تيموثي نفتالي

بوتين يخشى الإنسحاب

24 تشرين الثاني 2022

02 : 00

منذ ستين سنة، حلّ البيت الأبيض والكرملين أخطر أزمة نووية في الحقبة المعاصرة بطريقة سلمية. لم ترغب أي قوة منهما في أن ينتهي الخلاف على موقع الصواريخ السوفياتية في كوبا باندلاع الحرب، لكن هدّد الطرفان باستعمال العنف دفاعاً عن مصالحهما. لا يبحث بعض المراقبين اليوم عن دروس مفيدة من ذلك الاشتباك القديم لإخماد الحرب في أوكرانيا لمجرّد أن الصراع الراهن يتزامن مع ذكرى أزمة الصواريخ الكوبية. ألمح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى احتمال أن يتخذ الصراع منحىً نووياً منذ أن أعلن عن غزو أوكرانيا في شهر شباط الماضي. ثم كرر هذا التهديد بعدما سارع العالم الغربي وحلفاؤه في آسيا إلى مساعدة أوكرانيا، وعندما بدأت الحرب تتخذ مساراً سيئاً بالنسبة إلى الروس. في 21 أيلول، حذر بوتين من استعداد الكرملين لاستخدام «جميع أنظمة التسلّح المتاحة» لحماية «وحدة الأراضي» الروسية و»استقلال روسيا وحريتها». وبما أن أياً من دول الناتو لم يُهدد وحدة الأراضي الروسية أو استقلال البلد وحريته، بدا ذلك التصريح أشبه بتهديد نووي متعمد أو خدعة خطيرة في أفضل الأحوال.



الرئيسان فلاديمير بوتين وجو بايدن كبيران بما يكفي لتذكّر أزمة الصواريخ الكوبية. سبق وأعلن بايدن أنه يفكر بتلك الأزمة في خضم سعيه لتحديد طبيعة الرد الأميركي على العدوان الروسي. خلال حدث سياسي لجمع التبرعات في نيويورك، في شهر تشرين الأول، عبّر بايدن عن قلقه من وقوع كارثة نووية مريعة هي الأكبر منذ ستين سنة.

لكن يحمل الرئيسان على ما يبدو رأياً مختلفاً حول الدروس التي يمكن استخلاصها من أزمة الصواريخ الكوبية. من وجهة نظر بايدن وعدد كبير من المحللين الأميركيين، كان حل تلك الأزمة يرتكز بشكلٍ أساسي على الاحترام المتبادل، والرغبة المشتركة في تجنب الحرب، والتفاوض الذكي والمرن الذي سمح للطرفَين بحفظ ماء الوجه. قال بايدن في حفل جمع التبرعات: «نحن نحاول اكتشاف العوامل التي تجعل بوتين يبطئ مساره». يبدو أنه يعتبر نفسه في موقف مشابه لما واجهه الرئيس جون ف. كينيدي حين اضطر لمساعدة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لتبديد احتمال إطلاق صراع شامل وحرب نووية. سأل بايدن: «أين يجد (بوتين) مخرجاً لنفسه؟ متى يجد نفسه في موقفٍ يجعله يخسر ماء الوجه ويفقد أيضاً سلطته المؤثرة داخل روسيا»؟

لكن لا يوافق بوتين على هذه النسخة من الأحداث، علماً أنه كان قد أعطى موافقته منذ عقدَين تقريباً على رفع السرية عن المكتب السياسي للحزب الحاكم (كان يُعرَف حينها باللجنة التنفيذية الدائمة). تبيّن في مرحلة معينة أن خروتشوف هو الذي اتخذ الخطوة الأولى لتنفيذ الانسحاب في الماضي. بعد يومَين فقط على إلقاء كينيدي خطابه المؤثر حيث طالب موسكو بنزع صواريخها النووية من كوبا، جمع خروتشوف زملاءه في اللجنة التنفيذية الدائمة لإبلاغهم بضرورة الموافقة على طلب كينيدي إذا أرادوا تجنب الحرب. أمام هذا الموقف المهين، حاول خروتشوف أيضاً أن يجد حلاً لزيادة قدرته على حفظ ماء وجهه في العالم الاشتراكي ومنع الحرب مع الغرب.

يميل الأميركيون إلى تذكّر النتيجة السلمية لتلك الجهود، لكن أدرك القادة الروس حينها معنى الإهانة التي رافقت التراجع أمام الولايات المتحدة، ويعرف القادة المعاصرون معناها اليوم. في النهاية، فشلت جهود خروتشوف الرامية إلى اعتبار أحداث تشرين الأول 1962 شكلاً من الانتصار. بعد سنتين على أزمة الصواريخ الكوبية، أُقيل خروتشوف من منصبه بقرار من زملائه في اللجنة التنفيذية الدائمة بسبب قلة كفاءته. يدرك بايدن أهمية الحنكة السياسية لحل أزمة الصواريخ الكوبية، لكن يعتبرها بوتين في المقابل مؤشر ضعف.

في الشهر الماضي، أكد بوتين مجدداً على رأيه الحقيقي بأزمة الصواريخ وانسحاب خروتشوف حين أجاب على سؤال طرحه الصحافي الروسي وخبير السياسة الخارجية، فيودور لوكيانوف، خلال مقابلة صريحة دامت لثلاث ساعات في نادي «فالداي» للنقاش. في إشارة إلى ذكرى أزمة الصواريخ الكوبية، طلب لوكيانوف من الرئيس بوتين أن يضع نفسه مكان خروتشوف قائلاً: «يصادف يوم الغد الذكرى الستين لأهم يوم في أزمة الكاريبي، حين قررنا الانسحاب». أجاب بوتين: «مستحيل! لا يمكنني أن أضع نفسي مكان خروتشوف في أي لحظة».

لا يريد بوتين أن يقارنه أحد بزعيم سابق اتخذ قرار الانسحاب. سرعان ما كشف الرئيس الروسي معطيات أخرى عن مواقفه. هو أبدى استعداده لقيادة المفاوضات، كما فعل خروتشوف مع الولايات المتحدة، لكنه ليس مستعداً لإنهاء الأزمة الراهنة في أوكرانيا. على غرار خروتشوف في العام 1962، عبّر بوتين عن قلقه من وضع المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لكنه ليس مستعجلاً للجلوس مع المسؤولين الأميركيين لإخماد التوتر النووي المتصاعد، على عكس خروتشوف. قال بوتين في مقابلته مع لوكيانوف: «في شهر كانون الأول من السنة الماضية، اقترحنا على الأميركيين متابعة الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي، لكنهم لم يعطونا أي جواب... إذا أراد أي طرف أن يحاورنا حول هذه المسألة، نحن مستعدون لذلك. فلنبدأ بهذه الخطوة».

رغم غياب أي قواسم مشتركة واضحة بين الغزو الروسي الحالي لأوكرانيا وأزمة الصواريخ الكوبية منذ 60 سنة (تشمل الحالة الأولى غزواً تقليدياً لبلد مجاور من جانب قوة عظمى، بينما استُعمِل بلد حليف، على بُعد آلاف الأميال، لتهديد قوة عظمى بالأسلحة النووية في الحالة الثانية)، من اللافت أن يحمل بوتين وبايدن هذه النظرة المختلفة إلى نوعية القيادة في تلك الأزمة.

ليس مفاجئاً أن يعتبر الروس، وعلى رأسهم بوتين، أزمة الصواريخ الكوبية فشلاً للكرملين. أوقف خروتشوف خطة إنشاء قاعدة صواريخ سوفياتية في كوبا مقابل مكاسب ضئيلة جداً اقتصرت على وعد شفهي من الرئيس الأميركي بالامتناع عن غزو الجزيرة ونزع الصواريخ الأميركية التي كانت لتصبح بالية بعد وقتٍ قصير وما كان يُسمَح للسوفيات بمناقشة موضوعها علناً. من الطبيعي أيضاً أن يتأثر حاكم مستبد مثل بوتين باعتبار أزمة كوبا لاحقاً سبباً لتنحية خروتشوف في العام 1964.

في المقابلــة مع لوكيانوف، دافع بوتين عن ضم أربعة أقاليم في شرق أوكرانيا وجنوبها، في شهر أيلول، واعتبر المعسكر الذي يدعم سيادة أوكرانيا في الولايات المتحدة وأوروبا منافقاً، فقال: «نحن نلاحظ أن عمليات ديمغرافية وسياسية واجتماعية معقدة تحصل في البلدان الغربية. هذا شأنهم الداخلي طبعاً. لا تتدخل روسيا في هذه المسائل ولن تتدخل يوماً. على عكس الغرب، نحن لا نتطفل على أحد. لكننا نأمل في أن تطغى المواقف البراغماتية وأن يصبح الحوار بين روسيا والغرب التقليدي الأصيل مساهمة مهمة لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب».

لكن ما معنى «الغرب التقليدي الأصيل»؟ كان بوتين يشير حتماً إلى الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة وأحزاب يمينية أخرى في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. من الواضح أنه كان يتوقع أن تُغيّر الانتخابات الأميركية النصفية المشهد السياسي في البلد وتُضعِف الدعم الأميركي لأوكرانيا. لكن بعد النتائج القوية والمفاجئة التي حققها الحزب الديمقراطي بقيادة بايدن، أصبح هذا الاحتمال أقل واقعية اليوم. مع ذلك، لا يبدو بوتين مقتنعاً بقوة تصميم الأميركيين والأوروبيين، على عكس خروتشوف في ذروة أزمة الصواريخ. في مطلق الأحوال، يرفض بوتين أن يقارنه أحد بخروتشوف خلال تلك الأزمة لأنه ليس مستعداً بعد للتخلي عن أهدافه الأساسية، مع أن السعي إلى تحقيق تلك الأهداف سرّع نشوء أزمة لا تبدو قابلة للحل، وهي من صنع الرئيس الروسي شخصياً.

لم يكن حل الأزمة في العام 1962 ينجم عن الحنكة الأميركية، بل إنه اشتق في المقام الأول من خوف روسيا ثم سيطرة المواقف البراغماتية. قد تكون الخسارة الأخيرة في «خيرسون»، في جنوب أوكرانيا، ونجاح الديمقراطيين النسبي في الانتخابات النصفية الأميركية، دافعاً منطقياً لتشجيع الكرملين اليوم على إعادة تقييم الوضع بطريقة براغماتية. منذ بضعة أسابيع، كان بوتين يعتبر الانسحاب من المقاطعة الأوكرانية الوحيدة التي نجحت قواته العسكرية في السيطرة عليها فكرة غير واردة بأي شكل. اختلف الوضع الآن، لكن لا يشير هذا الانسحاب إلى رغبة روسيا في إخماد حدّة الصراع. أصبح إقناع الشعب الروسي بتنفيذ انسحاب استراتيجي واسع النطاق أكثر صعوبة بعد قرار بوتين الجريء بضم أربعة أقاليم (بما في ذلك «خيرسون»). على عكس خروتشوف، زاد بوتين مخاطر تأجيج المواجهة حين بدأت مناوراته تنهار. من الأصعب عليه إذاً أن يتراجع الآن ويحفظ ماء وجهه. كذلك، لا يرغب الرئيس الروسي على ما يبدو في إبطاء مساره، حتى الآن على الأقل. على بايدن والفريق الذي يدعو البيت الأبيض إلى الضغط على كييف للتفاوض مع موسكو ألا ينسيا هذا الاختلاف في المواقف في أي لحظة. لا تشبه الحرب الراهنة في أوكرانيا أزمة الصواريخ الكوبية، ولا يشبه بوتين خروتشوف في شيء.