الكهنة ورواد الكنائس يقفون في وجه الحكومة الروسية...

لماذا خسر المسيحيون الأرثوذكس ثقتهم ببوتين؟

10 : 03

حين كان فلاديمير بوتين يستعد للعودة إلى الكرملين لتولي ولاية ثالثة كرئيس للبلاد في العام 2012، اعتبر البطريرك كيريل، الرئيس النافذ للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، حُكْم ذلك الضابط السابق في الاستخبارات السوفياتية "معجزة من الله".من وجهة نظر النقاد في تلك الفترة، كانت التعليقات التي أدلى بها البطريرك خلال لقاء متلفز مع بوتين قبل الانتخابات تجسيداً حياً لانهيار مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، كما هو منصوص عليه في الدستور الروسي الذي أُسيء استخدامه في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. خلال السنوات اللاحقة، انتقل بوتين الذي يجاهر بإيمانه الأرثوذكسي العميق إلى تبني نزعة محافظة متشددة، فنصّب نفسه مدافعاً عن القيم المسيحية التقليدية.

لننتقل سريعاً إلى العام 2019: صحيح أن مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لا تزال موالية للسلطات العلمانية في البلاد بشكل عام، لكن يزداد التوتر القائم بين الكرملين وبعض المؤمنين من عامة الشعب (كانوا يُعتَبرون سابقاً قاعدة دعم صلبة لبوتين).شكّل المسيحيون الأرثوذكس نسبة مهمة من المحتجين الذين نزلوا إلى الشوارع وشاركوا في الاحتجاجات المنادية بالديموقراطية في أنحاء روسيا هذه السنة، حتى أن بعضهم استعمل معتقداته صراحةً لتبرير موقفه.

كانت حملة القمع الوحشية ضد المتظاهرين في موسكو (حين مُنِع السياسيون المعارضون من الترشح لانتخابات مجالس المدن وانتشرت اضطرابات واسعة النطاق) نقطة تحوّل حاسمة بنظر الكثيرين.

تقول إيلينا مورغونوفا، موظفة في قسم الخدمات المالية في موسكو: "شاركتُ في الاحتجاجات خلال الصيف الماضي انطلاقاً من قناعاتي الدينية. يقول يسوع المسيح "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"، وهو مات على الصليب من أجلنا. لذا لا يمكن أن نتجاهل معاناة الناس حين تصدر أحكام جائرة بحقهم في المحاكم".




أدى استعداد هذه الفئة من المواطنين للمشاركة في المسيرات المنادية بالديمقراطية إلى جعل الروس المتدينين جزءاً من ضحايا حملة القمع الواسعة بحق شخصيات المعارضة. أطلق هذا الوضع أيضاً ردة فعل غير مسبوق من زعماء دينيين فرديين، فقد أصبح هؤلاء أكثر استعداداً للدفاع عن القيم التي يربطونها بمعتقداتهم لكن تُمعِن السلطات الروسية بانتهاكها بحسب رأيهم.في شهر أيلول الماضي، وقّع الكهنة الأرثوذكس الروس على رسالة مفتوحة تدين ما اعتبروه محاكمات "قمعية" بحق أكثر من 24 محتجاً (كان معظمهم في عمر العشرينات أو الثلاثينات)، وقد أُدينوا بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات. حتى الآن، لا يزال ستة من المحتجين وراء القضبان بانتظار محاكمتهم، بينما حُكِم على ثمانية آخرين بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.تذكر الرسالة التي حملت توقيع 200 كاهن تقريباً: "نناشد كل من يتمتع بالصلاحيات القضائية اللازمة أو يعمل في وكالات إنفاذ القانون في بلدنا. تعمّد الكثيرون منكم في الكنيسة الأرثوذكسية وأنتم تعتبرون أنفسكم مؤمنين. يجب ألا تكون الإجراءات القضائية قمعية وألا تصبح المحاكم وسيلة لقمع المعارضين. ويجب ألا تُستعمَل القوة بوحشية غير مبررة".كانت تلك الرسالة إشارة غير مسبوقة الى استقلالية رجال الدين، وقد ذكّرت الكثيرين بكهنة معارضين من أمثال الأب جليب ياكونين الذي دافع عن حقوق الإنسان خلال الحقبة السوفياتية التي كانت ملحدة رسمياً.اعتبرت صحيفة "فيدوموستي" الروسية تحرك الكهنة "شجاعاً ومسيحياً بامتياز" وقد رحّب به عدد كبير من المؤمنين.كتبت كسينيا لوتشينكو، خبيرة في الأديان، مقالة لصالح مركز الأبحاث "كارنيغي موسكو" وذكرت فيها: "إنها المرة الأولى التي يتحرك فيها رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية جماعياً، من دون أخذ إذن مسبق من السلطات الكنسية. سبق وأصبحت هذه الرسالة جزءاً من تاريخ الكنيسة".إعتقالات ومحاكمحين اعتُقِل أليكسي مينايلو، أرثوذكسي معروف بأعماله الخيرية ونشاطه السياسي، في وقتٍ سابق من هذه السنة في موسكو، اقتحم ضباط الشرطة شقته وصادروا لافتة كُتب عليها "الحب أقوى من الخوف"، وهي عبارة مستوحاة من الكتاب المقدس.حضر عدد كبير من الكهنة الأرثوذكس جلسات الاستماع خلال محاكمته للتعبير عن دعمهم له، ثم أُسقطت التُهَم المرتبطة بتحريضه على نشر اضطرابات واسعة النطاق.يقول مينايلو: "في الأرثوذكسية، لطالما كان الصمت جزءاً من التقاليد الاعتيادية. كنا نصلي بدل أن نتصرف. إنها نظرة سلبية ومشوّهة عن الأرثوذكسية".

لكنّ مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ردّت بقوة وعارضت كسر حاجز الصمت.

أطلقت رسالة الكهنة إدانة سريعة لتلك المواقف، فاتهم المتحدث باسم الكنيسة، فاختانغ كيبشيدزه، رجال الدين بالتدخل في السياسة. ويُقال إن واحداً من الموقّعين على الرسالة على الأقل مُنِع من متابعة خدماتـه في الكنيسة.يقول كيبشيدزه: "الصراع السياسي مع السلطات لم يكن يوماً جزءاً من مهام الكنيسة ولن يكون كذلك".شعر الكهنة الذين وقّعوا على الرسالة بأنهم لا يملكون خياراً آخر، بحسب رأي الأب أوليغ باتوف، أحد الموقّعين على الرسالة، في مقابلة أجراها في كنيسة رقاد السيدة العذراء التي تعود إلى القرن السادس عشر في "ثيوتوكوس" وتقع على بُعد مسافة قصيرة من الكرملين.

يضيف باتوف الذي يرتدي دوماً رداءه الأسود التقليدي ويعلّق صليبه المعدني الضخم على صدره: "الكنيسة جزء من المجتمع. لا يمكنها أن تعيش في الفراغ. الدولة المُجرّدة من العدالة ليست أفضل من عصابات اللصوص (هذا الكلام مستوحى من أقوال القديس أغسطينوس، عالِم لاهوت مسيحي في العصور القديمة). في بعض الحالات، فضّل ضباط الشرطة الاستقالة على المشاركة في ضرب المحتجين السلميين. لكن لسوء الحظ، استمتع آخرون بممارسات العنف هذه. من واجب الكنيسة أن توقظ ضمائر المسيحيين".

لم تكن الاعتقالات الوحشية خلال الاحتجاجات على الانتخابات في الصيف الماضي المسألة الوحيدة التي أثارت قلق الأوساط المسيحية. فقد عبّر المسيحيون الأرثوذكس أيضاً عن دعمهم لثمانية أشخاص من موسكو والبلدات المجاورة لأنهم قد يُسجَنون لفترة تصل إلى 10 سنوات بعد اتهامهم بإنشاء حركة "متطرفة" اسمها "العَظَمة الجديدة"، ويُقال إنها خططت لأعمال عنف كبرى بهدف إسقاط الحكومة.

ينكر المتهمون تلك الادعاءات (كان اثنان منهم في عمر المراهقة عند اعتقالهما)، ويؤكدون على إقدام عميل من جهاز الأمن الفدرالي الروسي على توريطهم بعد تسلّله إلى دردشاتهم الخاصة عبر الإنترنت وعرض المال عليهم لتمويل "حركتهم". يتّهم النقاد عملاء الجهاز الأمني بتلفيق تلك التهم لتحسين معدلات حل الجرائم في سجلاتهم.




تقول المحتجّة الأرثوذكسية إيلينا مورغونوفا التي تظاهرت حديثاً أمام مقر جهاز الأمن الفدرالي وحملت لافتة عليها صورة يسوع المسيح المصلوب بتهمة "التطرف": "هؤلاء الشبان كانوا يناقشون الأحداث السياسية في مطعم "ماكدونالدز" ويحلمون بتحسين بلدنا، لكنهم مُتّهمون الآن بالتطرف. لماذا؟ لأن بعض العملاء في جهاز الأمن الفدرالي زيّف القضية".

دلالات ورموزلكن ربما تتعلق أبرز دلالة على توسّع المقاومة المسيحية لحكم فلاديمير بوتين بارتداد ديمتري تسوريونوف، الزعيم السابق لجماعة "إرادة الله" الأرثوذكسية المتطرفة التي لم تعد موجودة اليوم، علماً أنها عمدت في الماضي إلى تخريب معارض فنية "كافرة" بنظرها وكانت تهاجم الناشطين الليبراليين.كان تسوريونوف يحمل لقب "إنتيو" ويُعتبر رمزاً لجيل كامل من الناشطين الأرثوذكس المحافظين. تعاون عن قرب مع كبار الشخصيات في الكنيسة، بما في ذلك الأب فسيفولود شابلن، المتحدث السابق باسم البطريرك كيريل.

اليوم، أصبـــح تسوريونوف على علاقة بماريا أليوخينا، ناشطة في الفرقة الفنية النسوية "بوسي ريوت"، وليس غريباً أن نراه يشارك في احتجاجات المعارضة أو يدعو إلى إزالة معالم الحقبة السوفياتية من شوارع روسيا.يقول تسوريونوف (30 عاماً) في مقابلة من وسط موسكو: "بسبب الحملات الدعائية المشينة وانتشار مظاهر كره الأجانب منذ إقدام الكرملين على ضم شبه جزيرة القرم، أدرك عدد كبير من المؤمنين الأرثوذكس الروس أن مجتمعنا يسير في الاتجاه الخاطئ، ولا يمكن أن يقبل أحد بأعمال الشر".كذلك، اتّهم تسوريونوف الكرملين باستغلال الدين لنشر الكراهية ضد الأوكرانيين: "اتجه عدد كبير من الشبان وهم يحملون الأسلحة بأيديهم نحو جنوب شرق أوكرانيا تحت راية المسيح".

وعلى غرار شخصيات أرثوذكسية أخرى في المعارضة، يظن تسوريونوف أن بوتين، رغم حضوره القداديس في معظم الأوقات، شوّه معنى المسيحية وجعلها تمتنع عن إدانة الاعتداء على الخصوم السياسيين.يضيف أليكسي مينايلو: "كل شخص يستطيع أن يعود إلى الإيمان. لكننا نعرف الشجرة من ثمارها. وتوضح أفعال بوتين وأوساطه الداخلية أنهم ليسوا تلاميذ المسيح. إما أنهم يخدعون أنفسهم أو يخدعون الآخرين".


MISS 3