نوال نصر

عبرين تبكيها وجنازتها ستكون عرساً

قصّة غريس راشد التي اختنقت بين "سيول" البشر في "هالوين سيول"

2 تشرين الثاني 2022

02 : 00

غريس راشد. فتاة لا تتوقف عن الحلم. فتاة لبنانية الجذور قذفت أزمات لبنان، التي لا تنضب، والديها الى الغربة، الى أستراليا، ليؤسسا عائلتهما هناك. من عبرين البترونية الى سيدني الأسترالية مسيرة إعتقداها آمنة، سالمة، ساكنة، هادئة، رغيدة، شكّلا فيها عائلة من ثلاث بنات: غريس، ربيكا وإيزابيل. وفي ليلة 30-31 تشرين، في ذكرى الهالوين، إنقلبت كل الحكاية. إنقلب العمر رأساً على عقب. ليلة رحلت فيها أميرة البيت غريس وكل شيء أصبح بعدها بطيئاً ساكناً فتوقفت عقارب الساعة وأصبحت الثواني جارحة تحرق.

قلبا الوالد راشد راشد والوالدة جوان راشد يحترقان. إنهما يناديانها: غريس غريس... وينتظران سماع صوتها. هما لا يزالان بعد ثلاثة أيام على رحيلها ينتظران بحرقة أن تجيب. وكيف لا، وموت الأحبة أشدّ أنواع الألم قسوة. هذا النوع من الموت لا يقتل صاحبه فقط بل يهدّ كل أهل البيت. صحيح أن الموت هو الموت ولا مفرّ منه لكنه مؤلم مؤلم حتى النخاع.




ما تبقّى من احتفال




ليلة الموت

كل عبرين، البلدة الواقعة في قلب قضاء البترون في محافظة الشمال فجعت بموت إبنة راشد وجوان الكبرى. هي الإبنة الجميلة المليئة بحماسة هائلة، التي تجعل من ينظر في عينيها يبتسم، ولدت في سيدني وكبرت في سيدني واستمرّ لبنان وعبرين في بالها وقلبها وابتسامتها. جدتها إيفون صامتة ساكنة مفجوعة. فكم هو صعب على جدة أن ترثي حفيدة. هي قالت كلمتين فقط: أريد أن أقيم لها، لغريس، لحياتي، عرساً في عبرين. وهذا ما سيتمّ في كنيسة مارشربل في عبرين التي صلّت فيها في آخر زيارة لها الى لبنان، قبل ثمانية أعوام، وركعت تحت أقدام قديس الكنيسة وقالت: أحبك، اصلي لك، أعبدك.

غريس راشد كانت في الثلاثين من تشرين، ليلة الهالوين، في عاصمة كوريا الجنوبية سيول. أرادت وهي المولعة بالروايات والأساطير أن تحيا تلك اللحظة في احتفال كبير يقام هناك. ارتدت تاجاً وتزينت باللؤلؤ المزيف وخرجت الى الإحتفال. كان يرافقها صديقها نات تايفينيني وهو أسترالي، مولود في سيول. كان الفرح يغمر الجميع. هي ليلة الهالوين، ليلة تحكى فيها أساطير كثيرة. ليلة يحبها الشباب. كان العدد كبيراً جداً. مئة ألف وأكثر. وفجأة حصل هرج ومرج ولم يعد أحد يدري ماذا يحصل. إختنق المئات. ومن كانوا أقصر من سواهم عانوا أكثر. غريس لم يحالفها طولها لتنجو. راحت تتطلع نحو الفضاء، نحو السماء، وهي تختنق. كثيرون مثلها. لم تعد تتمكن من التنفس. راحت تختنق بعينين مفتوحتين خائرتين تنشدان «نفساً». صرخ صديقها كثيراً طالباً المساعدة. بكى كثيراً. وراح الجموع يتهاوون مثل السلسلة، مثل حجارة الدومينو، في وقتٍ إستمر كثيرون في التقاط اللحظة، غير مميزين بين الواقع والخيال. لحظات لا يتمناها أحد. ماتت فيها غريس، ومئة وخمسون من المشاركين وأكثر، إختناقاً. تحققت في ليلة هالوين السيولية، في حي إيتايوان الشهير، مقولة ليلة الموت والأشباح حيث يخرج الأموات من القبور وتطغى الأرواح وتقدم القرابين. يا إلهي ماذا حصل في تلك الليلة التي ذهبت فيها غريس قربانة. في سيول اقاموا يوم حداد. وماذا سينفع بعد؟



مع شقيقتيها ربيكا وإيزابيل



إبنة الثالثة والعشرين

في عبرين البترونية بكاء كثير. قلوب كل من من ولدوا وعاشوا ومروا في عبرين مع بيت راشد راشد. هو هاجر من زمان لكن قلبه وقلب زوجته جوان، وهي أيضا من عبرين، استمرّا فيها. ومحبتهما انتقلت الى بناتهما الثلاث. عم غريس حنا راشد يتحدث عن نية بنت شقيقه غريس، نيّة أصبحت من الماضي، في زيارة عبرين قريباً «كانت تنوي أن تأتي في تشرين لكن الأوضاع في البلد، وصحة والدتها التي ساءت قليلا، وكورونا جعلتها تُرجئ الزيارة قليلا. والوقت، كما تعلمون، يمرّ سريعاً، وهي كانت من صنف الفتيات اليافعات اللواتي يأبين تضييع الوقت. في كل حال، هي وعدتنا أن تأتي قريبا جداً وغريس دائماً تفي». هي ستدفن في سيدني لا في عبرين. والدها يريدها أن تبقى الى جانبه ولو في القبر. يا للرحيل يا للقلوب التي تنادي الراحلين، الفلذات الراحلين، ولا يجيبون.



في العمل



غريس راشد، إبنة الثالثة والعشرين، التي كانت تستعد لتنتقل في الثامن من هذا الشهر الى سنتها الجديدة، وعمرها المقبل، ماتت باكراً جداً. هو قدرها يقولون. هكذا نحن حين لا نعود قادرين على استيعاب المصائر نرميها على القدر. نلصقها به. والدها راشد وصل في منتصف ليل الحادي والثلاثين من تشرين، بعد ليلة واحدة من رحيلها، الى سيول من أجل إتمام معاملات نقلها الى سيدني. بكى الأب كثيراً طوال الطريق. وكم بكى حين وقف ينظر إليها جثة هامدة. هي المرة الأولى التي يراها هكذا وهي روح البيت ونبضه والدينامية والإبتسامة التي تعدي الآخرين حيث تحلّ. هي الإبنة الكبرى. هي أول حبة في عنقود البيت. ربيكا وإيزابيل اللتان تصغرانها سناً لم تصدّقا بعد ماذا حصل. هما تنتظران عودتها من سيول- كما أتت من أقل من أسبوعين من المكسيك- محملة بالهدايا والقصص والفيديوات. غريس درست العلاقات العامة والإنتاج والإخراج في جامعة التكنولوجيا في مدينة سيدني وبدأت تشقّ منذ آذار الماضي دربها في عالم إنتاج الأفلام في شركة Electric Lime. نتابع صورها. نتابع حساباتها على السوشيل ميديا و»تيك توك» وإنستغرام. هي تروي في كل صورة وتسجيل وكلمة حكاية. هي تحمل الجنسيتين اللبنانية والأسترالية وتفتخر بالإثنتين. عمتها رندا رزق في ذهول وتعتذر عن الكلام. أما عمها حنا فيقول: كانت تتصل بي يومياً واتساب وتفتح فيديو كول. مُحبّة هي غريس. جالت في كل العالم وهي بعد يافعة. رأيناها تنتقل بين أستراليا والبرازيل واليابان وأميركا. وموتها أدمى قلوبنا، ونحن ننوي إقامة قداس وجناز لها في كنيسة القديس مار شربل الذي تحبّ.




الإبتسامة


والدتها جوان كم كانت فخورة بها. صوَر بناتها الثلاث لا تفارق نظرها، على شاشة هاتفها وبروفايل صفحاتها على السوشيل ميديا وفي قلب قلبها. وكم كانت تضحك غريس على تلك الصور، خصوصاً حين يظنّ المعارف أنها ربيكا وربيكا هي، كون شقيقتها الأصغر أطول منها قامة. كانت تضحك لذلك وتقول: إحتراماً مني تركتها تصبح أكثر طولاً. هو مزاح. أما في الجدّ فهناك من تمنوا لو كانت أطول قليلاً فربما كانت أخذت نفساً عميقاً بين الحشود وبقيت حيّة. نعود لنسأل حالنا: هذا قدرها؟ هذا أسهل ما يُقال في حوادث دامية مفجعة كموتها.

من عرفوها يتذكرون أنها طالما رددت: «مهما اعطتنا الحياة: المال القوّة الأصدقاء فهذا لا يكفي. الفرح لا ولن يكون إلا مع الله. الفرح يخرج من داخلنا، من دواخلنا، ليملأ المكان». غريس قبلت التحدي طوال عمرها. هي صبيّة تأبى السكون. واختارت عملا بمثابة تجربة تعليمية يومية. أحبّت السفر كثيراً واعتبرته «يفتح العين والدماغ ويجعل الإنسان يعيش التجارب بعينين مفتوحتين». وهي لطالما طلبت من الأصدقاء والزملاء ومن شقيقتيها قراءة ومشاهدة «سيّد الخواتم»- lord of the rings. أذهلتها دائماً القصص الخيالية الجارفة التي تطغى عليها الفانتازيا.



في آخر صورة



خسارة راشد وجوان وربيكا وإيزابيل هائلة. أستراليا نعت غريس. الصحف كلها تكلمت عن الفتاة الأسترالية التي اختنقت وماتت في زحام سيول. رئيس وزراء أستراليا ذكرها. أما هنا، في لبنان، في بلد جذور غريس وأهل غريس، فالجميع كانوا منهمكين في تلك الليلة في انتقال الجنرال من القصر الى الفيلا. هكذا نحن دائما ننسى من يتألم من أهل لبنان وننهمك في القشور و»الفوفاش». أما هي، دولتنا، التي تنازلت عن راشد راشد وعائلته وعن الملايين مثل راشد وعائلته لن تتذكر- أو تذكر- شابة لبنانية شاء والدها أن يبني لها مستقبلا في بلاد محترمة فكان القدر في المرصاد. هي قالت مرارا في الزحمة: لا أستطيع أن أتنفس. لم ينجحوا هناك في تقديم الإنعاش الرئوي لها فماتت. إنها قصّة مأسوية أخرى لشابة لبنانية لم تكن تسع أحلامها 24 ساعة في اليوم. ويوم ماتت لم تنتبه إليها دولتنا التي لا تنتبه، في الأصل، لا الى مغتربين ولا الى ضحايا.

غريس راشد راشد سيكون غداً، بحسب أقاربها، دفنها وهي التي كانت تستعدّ، في صورة نشرتها، لوداع عامها الثالث والعشرين في 8 تشرين الثاني واستقبال سنتها الجديدة بأطنان من الأحلام. غريس لم تفكر بالموت أبداً ولم تنتبه أننا، جميعاً، على كفّ القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب شيئاً.