حين كانت الروايات أقوى من الأسلحة

09 : 54

يُقال إن كتّاب روسيا المبدعين لا يلفتون انتباه الرئيس بوتين لأنه يعتبر الأدب (على عكس التلفزيون أو الإنترنت) غير مهم بأي شكل. في الوقت نفسه، من الواضح أن رؤية الرئيس ترامب عن الولايات المتحدة كأهم دولة في العالم لا تشمل أعظم كتّابها: لم يصدر أي موقف رئاسي بعد مقتل فيليب روث في السنة الماضية أو توني موريسون في فترة لاحقة. لكن يعرض دانكن وايت في كتابه Cold Warriors (محاربو الحرب الباردة) تاريخاً جديداً عن دور الكتّاب في الحرب الباردة. كذلك، يُذكّرنا هذا الكتاب الضخم والمليء بدراسات حالات قاتمة بأن الأدب قادر على زعزعة أصحاب السلطة. يتمحور هذا العمل حول الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية ويغطي نصف قرن يمتدّ بين أواخر الثلاثينات وانهيار الاتحاد السوفياتي، حيث يبدو الكتّاب أحياناً أكثر نفوذاً من السياسيين أو الجواسيس أو الجنرالات.نتنقل عبر الأحداث بين إسبانيا والاتحاد السوفياتي، حيث كان أفضل الكتّاب يثيرون أكبر الشبهات. نتابع مثلاً قصة كاتب القصص القصيرة إسحاق بابل الذي يحاول الصمود وسط حملات التطهير والمحاكم الصُوَرية. «كانت البوصلة موجّهة نحو الترهيب»، كما قال الشاعر روبرت لويل. بات ممكناً الآن أن يُعاد بناء قصة عذابه واعترافه بالتجسس ثم انسحابه وخضوعه لمحاكمة ظاهرية. أُعدِم بابل في سجن «لوبيانكا» في العام 1940.



وفق طريقة السرد التي يعتمدها وايت، يرتكز كل فصل على ظروف كاتب واحد أو كاتبَين، ثم يتنقل المؤلف على مر الفصول بين بلدان متعددة أو حتى قارات مختلفة أحياناً. تبرز تناقضات واضحة. في العام 1936، حين كان الكتّاب الأميركيون اليساريون يناقشون أدق النقاط حول الالتزام الإيديولوجي في «مؤتمر الكتّاب الأميركيين» في مانهاتن، كانت المحاكمات الصُوَرية في موسكو في أوجها. ثم نترك آرثر كوستلر وجان بول سارتر وهما يتجادلان حول المواقف من الحرب الباردة في أمسيات باريس وننتقل إلى دخول ألكسندر سولجنيتسين إلى معكسر اعتقال في سهوب كازاخستان، أو تعذيب آنا أخماتوفا حتى الاستسلام من خلال سَجْن ابنها في أحد معسكرات العمل، علماً أن الناس يتذكرون أفضل قصائدها مع أنها ليست مُدوّنة أصلاً.



كانت الوكالات الحكومية الأميركية تخشى بدورها الآثار التخريبية للأدب القصصي. من المعروف أن «لجنة مجلس النواب للأنشطة غير الأميركية» استهدفت كتّاب هوليوود. يُخصص وايت فصلاً للروائي الشيوعي هاورد فاست الذي مُنِعت روايته Spartacus من النشر بقرار من «مكتب التحقيقات الفدرالي» على اعتبار أنها جزء من حملة ترويجية ضمنية لدعم الشيوعية. عمد فاست إلى نشر كتابه بنفسه وحقق بفضله أعلى المبيعات. يتابع فصل آخر الروائي الأميركي من أصل إفريقي ريتشارد رايت الذي يواجه المصاعب حين يزداد اقتناعاً بأن الشيوعية لن تكون بديلة عن العنصرية العنيفة التي شهدها في الولايات المتحدة.على صعيد آخر، يعبّر وايت عن انبهاره بحجم تورط الكتّاب البريطانيين مع الجواسيس. حين كان العميل السوفياتي البارز كيم فيلبي يعمل لصالح الاستخبارات السوفياتية السرية في العام 1942، كان يقرأ تقارير كتبها غراهام غرين، أحد عملائه في «فريتاون»، سيراليون. وحين عاد غرين من إفريقيا إلى مقر الاستخبارات السوفياتية في «سانت ألبانز»، في العام 1943، أصبح فيلبي رئيسه. ثم كتب غرين رواية بعنوان Our Man in Havana (رجلنا في هافانا)، حيث يسخر من جهود وكالات الاستخبارات في بلده ويعبّر عن تعاطفه مع فيدل كاسترو، مع أنه تابع حينها نقل المعلومات إلى الاستخبارات البريطانية.


   


لم يكن الأدب مسيّساً في تلك الحقبة فحسب، بل إن أي مبادرة ثقافية كانت أحياناً من تخطيط أجهزة الاستخبارات السرية الأميركية أو السوفياتية. يكشف لنا الكتاب أن الاتحاد السوفياتي كان يدعم «المؤتمر العلمي والثقافي للسلام العالمي»، علماً أنه كان برعاية شخصيات من أمثال ليونارد بيرنستاين وفرانك لويد رايت ولانغستون هيوز وبول روبسون. كانت «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية التي تأسست في العام 1947 تؤمن بفاعلية النقاشات والمنشورات الأدبية، وقد عمدت سراً إلى تمويل المجلة اليسارية الوسطية «إنكاونتر» التي نشأت في العام 1953: كان ستيفن سبندر رئيس تحريرها ثم خَلَفه فرانك كيرمود. كذلك، كان «المؤتمر الدولي للحرية الثقافية» (تجمّع للمفكرين المُعادين للشيوعية) يتلقى دعماً مالياً خفياً. احتجّ المفكرون في «بارتيزان ريفيو» ضد نفوذ «وكالة الاستخبارات المركزية»، لكن تلقّت هذه المجلة بدورها تمويلاً من الوكالة. في الوقت نفسه، استفادت مجلات أدبية مرموقة في بلدان مختلفة من تمويل مماثل.





    


كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مستعدَين لمهاجمة الإنجازات الأدبية التي تُحرجهما. حرصت أجهزة الاستخبارات الغربية على تهريب نسخ من كتاب Doctor Zhivago لبوريس باسترناك إلى روسيا مجدداً. وحقق السوفيات انتصاراً لافتاً حين فاز ميخائيل شولوخوف، المرشّح المفضّل لدى ستالين، بجائزة نوبل في العام 1965، بعد سنوات من الضغوط المتواصلة. كان الكاتب أندريه سينيافسكي الذي اعتُقِل خلال الستينات بسبب مؤلفاته الساخرة والمزعجة يستطيع الاعتراض خلال محاكمته، على اعتبار أن أعماله لم ترتبط بأي مسار سياسي محدد، لكن تولى «راديو ليبرتي» المُموّل من «وكالة الاستخبارات المركزية» بثّ تلك المحاكمة. بالتالي، لم يكن تجنب الحرب الباردة ممكناً!هذا الكتاب طويل ومختصر في آن لأن تاريخ أي كاتب يرتكز دوماً على ملخّص سريع. إنه عمل تجميعي وغير بحثي، لكن يتمتع وايت بنظرة ثاقبة في سرد القصص. تنتهي الأحداث في موسكو مع الجاسوس فيلبي وهو على فراش الموت، فلا ينجح في الاستعانة بزائره جون لو كاريه، الذي يحب رواياته، لمساعدته على كتابة مذكراته. كان فيلبي متمسكاً بقناعته القائلة إن الروائي في زمن الحرب الباردة، لا سيما الكاتب الذي كان خصمه في المهنة، هو أفضل من يستطيع سرد مراحل حياته بطريقة منصفة. على غرار الخبراء الذين سبقوه، كان هذا الأخير يحترم الأدب بمعنى الكلمة!


MISS 3