بوريس بوندرايف

تحليل دبلوماسي منشق عن الكرملين

أسباب الإخفاقات الروسية

22 تشرين الثاني 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

طوال ثلاث سنوات، كانت أيام العمل تبدأ بالطريقة نفسها. في الساعة السابعة والنصف صباحاً، كنتُ أستيقظ وأطّلع على الأخبار وأتجه إلى العمل مع البعثة الروسية في مكتب الأمم المتحدة في جنيف. كان هذا الروتين اليومي بسيطاً ومتوقعاً، وهو جزء أساسي من حياة أي دبلوماسي روسي. لكن تغيّر كل شيء في 24 شباط. حين فتحتُ هاتفي للاطلاع على الأنباء، شاهدتُ خبراً صادماً ومريعاً: بدأت القوات الروسية الجوية تقصف أوكرانيا. تعرّضت خاركيف وكييف وأوديسا للقصف، وراحت القوات الروسية تخرج من شبه جزيرة القرم وتتجه إلى مدينة خيرسون الجنوبية، ودمّرت الصواريخ الروسية المباني ودفعت السكان إلى الهرب. شاهدتُ فيديوات الانفجارات وصفارات الإنذار المرافقة للغارات الجوية، ورأيتُ الناس وهم يهربون وسط حالة من الذعر التام. أخبرتُ زوجتي بأنها «بداية النهاية»، وقررنا أن أستقيل من عملي.

بعد غزو أوكرانيا، أصبح إنكار وحشية روسيا ونزعتها القمعية مستحيلاً. كان ذلك التحرك ينمّ عن وحشية فائقة، وهو يهدف إلى إخضاع دولة مجاورة ومحو هويتها العرقية، ويمنح موسكو العذر الذي تريده لسحق أي معارضة محلية. ترسل الحكومة الآن آلاف المجندين لقتل الأوكرانيين. تثبت هذه الحرب أن روسيا لم تعد مجرّد ديكتاتورية عدائية، بل أصبحت دولة فاشية.

أدى الغزو الروسي إلى تقوية حلف الناتو وفرض عقوبات صارمة بما يكفي لتقليص الاقتصاد الروسي. لكن تعطي الأنظمة الفاشية الشرعية لنفسها عبر فرض نفوذها بدل تحقيق المكاسب الاقتصادية، وأصبح بوتين عدائياً ومنفصلاً عن الواقع لدرجة ألا يوقفه أي ركود اقتصادي. يريد بوتين تحقيق الانتصار العظيم الذي وعد به لتبرير استمرار حُكْمه. هو لن يوافق على وقف إطلاق النار إلا لمنح استراحة للقوات الروسية قبل متابعة القتال. وإذا فاز في أوكرانيا، من المتوقع أن يهاجم دولة سوفياتية سابقة أخرى مثل مولدوفا، حيث تدعم موسكو منطقة انفصالية أصلاً.

لا يمكن ردع الدكتاتور الروسي إلا بالطريقة التي اقترحها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في شهر نيسان، ما يعني إضعاف البلد «لدرجة أن يعجز عن تكرار التحركات التي قام بها لغزو أوكرانيا». قد يبدو هذا الهدف بعيد المنال، لكن تراجعت قوة الجيش الروسي بدرجة كبيرة، وخسر البلد جزءاً من أفضل جنوده. وبدعمٍ من حلف الناتو، تستطيع أوكرانيا أن تهزم روسيا شرقاً وجنوباً في نهاية المطاف، كما فعلت شمالاً.

سيواجه بوتين، إذا تعرّض للهزيمة، وضعاً خطيراً محلياً لأنه سيضطر لتفسير فشله في تحقيق التوقعات المنتظرة منه أمام النخبة الحاكمة وعامة الناس، ويجب أن يخبر عائلات الجنود القتلى بأسباب سقوطهم بلا مبرر. ونظراً إلى تصاعد الضغوط على البلد بسبب العقوبات، سيضطر لتقديم هذه التفسيرات كلها فيما يواجه الروس وضعاً أسوأ من ظروفهم الراهنة. قد يفشل في هذه المهمة ويواجه ردة فعل عنيفة ويتم استبعاده. أو قد يبحث عن كبش فداء أو يُسقِطه المستشارون والنواب الذين يُهدد بطردهم. في مطلق الأحوال، ستحصل روسيا على فرصة لإعادة بناء نفسها إذا رحل بوتين من السلطة، وقد تتخلى أخيراً عن أوهام العظمة التي تتمسك بها اليوم.

على مر الحرب، بدأ القادة الغربيون يلاحظون إخفاقات الجيش الروسي. لكنهم لا يدركون على ما يبدو أن السياسة الخارجية الروسية أصبحت مفككة بالقدر نفسه. تكلم عدد كبير من المسؤولين الأوروبيين عن ضرورة التفاوض وعقد تسوية لإنهاء الحرب، وقد يضغطون على أوكرانيا لإبرام صفقة مماثلة إذا سئمت بلدانهم من تحمّل التكاليف المرتبطة بدعم كييف على مستوى الطاقة والاقتصاد. حتى أن الغرب قد يحاول إقناع كييف بعقد السلام إذا أطلق بوتين تهديدات عدائية باستعمال الأسلحة النووية.

لكن طالما يبقى بوتين في السلطة، لن تتمكن أوكرانيا من التفاوض مع أحد في موسكو. لا يمكن التحاور مع وزارة الخارجية أو أي جهاز حكومي روسي آخر بطريقة جديرة بالثقة لأن هذه الأطراف كلها هي امتداد لبوتين وأجندته الإمبريالية. بعبارة أخرى، سيكون وقف إطلاق النار مجرّد فرصة كي تعيد روسيا تسليح نفسها قبل استئناف الهجوم.

لا يمكن ردع بوتين إلا إذا تعرّض لهزيمة شاملة. يستطيع الكرملين أن يكذب على الروس كما يشاء، ويمكنه أن يأمر الدبلوماسيين بالكذب على جميع الأطراف الأخرى. لكن لا يهتم الجنود الأوكرانيون بأخبار التلفزيون الروسي الحكومي، ولم يكن إخفاء الهزائم الروسية عن الرأي العام الروسي ممكناً حين نجح الأوكرانيون في استرجاع معظم مقاطعة خاركيف خلال بضعة أيام من شهر أيلول الماضي. رداً على هذا الحدث، اشتكى المحللون على التلفزيون الروسي من الخسائر المتلاحقة. على مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد المحللون الروس المؤيدون لاستعمال القوة الرئيس بوتين مباشرةً، فكتب أحدهم منشوراً لاقى رواجاً واسعاً حيث سَخِر من بوتين لأنه أشرف على افتتاح عجلة الشمس الدوارة تزامناً مع انسحاب القوات الروسية، فتساءل: «أنتَ تنظّم حفلاً بقيمة مليون روبل في هذه الظروف. ما خطبك؟».

ردّ بوتين على تلك الخسارة وعلى منتقديه عبر تجنيد أعداد هائلة من الناس. أعلنت موسكو أنها بصدد تجنيد 300 ألف رجل، لكن قد يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير. على المدى الطويل، لن يحلّ التجنيد مشاكل بوتين. تعاني القوات الروسية المسلحة من تراجع المعنويات ونقص المعدات، ولا يمكن حل هذه المشاكل عبر إعلان التعبئة. يحظى الجيش الأوكراني من جهته بدعم غربي واسع ويمكنه أن يُلحِق هزيمة كبرى بالقوات الروسية، فيجبرها على الانسحاب من أراضٍ أخرى. حتى أن أوكرانيا قد تهزم الجنود الروس في أجزاء من إقليم دونباس حيث يتقاتل الطرفان منذ العام 2014.

في هذه الحالة، قد يصبح بوتين محاصراً، فيردّ على الهزيمة عبر إطلاق هجوم نووي. لكن يحب الرئيس الروسي حياته المترفة ويُفترض أن يدرك أن استخدام الأسلحة النووية قد يطلق حرباً قادرة على قتله هو شخصياً. قد يأمر بوتين بإعلان تعبئة عامة، ما يعني تجنيد جميع الشبان الروس، لكن تعطي هذه الخطوة استراحة مؤقتة للبلد بكل بساطة. وكلما زادت أعداد القتلى الروس خلال القتال، لا مفر من أن يواجه بوتين معارضة داخلية متوسعة. قد يقرر الرئيس في النهاية الانسحاب ويطلب من منظمي الحملة الدعائية الروسية لوم المحيطين به على هذه الهزيمة المحرجة، كما فعل البعض بعد الخسائر في خاركيف. لكنّ هذا النهج قد يدفع بوتين إلى طرد مساعديه، فيصبح استمرار الدعم من أقرب حلفائه بالغ الخطورة. نتيجةً لذلك، قد يقع أول انقلاب داخلي في موسكو منذ إسقاط نيكيتا خروتشوف في العام 1964.

إذا رحل بوتين من السلطة، سيكون مستقبل روسيا مبهماً. قد يحاول خَلَفه أن يتابع الحرب، إذ يأتي معظم مستشاري بوتين الأساسيين من الأجهزة الأمنية. لكن لا أحد في روسيا يتمتع بمكانته، لذا قد يدخل البلد في حالة من الاضطراب السياسي، حتى أنه قد يغرق في الفوضى.



MISS 3