البروفسور أنطونيوس أبو كسم

إنحلال الدولة اللبنانية في ذكرى الإستقلال

21 تشرين الثاني 2022

02 : 00

لم تشهد الجمهورية اللبنانية أزمة كتلك التي نعيشها اليوم. أزمة متعدّدة الأوجه: اقتصادية، مالية، سياسية، مؤسساتية، قضائية، تربوية، اجتماعية، صحيّة، قيَميّة وسيادية. بمناسبة ذكرى الاستقلال التاسع والسبعين، إنّ الأزمة السيادية تنبئ بالأسوأ. بالرغم من تطوّر مفهوم السيادة جرّاء اتساع العلاقات الدوليّة، إلا أنّ تدمير أركان السيادة جرّاء انحلال مؤسسات الدولة، يبقى الأخطر.

إنّ سيادة الدولة الداخلية تهتزّ كلّ يوم جرّاء انتهاك سيادة القانون. بدل أن يكون القانون هو الحلّ والعنصر الناظم للمجتمع، أصبح تطبيق القانون هو المشكلة. فالتهرّب من تطبيق القانون والاستقواء على القانون عبر ممارسات قَبَليّة شاذّة يضربان ما تبقّى من هيبة مِرفَقَي القضاء والعدل.

المؤسسات الدستورية تتعطّل، بسبب الاستقواء على الدستور عبر انتهاك روحه، حيث أنشئت المؤسسات الدستورية لتعمل لصالح المصلحة العامة وليس لمصالح فئوية ومذهبيّة وميليشياوية. إنّ استنباط الحلول خارج المؤسسات بغية تسييرها يشكّل انتهاكاً لسيادة الدستور. إنّ كلّ تسوية سياسية تهدف إلى الانقلاب على القانون بغية تحوير وظيفته، ليست إلّا مظهراً من مظاهر انحلال الدولة. فبدل أن يكون القيّمون على تطبيق الدستور والقانون بشكل عام هم رجال دولة، للأسف ليسوا إلّا رجال سلطة، يعملون لدى أرباب عملٍ ينتهجون كتاب عبادة المال والسلطة.

أيّ دولة تدّعي السيادة ونوّاب الأمّة يجهلون الدستور؟ أيّ دولة تدّعي السيادة ونوّاب الأمّة لا يجيدون تفسير أحكام الدستور؟ أي دولة تدعي السيادة واحترام الدستور، يمثّل نائب في البرلمان رئيس الدولة (وحتى بعد انتهاء ولايته) في عملية مفاوضة عقد المعاهدات الدولية في ظل وجود وزير للخارجية والسلك الدبلوماسي؟ أي دولة تدّعي السيادة، ورئيس حكومتها يبرر رفع الضرائب ورفع الرسوم الجمركية فقط استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي؟

أيّ دولة تدّعي السيادة ورؤساء الميليشيات وأمراء الحرب الأهلية يضعون مواصفات رئيس الجمهورية العتيد ويحاولون فرضها بالابتزاز؟ أيّ دولة تدّعي السيادة ورؤساء الميليشيات فيها يحاضرون بالسيادة في حين أنّهم يعملون لصالح دول أجنبيّة ويأتمرون بها لتنفيذ أجنداتها؟

أي دولة تدّعي السيادة، ويفرض مبعوث أجنبي على أركان الحكم والمقاومة إقرار اتفاقية ترسيم منقوصة مع العدو خارج إطار القانون الدولي والمؤسسات الدستورية؟ أي دولة تدّعي السيادة تقايض على حدود الوطن مقابل رفع العقوبات عن سياسيين متّهمين بالفساد؟ أيّ دولة ذات سيادة، تتمّ فيها التسوية ما بين ملف قضائي مقابل ملف دبلوماسي يتعلّق بعلاقات لبنان الخارجيّة؟ أيّ دولة ذات سيادة ترتعب من تغريدة سفيرٍ أجنبيّ؟ أيّ دولة ذات سيادة يتخاطب مسؤولوها خارج المؤسسات عبر التغريدات؟ أيّ دولة ذات سيادة وصل فيها مستوى التخاطب إلى لغة الشتائم عبر التغريد؟ هناك لغطٌ ما بين تقمّص شخصيّة العصافير وما بين إتقان لغة العصفوريّة.

أي دولة تدّعي السيادة، وسفير دولة أجنبية ينظّم مؤتمراً بشأن تطبيق دستور الدولة المعتمد لديها، بل وتتدافع «الزعامات» للجلوس في المقاعد الأمامية، وتنتظر إلى «ما بعد بعد» انتهاء الاحتفال لالتقاط صورة وقوفاً لربما تُحَسِّنُ من صورتها وحظوظها.

أيّ دولة ذات سيادة لديها جيش وطنيّ وتقبل بوجود سلاح متفلّت بيد أحزاب وميليشيات وعصابات وفنّانين؟ أيّ دولة تدّعي السيادة تطالب جيشها بحماية الوطن فيما تتركه جائعاً؟ أيّ دولة تدّعي السيادة يسافر مواطنوها للقتال في دول أجنبيّة للدفاع عن مصالح دولٍ أخرى؟ أيّ دولة تدّعي السيادة، تُهرَّب إليها ومنها المحروقات دون حسيب بل بوجود رقيب؟ أيّ دولة تدّعي السيادة يهاجَم جيشها لمحاربته عصابات تجّار المخدّرات؟ أي دولة تدّعي السيادة تخاف قواها الأمنيّة من توقيف متّهم أو محكوم بناءً لإشارة قضائية؟

أيّ دولة تدّعي السيادة وتطلق على المهجرين والوافدين السوريين لاجئين ونازحين؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وتُنهَبُ أموال مواطنيها وتتهيّب محاكمة السارقين؟ أيّ دولة تدّعي السيادة والمتهمون فيها يقاضون القضاة؟ أيّ دولة تدّعي السيادة والقضاء فيها قائم على مبدأ عرقلة سير العدالة؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وقضاتها مضربون فقط لسبب عدم زيادة رواتبهم، في حين أنّ عبادة المال تتضارب مع عبادة الله الذي هو ميزان العدل؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وحقوق الإنسان مقيّدة حيث لا يستطيع المواطن السفر بسبب أزمة إصدار جوازات السفر؟ أيّ دولة تدّعي السيادة ومئات الموقوفين يقبعون لسنين في السجن من دون محاكمة عادلة؟ أيّ دولة تدّعي السيادة يصدر فيها عفو خاص للمحكومين بعد وفاتهم؟ أيّ دولة تدّعي السيادة تخاف مواجهة ضحايا الجرائم الكبرى؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وتخاف أن تُعامِل الدول الأخرى بالمثِل؟

أيّ دولة تدّعي السيادة يجوع شعبها ولا تجتمع الحكومة لاتخاذ الإجراءات اللازمة بسبب مناكدات سياسية؟ أيّ دولة تدّعي السيادة لا تقرّ موازنة الدولة العامة بشكل دستوري؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وتُغلِّب العملة الأجنبيّة على العملة الوطنيّة؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وجامعاتها تبيع آلاف الشهادات المزوّرة؟ أيّ دولة تدّعي السيادة وتُسرَق أموال جامعتها الوطنيّة بغطاء بعض أركان السلطة؟

أمّا السبب الأساسي لانحلال الدولة فهو فقدان سيادة الضمير وفقدان سيادة الكرامة وفقدان سيادة الإنسانية لدى أغلبيّة المسؤولين. ويبقى الاستقلال ذكرى اندحار الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية، فيما نحتفل اليوم باندحار الأدمغة اللبنانية عن الأراضي اللبنانية نحو الدول الأجنبيّة.

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وذهب الوطن!

(*) محامٍ دولي وأستاذ جامعي


MISS 3