د. ميشال الشماعي

هل الاعتراف بلبنان صار خطيئة؟

16 تشرين الثاني 2022

02 : 00

السيادة هي جوهر وجود الأوطان. وعندما لا يحترم بعض أبناء الوطن سيادة وطنهم، عندها تكون النّهاية. ولمّا تُطَالبُ مرجعيّة روحيّة مثل بكركي بمؤتمر دولي لاستعادة السيادة يفسّرها هؤلاء بالخضوع للإملاءات لأنّ السيادة تعني بالنسبة إليهم التبعية. وليس لأنّ «من يصنع التاريخ أو يضيعه الكتل النيابية وليس أي كيان آخر»، كما قال المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان.

أليس الخضوع لمصلحة إيران سياسيّاً وأيديولوجيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وحتّى عسكريّاً، خضوعاً؟ ألا تُعَدُّ مسألة تفضيل المصلحة الايرانيّة على حساب المصلحة اللبنانيّة الوطنيّة تنازلاً عن الموضوع السيادي؟ صحيح أنّ الحلّ السيادي الانقاذي يجب أن يمرّ في المجلس النيابي، وتطويب لبنان للخارج هو حتماً ممنوع. لذلك المطالبة بالحياد الإيجابي من تداعيات الخارج مطلوب اليوم أكثر بكثير. وبالمؤتمر الدّولي ننتزع السيادة من فم «التنين الأصفر» الذي سلبها لمصلحة حائكي السجّاد. وهذا بالطبع ما لا تريدونه. فعلى الأقلّ اعترفوا بوجود لبنان قبل إيرانكم، أم هذه خطيئة؟

بالطبع لا نريد أيّ مطبخ خارجيّ، جلّ ما نريده المطبخ اللبنانيّ حصراً. أم أنّ المطبخ الإيراني- السوريّ مقبول في أعرافكم وغيره من المطابخ مرفوضة؟ مَن ينحر لبنان كلّ لحظة هو الذي ما زال حتّى الساعة تاركاً حدوده سائبة خائبة، يمنع الجيش اللبناني من ضبطها. ويسخّر مرافق الدّولة البرّيّة والبحريّة والجويّة خدمة لمصالح إيران وسوريا، التي احتفظ بنيتراتها في مرفأ بيروت وتسبّب بتفجيره. فعلى الأقلّ اعترفوا بلبنان وطناً نهائيّاً؛ ثمّ نظّروا بالمطابخ ما شئتم.

أمّا الحديث عن الحرب الأهليّة فلكأنّ اللبنانيّين لا يعلمون مَن غزا بيروت والجبل وخلدة وقبرشمون وعين الرمانة وكاد أن يتسبّب هو نفسه بهذه الحرب التي لطالما يُخيفنا ويتّهمنا باستعادتها. لا نريد الحرب ولكنّنا لا نخافها. لا نسعى إليها لكنّنا لم نهرب يوماً من ساحاتها. لا نريد الحرب لأنّنا لا نملك ترسانات من أسلحة خفيفة وثقيلة ومتوسّطة، ولا مئات العساكر أو الصواريخ. كلّ ما نملكه هو كلمتنا الحرّة وصوتنا الصادح بالحقيقة ليس أكثر. أهذا ما تخافونه؟

التخلّي عن السيادة أمر مرفوض بشدّة وهذه بالطبع مسألة حتميّة غير قابلة للنقاش. نسأل: مَن تخلّى عن السيادة على الحدود البرّيّة وأباحها أمام تهريب صهاريج البنزين المدعوم من ودائع اللبنانيّين؟ ومن حساب طحينهم ودوائهم؟ مَن تخلّى عن سيادة الدّولة في العنبر 12 وخزّن فيه النيترات خدمة للنظام السّوري؟ مَن تخلّى عن السيادة في مطار رفيق الحريري الدّولي وكشفه أمنيّاً حتّى اغتيلَ المفكّر جبران تويني؟ مَن تخلّى عن السيادة على الحدود البحريّة وسمح بترسيم الحدود مع العدوّ الاسرائيلي كرمى عيون الأميركي الذي يتحفنا بمحاضرات عن إمبرياليّته وصهيونيّته في كلّ لحظة؟ فهل الاعتراف بلبنان صار خطيئة في أعرافكم؟

أمّا الحديث عن الفراغ الرئاسي ففيه شيء من الاستخفاف المقيت بعقول اللبنانيّين. لكأنّ منظمة «حزب الله» وسلطة إيران في لبنان رشّحت النّائب داهش ولا يراه أحد ولا ينتخبه احد، مقابل مرشّح «سياديّ» هو النائب ميشال معوّض يحصل في خمس جلسات على 35% من أصوات المجلس النيابي. أو لكأنّ الفريق السيادي يصوّت بورقة بيضاء أو ورقة تحمل تسميات همايونيّة مقابل مرشّح فريق إيران «داهش» الخفي، الذي ينال أكثر من نصف أصوات المجلس والفريق السيادي يسقط النّصاب في الدّورة الثانية!

بالطبع أزمة الفراغ يجب أن تنتهي على كراسي مجلس النوّاب لذلك مفروض عليكم يا سماحة الشيخ الفضيل أن توعزوا إلى نوّابكم الكرام بالجلوس على هذه الكراسي وعدم تركها شاغرة في الدّورة الثانية. ويكفي انتظاركم انتخابات نصفيّة ومفاوضات نوويّة لن تؤثّر في إرادة اللبنانيّين الأصيلين. أمّا بدعة التوافق على الرئيس عندما تريدون أن يكون لكم فيه، والانتخاب عندما لا تريدون أن يشارككم الآخرون في ما هو لكم وحدكم قد سقطت هذه البدع كلّها لحظة قال اللبنانيّون قولة « لا» في ساحات الحريّة وفي صناديق الاقتراع.

والحصار الموهوم الذي تتحدّثون عنه دوماً هو نفسه الذي قادكم إلى طاولة المفاوضات مع العدوّ المزعوم في سوق البيع والشراء كما تفضّلتم. عندها لم يعد حصاراً بل صار مصلحةً وطنيّة يوم انتقصتم السيادة وجلستم استعراضيّاً في الغرفة المجاورة، ووقّعتم على وهب ثروة لبنان بالسلم يوم لم يقدر هذا العدوّ أخذها بالحرب !

نعم، مصلحة المسيحيّين والمسلمين اليوم بالتوافق الآن قبل الغد ولكن ليس على رئيس فحسب بل الأولى بهم الاتّفاق على أيّ وطن يريدون؟ على الأقلّ أكثر من نصف اللبنانيّين يعرفون أيّ لبنان يريدون ويجاهرون بلبنان الكيان أوّلاً، والحرّيّة ثانياً، والسيادة ثالثاً. أمّا انتم فلا تريدون سيادة ولا حريّة والأهمّ لا تريدون هذا الكيان. نحن نريد شراكة وطنيّة مع كلّ المؤمنين بجوهر وجود هذا الوطن. وهذا ما لا تؤمنون به وتجاهرون به في كلّ لحظة. أو تناسيت من قال انّه جنديّ في جيش ولاية الفقيه، وماله وسلاحه وعتاده من الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران؟

بكركي لا تُعايَر. وسيّد بكركي ينضح وطنيّةً وسيادةً وحريّةً. والتاريخ يشهد. لا نعاير أحداً بلبنانيّته لكن لا يعايرنَّنا أحد لا بتاريخنا ولا بحاضرنا ولا حتّى بالمستقبل الذي نطمح إليه، ليبقى أولادنا في هذا الوطن. لأنّنا لا نريدهم مشاريع شهداء لمشاريع وأحلام أيديولوجيّة. لكن على ما يبدو أنّ جبران خليل جبران كان ذلك الرؤيويّ الذي أدرك قبل قرن من اليوم أنّه «لنا لبناننا ولكم لبنانكم»!