ما سبب صمود الأحزاب السياسية الأميركية؟

10 : 54

في 3 تشرين الثاني 2020، سنعرف مدى قدرة ترامب على التمسك بعادة فوز الرؤساء الأميركيين بولاية رئاسية ثانية التي بدأت في العام 1992. لكن من المستبعد أن يجيب هذا الحدث المستقبلي على مسائل أخرى مرتبطة بانتخاب ترامب، علماً أن بعضها قد يشعل الجدل خلال العقد المقبل وما بعده. لكل من يريد فهم الوضع راهناً، يطرح كتاب مايكل بارون، How America’s Political Parties Change (And How They Don’t) (كيف تتغير الأحزاب السياسية الأميركية (وكيف لا تتغير)، أفكاراً مفيدة حول تأثير النزعات الاجتماعية والاقتصادية على مسار المعركة القديمة بين الأحزاب السياسية الطاغية في البلد وقدرة كل حزب على التكيف مع الظروف الجديدة دوماً.

لتقييم عجز الحزب الجمهوري عن الحفاظ على أغلبية المقاعد في الكونغرس منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتكلم بارون في كتابه عن السياسات الديموقراطية وعن النجاح الذي يولّد الفشل أحياناً: "لا شيء يسيء إلى أي حزب سياسي بقدر النجاح الدائم الذي تُحققه مبادراته في مجال السياسة العامة: يُحوّل الناخبون تركيزهم في هذه الحالة إلى مسائل أخرى يتفوق فيها خصومهم". هذا ما حصل بعد النجاحات السياسية الجمهورية في العامين 1947 و1948، في إشارةٍ إلى إقدام الجمهوريين حينها على تمرير قوانين، مثل "قانون تافت-هارتلي" الذي يهدف إلى الحد من قدرة النقابات العمالية على الإضراب، فضلاً عن "مقترحات الصفقة العادلة" التي طرحها الرئيس هاري ترومان، فساعدته على خوض حملته الانتخابية ضد الجمهوريين في "الكونغرس الفاشل" برأيه. في الوقت الراهن، يمكن رصد نجاح الحزب الجمهوري المتواصل في ميله إلى الحد من الضرائب وتخفيضها. ربما تلاشى اهتمام الناخبين بفرض تخفيضات ضريبية إضافية مقارنةً بما تقدّمه الحكومة الفدرالية مقابل الضرائب التي يتابعون دفعها في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والبنى التحتية وسواها. من المبرر أن تؤجج هذه المشاعر النزعة الشعبوية في المعسكرَين اليميني واليساري، لا سيما في أوساط من لاحظوا توزيعاً غير عادل للأعباء الضريبية والمكاسب أو المشاكل الاقتصادية. يُركّز بارون على هذه العوامل البنيوية، لكنه يكتب بكل وضوح أنه يعتبر طبيعة الحزبَين أهم من البيئة السياسية الأميركية لتفسير سبب صمودهما: "حافظ الحزبان السياسيان الأميركيان على طابعهما الأساسي وحمضهما النووي السياسي طوال فترة وجودهما. لكن اكتفى كل واحد منهما بتعديل سياساته وطاقم عمله عند مواجهة أي ظروف سياسية تطرح تهديداً على وجوده".

لكن هل يُحدِث هذا الواقع أي فرق؟ يظن بارون أن الحزبَين يمثلان كيانات جوهرية، إذ يتمحور الحزب الجمهوري مثلاً حول "مجموعة أساسية تُمثّل الأميركيين النموذجيين"، بينما يرتكز الحزب الديموقراطي على "فئات متنوعة ومجموعات سكانية لا تعتبر نفسها، ولا يعتبرها الآخرون، ذات طابع أميركي نموذجي. لهذا السبب لم يكسب الحزب الجمهوري يوماً تأييد أغلبية الناخبين ويحتاج إلى استمالة مجموعات أخرى. في المقابل، قد تشكّل الجماعات التي يتألف منها الحزب الديموقراطي أغلبية فعلية، لكنها تجد صعوبة دائمة في توحيد صفوفها". إنها فكرة مثيرة للاهتمام، لكنّ إقناع القرّاء بها يتطلب تحليلاً عميقاً ومنهجياً، أو يستلزم على الأقل ذكر مراجع مليئة بأدلة جازمة. في الوقت نفسه، لا يستكشف بارون بالكامل انعكاسات فكرته على وضع الحزب الجمهوري اليوم. هو واثق من صمود هذا الحزب باعتباره جزءاً من أهم تحالفَين أميركيَين، وبالتالي سيتابع الوصول إلى البيت الأبيض بوتيرة متقطعة وبغض النظر عن التقلبات المستقبلية للسيطرة على مجلس النواب أو الكونغرس أو الاثنين معاً وللتأثير على السياسة العامة. لكن ما معنى صموده بالنسبة إلى السياسة الأميركية إذا كان يضطر في المقابل لتعديل سياساته وطاقم عمله بطرقٍ يعتبرها بعض الجمهوريين محاولة للقضاء على المبادئ الماضية وتاريخ المسؤولين السابقين؟ إنه السؤال المحوري الذي يواجهه الجمهوريون في عهد ترامب.

بنظر الجمهوريين الذين عارضوا فوز ترامب أو حتى ترشّحه للرئاسة، وبرأي السياسيين الحزبيين والمسؤولين والناشطين والمفكرين وكل من تكيّفوا على مضض مع انتخاب ترامب وإقدامه على إعادة تعريف معنى الانتماء الجمهوري، لا يتعلق التحدي الحقيقي أمام هذا الحزب باحتمال زواله كفريق ناجح انتخابياً في وجه الديموقراطيين، بل بالحقيقة الكامنة وراء هذا التصنيف.

وفق وجهة النظر هذه، لا يقدّم كلام بارون مواساة كافية لخصوم ترامب داخل حزبه، فهو يصف الحزب الجمهوري الذي غيّر موقفه تاريخياً من سلطة الحكومة الفدرالية (بات يعارضها بعد تأييدها) ومن السياسة الخارجية (انتقل من التشكيك إلى التدخّل العملي)، علماً أن الحزب الديموقراطي غيّر وجهته في هذه المسائل أيضاً لكن بالاتجاه المعاكس. قد يتساءل المتشائمون عن قدرة الأحزاب السياسية الأميركية على الصمود مهما حصل، لأن معظم السياسيين فيها مستعدون للموافقة على كل ما يضمن استمرار مسيرتهم وتطورها.

يطرح هذا الوضع سؤالاً أكثر أهمية لكن لا يجيب عليه الكتاب، بل يبالغ في التشديد على النزعات التاريخية والسياسية الواسعة مقابل تراجع تركيزه على القادة السياسيين. إلى أي حد شارك قادة الأحزاب في تحديد مصير الحزبَين الجمهوري والديموقراطي؟ هل يبذلون قصارى جهدهم بكل بساطة للحفاظ على دورهم بأقل قدر من التغيرات في السياسة وطاقم العمل وسط تطورات اجتماعية لامتناهية؟ يرتكز هذا الرأي جزئياً على مفهوم الحتمية الذي بُنِيت عليه التأكيدات المادية لكارل ماركس (أي الفكرة القائلة إن البنية الاقتصادية الفرعية في المجتمع هي التي تحدد بنيته الفوقية السياسية)، وهو يضعف إرادة القادة السياسيين. بما أن عدداً من القادة الجمهوريين على الأقل حاول منع ترشيح ترامب لفترة من الزمن، يبرز سؤال لاذع آخر: هل فشل كبار خصوم ترامب ومؤيدوهم نتيجة خليط من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية رداً على تصاعد النزعة الشعبوية وترشّح ترامب، أم أن فرصتهم كانت معدومة أصلاً لأن الظروف أجبرت الجمهوريين على الاختيار بين التكيّف مع ترامب وتكبّد الخسارة في العام 2016، علماً أن الخيار الثاني يبقى أسوأ من الأول؟ بما أن بارون يُعتبر من أبرز المحللين السياسيين في واشنطن، سيكون رأيه حول هذه المسائل مثيراً للاهتمام بنظر عدد كبير من القراء وسيشكّل إضافة مفيدة إلى الكتاب.

كان الإغفال عن هذه المواضيع لافتاً لأن بارون يخصص صفحات عدة لتقييم الأسباب الكامنة وراء خسارة هيلاري كلينتون في الانتخابات. لا يتردد الكاتب في تحديد الشوائب في الاستراتيجية الديموقراطية، منها الافتراض القائل أن زيادة حصة الناخبين غير البيض تعطيهم تفوقاً مهماً، وأن الولايات المعتادة على تأييد الحزب الديموقراطي في كل استحقاق انتخابي بين العامين 1988 و2012 لن تُغيّر خياراتها، وأن ولايات الغرب الأوسط لها انتماء ديموقراطي ثابت. يُذَكّر بارون القراء بأن المسؤولين في حملة هيلاري كلينتون تبنوا هذا الرأي رغم دعوات الرئيس السابق بيل كلينتون إلى التركيز على الناخبين المنتمين إلى طبقة العمال هناك. كما أنه يشير إلى "أكاذيب ومراوغات" كلينتون، وهي معادلة قد ترضي مؤيدي الحزب الجمهوري لكنها لا تقنع على الأرجح الديموقراطيين المنفتحين بهذا المسار التحليلي. يذكر الكاتب أيضاً تصريح كلينتون: "يمكنكم وضع نصف مناصري ترامب في ما أسميه سلة البائسين". لا مفر من أن يُبعِد هذا الكلام جزءاً من الناخبين الذين لم يتخذوا قرارهم النهائي بعد.

من بين العوامل البنيوية الكامنة وراء خسارة كلينتون، لا سيما في ولايات الغرب الأوسط الحاسمة، يُعدد بارون عجزها الدائم عن مضاهاة الدعم الذي حصده الرئيس السابق باراك أوباما من الناخبين الأميركيين من أصل إفريقي، ونفوذ ترامب وسط الناخبين المنتمين إلى النقابات نتيجة معارضته لاتفاقيات التجارة الحرة، واصطفاف ترامب مع نزعة الغرب الأوسط التاريخية إلى تأييد السياسات السلمية والانعزالية وتفضيل التسويات على استعمال القوة في السياسة الخارجية، مقابل دعم كلينتون للحروب الأميركية في الشرق الأوسط سابقاً. يطرح بارون هذه الأفكار في الأجزاء الختامية التي تُركّز على مناطق الجنوب والغرب الأوسط باعتبارها القوة الدافعة وراء نجاح ترامب المفاجئ في الانتخابات.في النهاية، يُفترض أن يكون كتابHow America’s Political Parties Change كفيلاً بتشجيع الديموقراطيين على توخي الحذر إذا كانوا يظنون أن دونالد ترامب سرق انتخابات العام 2016، وبالتالي سيكون محكوماً بالفشل في العام 2020 بغض النظر عن هوية منافسيه. على المدى الطويل، يقدم الكتاب حجة قوية مفادها أن الديموقراطيين والجمهوريين معاً يجب ألا يسمحوا لأنفسهم بالانجرار وراء طموحات مغرية لفرض حكم الحزب الواحد. يُعتبر هذا الهدف غير واقعي وانهزامي، حتى أنه يميل إلى نشر الفساد ويتعارض بشدة مع أسس الديموقراطية كنظام حكم بحد ذاته. لا شك في أن كتاب بارون لن يضع حداً للجدل القائم حول نتائج انتخابات العام 2016، وهو لا يهدف إلى ذلك أصلاً. لكن يقدّم الكاتب دليلاً قيّماً لكل من يهتم باستخلاص دروس مفيدة من الماضي السياسي في الولايات المتحدة لتحسين مسار المستقبل.

أصبحت الحملة الرئاسية الأميركية للعام 2020 وشيكة، ومع ذلك يتابع النقاد والصحافيون والناخبون حتى الآن التجادل حول فوز ترامب غير المتوقع في العام 2016. كيف فاز ترامب ولماذا؟ هل يستطيع التفوق على الآخرين مجدداً؟ كيف يؤثر انتخابه على مسار الحزب الجمهوري والسياسة الأميركية عموماً؟ وما هي وجهة الديموقراطيين التي تضمن تحسين فرص إطاحتهم بترامب؟


MISS 3