نوال نصر

عامان مرّا على اعتقاله في باكو

اللبناني - الأرمني فيكان بين الحياة والموت... هكذا أسره الأذريون

24 تشرين الثاني 2022

02 : 00

قبل عامين: جنود أرمن على خط النار
لا، ليس فيكان الجيكجيان، ولا عشرات الأسرى مثل فيكان، لا اليوم ولا البارحة، على قائمة محادثات رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان مع أذربيجان وروسيا. ففيكان لبناني، لبناني أرمني، أسير لدى الأذريين منذ عامين بالتمام والكمال. وحاله في الأسر حال. هو متهم بالإرهاب. هو يموت في اليوم القصير مرّات. فهل نتركه بحالِهِ؟ هل همومنا الكثيرة قادرة أن تجعلنا نقول: وما همنا من فيكان وأمثال فيكان؟ لا، فقصّة فيكان تجعل من له قلب يرتجف. هو اليوم، بعد عامين على اتفاق إنهاء حرب قره باخ، في الأسر بتهمة لفقت له. إنها التهمة الأسهل: الإرهابي فيكان.





لا ننتبه غالباً الى أحداثٍ كثيرة تدور من حولنا، أو ننتبه إليها لكننا نتغاضى عنها. فيكان الجيكجيان واحدٌ من الأشخاص الذين يدفعون ثمن انهماكنا في أمورنا - ولا شيء غير أمورنا - متناسين أن الإنسانية هي ألّا نقبل أن يُهان أحدهم أمامنا. فيكان كان جندياً في الجيش اللبناني الباسل. ولد في لبنان وعاش في لبنان وعانى، مثلنا تماماً، في لبنان. وهو قرر في العام 2018 مثل لبنانيين - أرمن كثيرين الحصول على الجنسية الأرمنية... وحصل عليها. وبعد عام، يوم اشتدّت الأزمة في لبنان، قرر أن ينتقل الى أرمينيا. وهناك، في الإقليم المتنازع عليه في قره باخ، قدموا له أرضاً وبيتاً. ومنذ وصل اشتدّ وباء كوفيد-19 وأقفلت المطارات. ويوم بدأت الحرب في آرتساخ طالبته القوات الأرمنية بالإلتحاق، كما كل الشباب الأرمن، للتطوع كإحتياطي في عديدها. إلتحق أربعة ايام فقط وعاد الى يريفان بعد إعلان وقف إطلاق النار.



فخّ الجغرافيا والأطماع



إفادة تحت الضغط

توقفت الحرب. توقفت الأعمال العسكرية. فقرر الذهاب الى قره باخ ليجلب أغراضه وأثاث منزله. رافقته اللبنانية - الأرمنية مارال نجاريان التي أرادت هي أيضا أن تأتي بأغراضها. وقيل وقتها أنها خطيبته. لا، لم تكن خطيبته وإن كانت قد قالت ذلك في اعترافاتها. نصغي الى زوجة فيكان ليندا تخبرنا عن بقية تفاصيل القصة: «تحت التعذيب طلبوا من مارال أن تقول أشياء كثيرة عن فيكان ليست صحيحة، بينها أن فيكان إلتحق كمرتزقة بالقوات الأرمنية، لقاء 3000 دولار. إنها الشاهدة الوحيدة على تفاصيل كثيرة جرت في لحظات الإعتقال وهي موجودة حالياً في أرمينيا. لا ألومها على كل ما قالته لأنها كانت تحت ضغط السلاح، ويوم خرجت من الإعتقال صححت إعترافاتها أمام السفارة الارمنية في بيروت».

ماذا حصل مع فيكان؟ فلنسأل مارال التي أمضت في الأسر لحظات صعبة وخرجت بذكريات أليمة لا تنتسى عن فيكان وعنها وعن الأسر والتعذيب والإعتراف الذي أدلت به واستند إليه الأذريون في اتهام فيكان. تعود مارال بالذاكرة عامين بالتمام والكمال وتقول: «ذهبنا سوياً الى قره باخ لجلب أغراضنا. كان آخر يوم من أيام الحرب بين الطرفين. كان بالتحديد يوم 10 تشرين الثاني من العام 2020. كانت الغرف، حيث أغراضنا، أشبه بالمتاريس ويصعب العبور إليها. أردتُ العودة غير أن فيكان أصرّ على جلب أغراضه وتابع طريقه نحو شوشي في ارتساخ حيث يسهل الدخول من هناك. كنت خائفة. أردت العودة. قلتُ لفيكان: ليت الجيش الأرمني يضع حاجزاً على الطريق يمنع إنتقال الأرمن الى شوشي. لكن طريقنا كانت مفتوحة. دقائق وظهر أمامنا حاجز أذري. أوقفونا. أخذوا أجهزتنا الخلوية. وصوّبوا السلاح على رؤوسنا.



الأيام الصعبة


أنزلونا من السيارة ووضعونا في زاوية، في المكان، وحين وجدوا في هاتف فيكان صوراً له بالبزة العسكرية الأرمنية، أيام التطوع، إتصلوا بوحدة أذرية أخرى، فحضر عشرة عناصر وبدأوا ضرب فيكان، ما أدى الى إصابته بالإغماء. ربطوا يديّ فيكان وربطوا يديّ ووضعوا قماشة حول عيوننا ووضعونا في سيارة رباعية الدفع. لم أكن حتى تلك اللحظة مدركة لما يحصل. مشت المركبة بنا نحو ربع ساعة. أنزلونا ووضعونا في مركبة أخرى، كانت تحتوي على الأرجح على محروقات، بنزين ومازوت. لم أكن أرى لكن الرائحة كانت قوية. ظننتُ أنهم يريدون إحراقنا. خفتُ كثيراً. خفت لدرجة لا يمكن وصفها. كانت نوافذ المركبة مقفلة والرائحة قوية. بعد نحو ربع ساعة صعد أربعة أشخاص الى السيارة، جلس اثنان في المقدمة، وجلس الى جانبنا اثنان أيضا. أصبحنا أربعة على المقعد الخلفي. كدنا نختنق. مشت بنا المركبة نحو خمس ساعات متواصلة «طلوعاً ونزولاً» وأيدينا مشدودة الى الوراء حتى أن الدم كاد يخرج من يديّ فيكان لكثرة ما كانتا مشدودتين».



الصورة التي جعلت فيكان إرهابياً



التحقيق مع مارال

لحظات ودقائق مرعبة. فكيف أكملا رحلة الأسر؟ تتابع مارال: «أخذونا الى داخل أذربيجان، حيث وضعونا، كلّاً على حدة، في الإنفرادي، في غرفة فارغة. بقينا طوال يومين. بعدها وضعوني في سيارة للمساجين، فيها فاصل حديدي، وعلى الطريق سمعت صوت فيكان فأدركتُ أنه موجود في نفس السيارة. سألتُ السجان: الى أين تأخذونني؟ أجابني: الى باكو. هناك، بدأ التحقيق ولم أعد أرى أو أسمع فيكان. جلسة التحقيق الأولى دامت سبع ساعات وحتى تلك اللحظة لم أكن قد استوعبتُ بعد أننا أسرى. وضعوني في غرفة بابها حديدي وراحوا يحققون معي يومياً: من أنتِ؟ من أين أتيت؟ ما هي علاقتك بفيكان؟ ماذا تعرفين عنه؟ هنا تستطرد مارال قائلة: كذبتُ عليهم. قلتُ لهم: هذا خطيبي. إعتبرتُ أنني أحميه بهذه الطريقة. مع العلم أنني وفيكان وزوجته ليندا أصدقاء. لا يمكنكم أن تتصوروا تلك المرحلة في حياتي».

ثلاثة سجون مرّت فيها مارال. مكثت في أول سجن ثمانية أيام وفي ثاني سجن ثمانية أيام وفي ثالث سجن بقيت ثلاثة أشهر ونصف الشهر. نتابع الإصغاء إليها: «قلتُ لهم مراراً أن فيكان تطوع إجبارياً في الجيش الأرمني وليس مقاتلاً لكنهم أصروا على أن أقول أنه قاتل في صفوف الجيش الأرمني. قلت لهم إنه أتى من لبنان الى أرتساخ ثم انتقل الى يريفان فأصروا أن أقول أنه كان في يريفان وانتقل الى أرتساخ. أرادوا أن أقول ما يريدون. واستخدموا ما قرروا أن أقوله من أجل إثبات أن فيكان كان مقاتلا وتقاضى مالاً ليحارب. وسجلوا الإفادة فيديو. صدقيني كنت خائفة جداً وبين أيديهم. ولم يكن بإمكاني أن أعارضهم». تغصّ مارال مراراً وهي تسترجع أيام السجن العصيبة.

مارال بعد إطلاق سراحها



خسر فيكان نصف وزنه

نعود الى ليندا زوجة فيكان. نسألها عن زوجها؟ هل تردها أخبار جديدة عنه؟ هل تحركت وزارة الخارجية للمطالبة به؟ تجيب «وصلتني مراراً عبر الصليب الأحمر الدولي فيديوات مدتها خمسون دقيقة يقول فيها: كيفكم أنا منيح. هو محكوم مدة عشرين عاما في سجن باكو. أخبروني أنه خسر الكثير من وزنه. كان 95 كيلوغراماً فأصبح 45 كيلوغراماً. هو اللبناني الأرمني الوحيد في سجون أذربيجان».

الدولة الأرمنية تعتبره لبنانياً. فماذا تعتبره الدولة اللبنانية؟ هل سألت عنه؟ زوجة فيكان تحركت في اتجاهات عديدة وتقول «السفير غدي خوري يشتغل على موضوع فيكان» وتستطرد «أستغرب أن من بين 128 نائباً في البرلمان اللبناني، أكثرهم على علاقة جيدة مع تركيا وإيران وروسيا، لا أحد طلب من هؤلاء إطلاق سراح فيكان. هو بريء. وكل ما اقترفه أنه طُلب على الجيش الأرميني كإحتياطي».



في قره باخ



ماذا يقول مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية السفير غدي خوري عن فيكان ومصير فيكان؟ يجيب «هو شاب أرمني، بعد أن جرى تسريحه من الجيش، سافر الى ارمينيا وحين بدأت الحرب في قره باخ قبض عليه من قبل عناصر من أذربيجان ووجدوا صوراً له بالبزة العسكرية التطوعية الأرمنية فقالوا عنه مرتزقة، وهذا غير صحيح لأنه يحمل الجنسية الأرمنية. ونحن، في وزارة الخارجية، ليس لدينا أي إثبات يقول إنه محارب. وهو لم يكن يحارب على الجبهة حين أوقفوه» ويستطرد السفير بالقول «حاولنا أن نتصل بالسلطات المعنية وطلبنا من سفيرنا في طهران حسن عباس- وهو معتمد في أذربيجان- لمتابعة الموضوع. وتكلمنا أيضاً مع سفارتنا في تركيا. وهذا ما فعلته أيضا الوزيرة السابقة زينة عكر. لكن، الأذريين لا يجيبون. إنهم يريدون أن يستخدموا ملفه على الأرجح في أي تبادل مقبل أو وساطات».

نفهم من كلام السفير خوري أن فيكان قد يبقى، حيث هو، الى حين... ونفهم أن وزارة الخارجية لم تنسه لكن «العين بصيرة واليد قصيرة». ماذا عن الأحزاب الأرمنية في لبنان؟ ماذا عن النواب في لبنان وخصوصا منهم الأرمن؟ تقول زوجة فيكان ليندا «هناك نواب يعملون «من تحت لتحت»، بهدوء، من أجل مصلحة فيكان، وهناك نواب ذهبت إليهم، قصدتهم، ووعدوني واقفلوا الخط».

نكتفي بذلك. ثمة مواطن لبنان، في ذكرى مرور عامين على حرب قره باخ، في سجون الأذريين. فهل سيبقى؟ هل سيخرج حياً؟ مارال خرجت حيّة بعد أشهر على الإعتقال لكن بندوبٍ نفسية كثيرة. وهي تتمنى أن يتكلم الجميع عن فيكان الآن كي لا يُصبح في خبر كان. وهي تتذكر قبل أن نقفل الخط الهاتفي معها، حيث هي في يريفان، الأشهر الأخيرة التي أمضتها في سجن باكو: «عشتُ الجحيم وعدتُ. أطلقوا سراحي وعدتُ الى لبنان مع الصليب الأحمر الدولي. وقبل أن أغادر سألوني كثيراً عن لبنان وعن مكان إقامتي وعدد أولادي وأسمائهم وأرقام هواتفهم والشارع الذي أقطن فيه. سألوا عن أشياء كثيرة تخص عائلتي. وتستطرد: في آخر مرة التقيتُ فيها فيكان، وكنا معصوبي الأعين، قال لي: لست خائفاً. فأنا لم أقترف شيئاً. كان لديه أمل».