إيما أشفورد

الحرب في أوكرانيا ستنتهي بالتفاوض

5 تشرين الثاني 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

مجمع سكني في مدينة ماريوبول دمّره العدوان الروسي | أوكرانيا
بحلول نهاية آب 2022، بدأ تركيز الغرب على الحرب الروسية في أوكرانيا يتراجع. أصبح طرفا الصراع عالقَين في مأزق طويل، فلم يعد قادة الغرب مضطرين للقيام بخيارات صعبة أو التفكير بمستقبل الصراع. لكن أدت الأحداث المتلاحقة منذ بداية شهر أيلول إلى تلاشي هذا الوهم ودفع الحرب نحو مرحلة جديدة وأكثر خطورة.

منذ بداية الحرب، حافظت إدارة بايدن على مقاربة واقعية ومتوازنة، فعمدت إلى تسليح أوكرانيا وتمويلها وأوضحت في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة لن تتورط مباشرةً في الصراع. لكن تجنبت الإدارة الأميركية التكلم عن مجال أساسي من استراتيجية الحرب: كيف سينتهي هذا الصراع؟ اعتُبِر الخبراء وصانعو السياسة الذين دعوا الولايات المتحدة إلى دعم الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إقرار تسوية يتم التفاوض عليها ساذجين أو شبه خَوَنة. وراء تخبّط الإدارة الأميركية في تحديد نهاية الصراعات، تكمن مسائل أخلاقية متعددة، إذ يظن الكثيرون أن دفع أوكرانيا إلى الموافقة على تسوية معيّنة نهج غير أخلاقي.

لكن تنتهي جميع الحروب تقريباً بالتفاوض. قد يؤدي تصعيد الوضع من الجانب الروسي في الخريف الراهن إلى زيادة احتمال خوض حرب أوسع نطاقاً مع حلف الناتو واستعمال الأسلحة النووية. سبق وأصبحت التكاليف الاقتصادية العالمية للصراع هائلة، ومن المتوقع أن تتصاعد مع بداية فصل الشتاء. وحتى لو بدا إنهاء الحرب عن طريق التفاوض مستحيلاً اليوم، يجب أن تبدأ إدارة بايدن بطرح الأسئلة الشائكة التي ترافق هذه المقاربة، فتُفكّر بالتوقيت المناسب لدعم المفاوضات وتُحدد المرحلة التي تصبح فيها تكاليف متابعة القتال أكبر من منافعها.

في خضم المساعي لإقرار تسوية قابلة للاستمرار، يجب أن تُحدد الإدارة الأميركية أيضاً كيفية الاستفادة من نجاحات أوكرانيا، لكن من دون تأجيج صراع آخر. للتحضير لأفضل صفقة ممكنة، يُفترض أن يحافظ صانعو السياسة الأميركية على جبهة مشتركة بين الغرب وأوكرانيا، ويأخذوا السياسات الأوكرانية والروسية المحلية بالاعتبار، ويتمسكوا بمقاربة مرنة لتحديد العقوبات التي يمكن رفعها عن روسيا من دون تقوية نظام فلاديمير بوتين. إذا لم تستعد الإدارة الأميركية لهذه المرحلة قريباً، قد يطغى وهم خطير حول تحقيق انتصار مطلق على ردها المدروس في زمن الحرب.

في كييف، يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بيئة سياسية أكثر تقلباً وعدائية، فقد بدأت الانقسامات في السياسة الأوكرانية تعود إلى الواجهة. لكنه يواجه معضلة أخرى أيضاً. أصبح الشعب الأوكراني أكثر وحدة منذ شهر شباط الماضي، فقد احتشد الناس حول مبدأ النضال الوطني ضد الغزو. وبعد جميع المطالب التي فُرِضت على الأوكرانيين، ستجد الحكومة الأوكرانية صعوبة في التوصل إلى تسوية قد تمنح أي نوع من المكافآت إلى العدو. إذا وافق زيلينسكي على تسوية لا تحظى بشعبية كافية، قد ينهزم في صناديق الاقتراع. في هذه الظروف، سيصبح الاتفاق الذي يمنح الأوكرانيين شعوراً بالانتصار أكثر قدرة على النجاح. لهذا السبب، تزداد أهمية السيطرة على التوقعات في الوقت الراهن. يجب أن تُشجّع واشنطن كييف على تبنّي مواقف أكثر اعتدالاً في مسائل ستكون جزءاً من أي تسوية مستقبلية، مثل شبه جزيرة القرم، ويجب أن تدعوها إلى تعديل المواقف التي تنذر بانتصار شامل، تزامناً مع التشديد على المكافآت الاقتصادية التي يُفترض أن تتلقاها أوكرانيا عبر مساعدات إعادة الإعمار الدولية والتكامل الاقتصادي الأوروبي بموجب تسوية مناسبة.

على صعيد آخر، يجب أن يوضح صانعو السياسة المعايير الأساسية لأي تسوية محتملة، شرط أن يتمتعوا بمرونة كافية لتعديل التفاصيل. بعض النقاط غير قابل للتفاوض، لا سيما سيادة أوكرانيا وحماية المواطنين الأوكرانيين، وعلى رأسهم من يرغبون في مغادرة الأراضي التي تحتلها روسيا. لكن يمكن التعامل بمرونة مع مسائل أخرى، فتُحدد المكاسب العسكريـــة الميدانية حدود الأراضي النهائية مثلاً. كذلك، يجب ألا يتمسك صانعو السياسـة بالوضع الذي كان قائماً قبل 24 شباط الماضي أو حتى قبل العام 2014. يقضي حل مقنع وأكثر استقراراً على الأرجح بحصر الأراضي الأوكرانية، من دون استرجاع شبه جزيرة القرم وأجزاء من إقليم «دونباس»، علماً أن هاتين المنطقتين تشملان عدداً من السكان الموالين لروسيا.

بشكل عام، يجب أن يعطي صانعو السياسة الأولوية لتحقيق نتائج عملية بدل التمسك بمبادئ مبهمة. ستكون أوكرانيا السيّدة والمستقلة والقادرة على الدفاع عن نفسها والاندماج مع أوروبا اقتصادياً أفضل بكثير مثلاً من أوكرانيا التي تواجه خلافات دائمة على الأراضي داخل حدودها. لا يزال الوضع في أوكرانيا متقلباً وقابلاً للتغيير، ويجب ألا يُكبّل صانعو السياسة الأميركية أنفسهم الآن بتصريحات قد يصعب تحقيقها عملياً.

في غضون ذلك، قد يكون رفع العقوبات من أهم بنود التفاوض بالنسبة إلى صانعي السياسة الغربية، لكن يبقى هذا الهدف محفوفاً بالمخاطر السياسية. قد تصبح العقوبات خصائص دائمة في السياسات الدولية، مع أن أثرها الاقتصادي والسياسي يضعف مع مرور الوقت، وهذا ما يجعلها أكثر نفعاً عند استعمالها كورقة مساومة بدل أن تكون شكلاً من العقوبات الدائمة. يجب أن يفكّر صانعو السياسة إذاً بكيفية رفع العقوبات لانتزاع تنازلات من روسيا. على مر الحرب، حققت العقوبات الغربية هدفَين: معاقبة روسيا على غزو أوكرانيا على المدى القصير، وإضعاف الآلة العسكرية الروسية على المدى الطويل.

قد يصبح رفع جزءٍ من العقوبات عن روسيا شرطاً مسبقاً لعقد اتفاق سلام ناجح، لكن يجب أن يفكّر صانعو السياسة بالعقوبات التي يمكن رفعها بحذر. قد يكون السماح لروسيا بإعادة جزء من احتياطيات النقد الأجنبي بنداً مفيداً في إطار اتفاق شامل، لأنه خيار جاذب للكرملين ووسيلة لحماية الاستقرار الاقتصادي على المدى القصير، ولأن الإصرار على تجميد تلك الاحتياطيات لا يسمح بإضعاف الاقتصاد الروسي على المدى الطويل. في المقابل، يجب أن تُستعمَل قيود التصدير المفروضة على روسيا للحد من القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية على المدى البعيد، ومن الأفضل أن تستمر تلك القيود إذا أمكن. أخيراً، يجب أن يطرح صانعو السياسة خططاً واضحة لإطلاق المراحل المقبلة، فتقدّم روسيا التنازلات أو تنسحب مقابل رفع العقوبات عنها بوتيرة تدريجية، علماً أن «اتفاقيات مينسك» الفاشلة كانت تفتقر إلى هذا النوع من البنود.

قد تتمكن الولايات المتحدة من ممارسة الضغوط لإقرار تسوية معينة في ثلاث حالات. أولاً، قد تتابع القوات الأوكرانية نجاحاتها البارزة ويبدأ القادة في كييف النقاش حول تحرير شبه جزيرة القرم. نظراً إلى أهمية هذه المنطقة للقادة الروس، قد يزيد هذا الوضع احتمال أن يلجأ بوتين إلى الأسلحة النووية، فيسيء بذلك إلى المعايير التي تمنع الاستعمال النووي ويطرح تهديدات مباشرة على الولايات المتحدة أو حلفاء الناتو. ثانياً، قد تسترجع القوات الروسية زمام المبادرة وتستعيد أراضي شاسعة. يعني ذلك أن التعبئة الروسية أعطت مفعولها وأن التسوية أصبحت ضرورية للحفاظ على سيادة أوكرانيا. ثالثاً، قد يصبح الطرفان عالقَين في مأزق آخر، فيعجز كلاهما عن استرجاع تفوّقه. في هذه الظروف، قد تستنتج أوروبا والولايات المتحدة، وحتى روسيا وأوكرانيا، أن تحمّل تكاليف متابعة الحرب لم يعد يستحق العناء.

للوهلة الأولى، قد يبدو تفكير صانعي السياسة الأميركية بتسوية غريباً، حتى لو كانت أوكرانيا تتجه إلى الانتصار، أو بدأت تخسر، أو واجهت وضعاً مختلفاً. قد ينتج كل ظرف من الظروف الآنف ذكرها تسويات مختلفة جداً، لكن تشير النتائج المحققة في ساحة المعركة في جميع الأحوال إلى توافق نسبي على تسوية محتملة. اليوم، لا تزال ساحة المعركة متقلبة ويظن كل طرف أنه سيُحقق النصر. لن تصبح التسوية ممكنة إلا عندما تتضح نتيجة القتال ميدانياً. حتى ذلك الحين، قد يصبح أول سيناريو محتمل الأقرب إلى الواقع إذا استمر الدعم الغربي القوي.

تكشف الضربات الجوية الأخيرة ضد كييف ومدن أوكرانية كبرى أخرى أن روسيا قد تفكر بتصعيد الوضع بدرجة إضافية. تتعدد المخاطر والتكاليف التي ترافق أي صراع متوسّع. حتى لو لم يصبح الوقت مناسباً للتفاوض بعد، يجب أن يستكشف صانعو السياسة الظروف التي تدفع الولايات المتحدة إلى إنهاء الحرب. ويجب أن يفكروا بأفضل الطرق للاستفادة من العقوبات والمكاسب المحققة في ساحة المعركة لمنح أوكرانيا أفضل موقع على طاولة المفاوضات. الأهم من ذلك هو أن تنقل واشنطن نتائج تلك النقاشات إلى كييف والعواصم الأوروبية لتجنب أي خلافات خطيرة في المصالح الوطنية بين أوكرانيا وشركائها الغربيين.

لا مفر من انتهاء جميع الحروب يوماً. ومن خلال طرح أهم الأسئلة المرتبطة بالحرب الروسية في أوكرانيا اليوم، يستطيع صانعو السياسة أن يمنعوا أي تصعيد غير مرغوب فيه ويضمنوا تسوية أكثر قوة واستقراراً حين تسنح الفرصة أخيراً. قد لا تبدو التسوية محبّذة في الوقت الراهن، لكن لا يمكن حماية مصالح أوكرانيا المحورية وأمن المنطقة ككل على المدى الطويل من دون مفاوضات ذكية ومدروسة.