة الثانية عشرة ليلاً، رئيساً سابقاً للجمهورية اللبنانية. نسمعه يقول: «اليوم نهاية مهمة ولقاء كبير وليس وداعاً... اليوم رجعنا من الحجر الى البشر... البلد مسروق... البلد فاسد...». صفقت له الحشود وهتفت له ولم يسأل أحد من هؤلاء جميعا: وماذا عن الحجر الرازح على قلوب اللبنانيين؟ هو خارج الى فيلا تحوط بها أشجار الصنوبر وتزقزق حولها صباحاً العصافير وسيمارس فيها هواية الزراعة ويحيا لكن ماذا عن اللبنانيين الذين وعدوا برئيس قوي؟ أسئلة أسئلة جوابها ليس في خطاب الجنرال.

رجع الجنرال الى الرابيه أما المحتشدون في بعبدا فرجعوا في الباصات الى مناطقهم. رجعوا ركضاً قبل أن يسبقهم الباص ويضطروا الى سداد أجرة طريق لا يحتملونها. جبران باسيل سبقه الى الرابيه أيضا. وكم ضحك حين سُئل: هناك من يقولون الآن أن العهد فشل. ميشال عون رجع الى مكان يرتاح فيه أما صهره، زوج قلبه شانتال، الذي عرف منذ ريعان شبابه كيف يرمي ألغامه ويضرب بسيف ميشال عون حيث يشاء، فانطلق يهندس طريق عبوره الى القصر وإلا فليبق القصر شاغراً وليبق الحجر ثقيلاً على أكتاف الأحياء - الأموات.