د. نبيل خليفه

العالم وأزمة الفكر السياسي العقائدي: من دونالد ترامب إلى ميشال عون!

3 تشرين الثاني 2022

02 : 00

نبيل خليفة

إنّ ردود الفعل التي أبداها ويبديها اللبنانيّون تجاه ما حدث في بلدهم، سواء كانت ايجابيّة أم سلبية، هي على العموم بمثابة ردود فعل نفسيّة على وضع قائم، صعب ومعقّد ومؤلم. وإذا كان من الطبيعي أن تكون ردود الفعل فيه وعليه أقرب إلى المشاعر الايجابيّة أو السلبيّة، فإنّ هناك مساراً ثالثاً ينبغي الرجوع إليه لتصويب الرأي والرؤية والأحكام في كل ما جرى ويجري على صعيد السلطة في لبنان. هذا يقتضي صياغة رؤية شاملة للوضع الدولي الذي يتحكّم بالأحداث التي جرت وتجري في الولايات المتحدة وصولاً إلى لبنان، أي من تجربة الرئيس دونالد ترامب وصولاً إلى تجربة الرئيس ميشال عون.

فما هي العلاقة بين الشخصيتيْن والتجربتيْن؟

1 - إنّ التحليل المعمّق والصحيح للتجربة الجيو- سياسية التي عانى ويعاني منها الرئيسان الأميركي واللبناني، هي بكل بساطة وتأكيد: ضعف وربما غياب الفكر السياسي العقائدي الذي يحكم دورهما في السلطة. ففي عودة مختصرة لمسار التجربة السياسية للمسؤولين اللبنانيين في النصف الثاني من القرن العشرين، يتبيّن بوضوح مدى التأثير الفكري العقائدي لدى هؤلاء القادة والذي هو امتداد وإنعكاس لأفكار نخبة من القادة المفكّرين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ميشال شيحا في الفكرة الوطنيّة اللبنانيّة، انطون سعاده في الفكرة القوميّة السوريّة، ساطع الحصري في الفكرة القوميّة العربيّة، وحسن البنا وسيد قطب كمنظّرين في الدعوة الاسلاميّة وتدقيقاً في العروبيّة الاسلامية.

2 - صحيح أنّ القرن العشرين شهد حروب العظمة العسكرية ولكنّه هيأ في الوقت عينه للنهضة الحضارية. وكما يقول الأب ميشال حايك في محاضرة له في دير مار مارون عنايا (1997)، إنّ التركيبة اللبنانية السوسيو- دينية بما تختزنه من روافد الفكر المسيحي تجعل من لبنان حالة توتّر دائم. ذلك أنّ المسيحي في لبنان موضوع دائماً أمام تجربة الابداع. فهو مسؤول عن العروبة والعالم العربي. فهو يطالب بحرية كلّ بلد عربي، وكلّ انسان عربي. فربّي كلّفني بمسؤولية لم تعطَ لأحد وعليّ أن أشهد لها. ولئن وضعني في ذمّة العروبة والمسلمين، فقد وضع العروبة والمسلمين في ذمتي أيضاً... وهكذا يكون الانسان اللبناني الحرّ ملتزماً بقيادة الروح المسيحية - الاسلامية بهدف تجديد العالم.

... في ضوء هذه المهمة التاريخيّة عمل رؤساء الجمهورية اللبنانية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، ودفعوا الثمن غالياً أحياناً دفاعاً عن هذا الدور التاريخي الحضاري. ومثاله الرئيس الشهيد بشير الجميّل الذي هو التجسيد الحقيقي للقضية اللبنانية.

خفوت صوت الفكر العقائدي الفلسفي الملتزم

3 - إنّ التحوّل الأبرز الذي طرأ على الحياة السياسية اللبنانية في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، هو خفوت صوت الفكر العقائدي الفلسفي الملتزم وصعود مفهوم الزعامات الملهمة أو الزعامات النبويّة، التي تحاول أن تستعيض عن الأساس الفكري العقائدي الثابت والراسخ بفكر نبوي يملأ الفراغ في العمل السياسي، بإدخال قوى الروح كي تسدّ فراغ قوى العقل. وهكذا بدل أن يكون القائد الرئيس تعبيراً عن حقيقة اجتماعية حضارية يصبح تعبيراً عن فكرة خيالية ذات طبيعة ماورائيّة.

4 - كانت الولايات المتحدة لدى استشهاد الرئيس جون كينيدي في بداية الستينيات، تعيش ذات التجربة التي نعيشها نحن، ولعلّ أبرز ما وسم تلك الفترة هو مؤلف فكري شهير لجون رولس (John Rawls) وهو بعنوان: (Théorie de la justice) نظرية العدالة (1971). وقد نال جائزة نوبل واعتبرته صحيفة لوموند، الفرنسية: «أهم كتاب صدر في القرن العشرين». نقول هذا لنذكّر بأنّ القاعدة الفكرية الصلبة هي التي تؤسّس لقيام دوَل ومجتمعات قويّة وصلبة ورائدة في ركب الحضارة الانسانيّة. أمّا في غياب مثل هذه القيَم الفكرية والشخصيات التاريخيّة، فإننا نواجه المأزق التاريخي! مأزق الفراغ!

5 - هذه المواجهة لما بعد سطوة الفكر، سواء في أميركا أم في لبنان تكون بالسعي لملء الفراغ الرئاسي بمادة كاذبة هي مادة «الزعامة النبويّة»، إذ هي «جايي من الله» وبالتالي لها سمة روحية تغطي على كل صعوبات وأخطاء وخطايا الزعامة فتمنحها المناعة التي تجعلها في قلب الحدث، قوّة شرعية فاعلة ومؤثرة في جميع القوى الحليفة لها والمواجهة ضدها.

6 - الخطير في الأمر، عندنا ولدى الرئيس ترامب، الانطلاق من قاعدة انه هو المتكلّم بالحق والآمر بما هو صحيح ومفيد حتى ولو كان تدمير مبنى الكابيتول واغتيال ثلاثة من حرّاسه، وأكثر من ذلك عدم اعترافه بخسارة الرئاسة وبما تعلنه الأجهزة حول نتائج الانتخابات الرئاسية! مقابل ذلك تجهد وتجتهد قوى عندنا في تصوير ما هو انكسار على أنه انتصار، وما هو خسارة على أنه ربح، وما هو كارثة على أنه فوز جلل!

... إنّ السمة النبويّة للقيادة تسمح لها نظرياً بفعل ذلك حتى ولو كان على حساب العدل والحقيقة وثوابت التاريخ!

نحن لم نشأ ولن نقبل بالدخول في جدال بين هذه الجهة وتلك. لقد أردنا أن نعود إلى الأساس الذي تنطلق منه هذه المواجهة لنبيّن الخلفية التي تحكم وتتحكّم بهذه المواجهة، ذلك أنّ الجدال مع قوى تتبنى نظرية الزعامة الملهمة النبوية ستكون بدون معنى، لأننا أمام جهة تنطلق أساساً بأنّها تملك الحق كله والحقيقة كلها وليست في وارد القبول بأي رأي آخر. يبقى أنّ الذين هم أكثر مسؤولية هم الذين جعلوا من أنفسهم «قوى التغيير». تغيير ماذا ومن ولماذا؟ لعلهم هم الأكثر بروزاً على مشرحة التاريخ اللبناني بحيث عليهم أن يقوموا بالدور الذي ينتظره منهم جميع اللبنانيين من دعاة الكيانيّة والسيادة... وأن لا يأسرهم تاريخهم العتيق، وفي انتماءاتهم المختلفة التي تقوى على انتمائهم الوطني اللبناني.

سيظلّ اللبنانيون الأحرار ينتظرون مبادرة وطنية تعيد للبنان دوره ومصيره من خلال الاتفاق وانتخاب رئاسته المميزة. وإلا سيواجهون بذاك الصوت الذي رفعه السيّد في وجه المتقاعسين عن القيام بواجباتهم إذ قال لهم: «إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان».

(*) باحث جيو سياسي