عصرٌ نووي جديد في الأفق؟

13 : 08

منذ سنة، كان واضحاً أن عاصفة مرتقبة تلوح في الأفق النووي. حذرنا في صحيفة "فورين أفيرز" في شهر كانون الثاني الماضي من أن "الولايات المتحدة قد لا تجد نفسها أمام أزمة نووية واحدة بل ثلاث أزمات خلال فترة سنة". تكلمنا حينها أيضاً عن احتمال أن تنهار المفاوضات مع كوريا الشمالية، وتتدهور مساعي الحد من التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا، وتبدأ إيران بانتهاك التزاماتها بموجب الاتفاق النووي من العام 2015. عند مراجعة أحداث تلك الفترة، يتّضح لنا أننا أغفلنا عن حقيقة الوضع بسبب تفاؤلنا المفرط. خلال السنة الماضية، لم تواجه واشنطن أزمات نووية مع كوريا الشمالية وروسيا وإيران فحسب، كما كان متوقعاً، بل شاهدت تجدد الصراع بين الهند وباكستان المسلّحتين نووياً، فقد شارف البلدان على خوض حرب شاملة، وبدأت مجموعة من حلفاء الأميركيين تعيد النظر بخياراتها النووية. ما لم تتحرك الحكومات في واشنطن وبلدان أخرى بأقصى سرعة لعكس هذا المسار، قد ينظر المحللون مستقبلاً إلى سنة 2019 ويعتبرونها نقطة تحوّل من هدوء نسبي إلى واحدة من أشرس المنافسات النووية. بعبارة أخرى، إنه فجر عصر نووي جديد وخطير!

ربما تباطأت الجهود في ملف كوريا الشمالية، لكنّ الوضع معاكس مع إيران. منذ أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي للعام 2015، فرضت واشنطن على إيران حملة من "الضغوط القصوى" بهدف كبح برنامجها النووي والصاروخي ومنع تدخلها في صراعات الشرق الأوسط عموماً. لكن مع نهاية العام 2019، تبدو إمكانات إيران النووية أكثر تقدماً مما كانت عليه عند بدء حملة الضغوط الأميركية.

ردّت طهران على العقوبات والتهديدات التي أطلقتها واشنطن عبر التخلي عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي في العام 2015 وتوسيع برنامجها النووي. وفي آخر ستة أشهر، استعملت أجهزة طرد مركزي متقدمة لتسريع مسار تخصيب اليورانيوم وزيادة تركّزه، كما عمدت إلى تعزيز مخزونها من اليورانيوم المُخصّب بوتيرة بطيئة لكن ثابتة، واستأنفت تخصيب اليورانيوم في موقع "فوردو" المُحصّن والواقع تحت الأرض. نتيجةً لذلك، أصبح الوقت الذي تحتاج إليه لإنتاج كمية كافية من اليورانيوم عالي التخصيب وتصنيع رأس حربي نووي أقصر مما كان عليه في بداية السنة. ووفق أحدث التقديرات، تتراوح المدة اللازمة الآن بين 6 و10 أشهر، بعدما كانت تتراوح بين 8 و12 شهراً قبل أن تتجاوز إيران الحدود التي يرسمها الاتفاق النووي. يتطلب بناء ترسانة شاملة وقتاً أطول بكثير، لكن تشير الأرقام حتى الآن إلى اقتراب إيران من هدف تصنيع قنبلة نووية.

كانت رسالة التحدي التي أطلقتها طهران واضحة. فهاجمت أو صادرت ناقلات نفط وضربت عقر قطاع النفط السعودي بالصواريخ أو بطائرات بلا طيار. وفي شهر حزيران، أسقطت طائرة أميركية بلا طيار فوق الخليج العربي. ثم أعطى ترامب الإذن بشن ضربة جوية انتقامية، فأصبح البلدان على بُعد دقائق من خوض حرب فعلية.




لا يزال إخماد التوتر مستبعداً. اقترح القادة الإيرانيون التفاوض شرط أن ترفع واشنطن العقوبات أولاً. أساءت تلك العقوبات إلى الاقتصاد الإيراني وساهمت في إطلاق احتجاجات محلية ضخمة، لكنها فشلت حتى الآن في تحقيق أي من أهدافها المعلنة. وفق الوضع الراهن، من المتوقع أن تتابع طهران تطوير برنامج تخصيب اليورانيوم تدريجاً، ما يزيد احتمال حصولها على سلاح نووي (أو قد تندلع حرب لمنعها من تحقيق هذا الهدف).

الحلفاء في حالة قلق


الولايات المتحدة ليست الجهة الوحيدة التي تتابع تحركات إيران عن قرب، إذ تراقب المملكة العربية السعودية أيضاً برنامج طهران النووي وتتابع استعداداتها لإطلاق نسختها الخاصة من برامج الطاقة النووية، وقد أعلنت بكل وضوح أنها تهدف بذلك إلى حماية نفسها في وجه خطط إيران النووية. أظهرت السعودية اهتمامها بتخصيب اليورانيوم تحديداً، علماً أنه قابل للاستعمال لإنتاج الوقود للمفاعلات النووية أو لتصنيع قنابل نووية.

يشكّل النموذج السعودي جزءاً من نزعة أوسع: في أنحاء العالم، شهد العام 2019 تهافتاً متزايداً على برامج الأسلحة النووية، حتى في أوساط حلفاء الولايات المتحدة. يتوسّع الدعم لبناء ترسانة نووية مستقلة في كوريا الجنوبية، وسط بعض النخب السياسية وعامة الناس، وقد أجّج ترامب شخصياً هذه النزعة حين شكك مراراً بالالتزام الأمني الأميركي مع سيول وطالب بزيادة المبالغ التي تدفعها كوريا الجنوبية للولايات المتحدة للمساهمة في تمويل الوجود العسكري الأميركي هناك.وفي شهر أيلول الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لا يتقبّل أن تمنعه دول مسلّحة نووياً، على غرار الولايات المتحدة، من اكتساب ترسانة نووية خاصة بتركيا. بعد بضعة أسابيع، غزت القوات التركية شمال سوريا وأطلقت قذيفة مدفعية على المواقع الأميركية هناك، مع أنها تستضيف منذ فترة طويلة أسلحة نووية أميركية في قاعدة "إنجرليك" الجوية. في غضون ذلك، دفع التشكيك الأوروبي بمصداقية الالتزام الأميركي بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى عرض مظلة نووية فرنسية على حلف الناتو كبديل عن المظلة الأميركية.


تهديد يتجاهله الكثيرون


تُضاف إلى هذه المحاور كلها منطقة أخرى قابلة للاشتعال لكن يغفل عنها المراقبون عموماً: جنوب آسيا. في شهر شباط الماضي، تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، علماً أنهما على خلاف قديم بسبب أرض متنازع عليها في كشمير، فهاجم مقاتلون باكستانيون موكباً أمنياً هندياً في المنطقة. ردّت الهند بقصف موقع في بلدة "بالاكوت" الباكستانية الشمالية. كانت تلك الضربة الجوية غير مألوفة لأنها استهدفت موقعاً خارج المساحة المتنازع عليها، فأصبحت بذلك أول هجوم تطلقه قوة نووية ضد أرض مستقلة وغير متنازع عليها في بلد نووي آخر.

بعد فترة قصيرة على هجوم "بالاكوت"، أسقطت باكستان طائرة تابعة للسلاح الجوي الهندي فوق المنطقة المتنازع عليها واحتجزت طيارها على الجانب الباكستاني. يُقال إن رئيس الحكومة الهندي ناريندرا مودي فكّر بإطلاق صواريخ أرض – أرض ضد باكستان في ما سمّاه "ليلة القتل" في حال لم يعد الطيار سريعاً. كذلك، تفيد التقارير بأن الهند استعملت غواصتها المُسلّحة نووياً، وهي سـابقة في تــاريخ البلدَين المتناحرَين.

سرعان ما سلّمت باكستان الطيار وتجنب البلدان بذلك أي تصعيد إضافي. لكن لا تنذر هذه الأحداث بتطورات إيجابية على مستوى الاستقرار النووي في المنطقة. في آخر عقدين، تعرضت الهند لاعتداءات إرهابية متكررة على يد عملاء ترعاهم باكستان، لكنها اكتفت بردود محدودة خوفاً من تصعيد الوضع مع الدولة المجاورة لها لأنها هددت باستعمال أسلحتها النووية في حال اندلاع أي صراع محتمل. لكن يبدو أن الهند تختبر الآن ذلك الاحتمال عبر اتخاذ تدابير مضادة أكثر جرأة، كونها لم تعد تستطيع تقبّل الاستفزازات من دون الرد عليها.لكن تترافق هذه الاستراتيجية مع مخاطر كبرى، حتى لو كانت مُرضِية محلياً. صحيح أن أزمة شهر شباط لم تتحول إلى صراع شامل، لكن يسهل أن نتخيل التحولات التي كانت تستطيع إطلاق صراع نووي خطير: مقتل الطيار عند استهداف طيارته أو أثناء احتجازه في باكستان، وإقدام باكستان على استهداف موقع له قيمة عالية، وإصرار مودي على شن اعتداءات بالصواريخ... إذا تكررت هذه الأزمة عشر مرات، يسهل أن تؤدي إلى تصعيد هائل في معظم الحالات.




لنفكر أيضاً باحتمال أن تُطوّر الهند استراتيجية نووية مضادة (أي خطة تُركّز على تعطيل القوى النووية المعادية في أي أزمة قبل أن يتسنى لها استعمال أسلحتها)، ما يزيد احتمال أن تتخذ أي مواجهة مستقبلية طابعاً نووياً متسارعاً. هذه المخاطر كلها حوّلت منطقة جنوب آسيا إلى قنبلة نووية موقوتة. وخارج المنطقة أيضاً، قد تــتذرع الدول بمحـــــاولات الهند لتصعيـد استراتيجياتها ضـــد بـاكـــستان ومواجهـة اعتـداءات الخصوم النوويين.


النتائج المرتقبة


كانت سنة 2019 مفصلية نتيجة ثلاثة عوامل أساسية في العصر النووي الحديث: تجدّد المنافسة النووية بين عدد من القوى العظمى، وتوسّع نفوذ القوى النووية الجديدة، من خصوم وحلفاء، وزيادة التسامح مع نزعات تصعيد التوتر بين القوى النووية القائمة وما يرافقها من عواقب كارثية.

تستطيع واشنطن حتى الآن أن تمنع جزءاً من هذه النتائج أو تُخفف وقعها على الأقل. على سبيل المثال، يمكنها أن تعمل على إصلاح الأضرار التي لحقت بتحالفاتها، وتطيل صلاحية معاهدة "نيو ستارت"، وتطبّق دبلوماسية أكثر واقعية مع كوريا الشمالية وإيران. لكن من المتوقع أن تستمر نزعات أخرى وتُرسّخ المخاطر النووية المتزايدة، منها تجدّد المنافسة بين القوى العظمى، والتراجع النسبي للنفوذ الأميركي، وتوسّع نفوذ الهند ونجاحها في إثبات نفسها. تطرح كل واحدة من هذه النزعات تحدياً كبيراً، وقد ينذر التقاؤها خلال هذه السنة ببداية عصر نووي جديد!


MISS 3