مجيد مطر

الملفّ اللبناني الشائك: أيّ دور لفرنسا؟

25 تشرين الثاني 2022

02 : 00

بعد زيارة رئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» جبران باسيل إلى فرنسا لاكتشاف مسار الانتخابات الرئاسية، يجوز السؤال عن الدور الفرنسي في لبنان ومدى تأثيره محلياً: هل يملك الفرنسيون الأدوات اللازمة لتفعيل ذلك الدور؟ أم هو مجرّد «نوستالجيا» إلى الماضي الذي تخطّته الأحداث الجيوسياسية في المنطقة؟

لا خلاف حول أن فرنسا تملك القدرة على المبادرة في لبنان، على غرار ما حدث بعد انفجار مرفأ بيروت حين حضر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون شخصياً إلى بيروت، للمجاهرة بأنّ «الأم الحنون» تقف إلى جانب «الابن الضال»، وأنّ عقوقه لا يلغي حرص الأم على هذا البلد العجيب.

فانبرى حينها الرئيس الفرنسي إلى تقديم مبادرة سياسية أعادت الروح إلى السلطة المشكو منها شعبياً، فسلّمها مجدداً زمام الأمور، لدرجة أنّ المسؤولين في لبنان أطاحوا بمبادرته، وتلاعبوا بها، فآلت للفشل. خُذِلَ الفرنسيون بعدما جوبهوا برفض «التيار الوطنيّ الحرّ» مدعوماً من «حزب الله»، ودفعوا الرئيس سعد الحريري إلى العزوف عن التأليف الحكومي.

هكذا لفظت مبادرة ماكرون أنفاسها الأخيرة، لتكشف عن واقع أليم، لا يريد الفرنسيون الاعتراف به: تراجع تأثيرهم في لبنان لصالح لاعبين آخرين! وقد تبيّن لاحقاً أنّ الرئيس الفرنسي قد بالغ بتقدير نفسه وتقدير موقع بلاده، التي تبحث عن مؤثّرين معروفين، لتتواصل معهم، علّها تحفظ ماء وجهها أمام الفرنسيين والعالم.

فبعد عزوف الحريري كُلِفَ ميقاتي، وسُهّل له تشكيل حكومته، وذلك بعد تفاهم رئاسي إيراني- فرنسي، ليظهر بوضوح أنّ ايران في لبنان دولة عظمى، وأنّ فرنسا مجرد لاعب بحاجة لآخرين على الساحة اللبنانية.

حتى الرئيس السابق ميشال عون، الذي لجأ إلى سفارتها، فأنقذته من مصير محتوم، بعد هزيمته المدوّية في 13 تشرين من العام 1990، وإعلان استسلامه عبر بثّ إذاعي، بدا بإسقاطه المبادرة الفرنسية كمن يقدّم الدور الإيراني، ويعطيه الأولوية على حساب الدور الفرنسي، لإدراكه أنّه لا يستطيع أن يحكم بلا رضى «حزب الله»، وأن طموح صهره الرئاسي لا يتحقّق خارج المنظومة الإيرانية في لبنان.

فبدا العونيون، ومنهم من يحمل الجنسية الفرنسية، أنهم ناكرو الجميل، وأنّ مصالحهم وجشعهم لتحصيل قطعة من جبنة المحاصصة، تتغلّب على المبادئ والقيم. فساهموا بجعل التأثير الإيراني أساسياً، والدور الفرنسي ثانوياً. أمّا عن دورهم في تشتيت المصلحة الوطنية اللبنانية، فحدّث ولا حرج.

وما دلّ على تراجع الدور الفرنسي في لبنان أيضاً، عجز المسؤولين الفرنسيين أنفسهم عن تنفيذ تهديداتهم بفرض عقوبات على المعرقلين لتشكيل الحكومة آنذاك، وقبلوا بالتأثير الإيراني الذي يستند إلى هيمنة وتفوق الحليف اللبناني الذي لا يتصرف، إلّا بهدى ولاية الفقيه.

ففرنسا التي كان لها اليد الطولى في تأسيس الكيان اللبناني، والتي تعي أهميته الجغرافية على الساحل الشرقي للمتوسط، لمواجهة النفوذ البريطاني، خسرت نفوذها بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يبق لها إلّا التأثير العاطفي والثقافي إلى حدٍّ ما.

فقد حصّل بشارة الخوري ورياض الصلح الاستقلال من فرنسا بدعم خارجي، بريطاني بالتحديد، ثم جاء انتخاب كميل شمعون المرفوض فرنسياً، فعادوا وقبلوا به راضخين للأمر الواقع. كذلك جاء انتخاب فؤاد شهاب برضى مصري - أميركي، وقس على ذلك إلى يومنا هذا.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الدور الفرنسي بعد التمديد للرئيس إميل لحود، قد عاد قوياً لأسباب معروفة، أوّلها رفض إدارة الرئيس بوش تلك الخطوة، توتر العلاقة مع دمشق، علاقات الرئيس رفيق الحريري الدولية، إهتمام الرئيس جاك شيراك شخصياً بالملف اللبناني، صداقته القوية بالرئيس الشهيد. كل تلك العوامل شكّلت روافد جدية في عودة التأثير الفرنسي. ثم ما لبث أن عاد إلى الخفوت بعد وصول الرئيس باراك أوباما إلى الرئاسة الأميركية الذي رسم سياسة خارجية تتيح لإيران التفرّد بالهيمنة على لبنان والعراق، تُرجم ذلك بوصول ميشال عون إلى الرئاسة، فحدثت تحوّلات سياسية خطيرة، عزلت لبنان عن محيطه العربي، وفرّطت بعلاقاته الخارجية، وشوّهت صورته التاريخية لدى أصدقائه الدوليين.

صحيح أنّ شركة «توتال» قد حازت ترخيص التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، وصحيح أيضاً أنّ فرنسا قد أدّت دوراً في تقريب وجهات النظر بين مختلف الأفرقاء، إنّما هذا ما كان ليتم لولا ضرورات الحرب الروسية- الأوكرانية، فوصل ملف الترسيم إلى خواتيمه المرضية من دون أن ينعكس بالضرورة اتساعاً في دائرة التأثير الفرنسي في الملف الرئاسي، خصوصاً أنّ الأميركي موجود، كما الإيراني والسعودي.

فإذا وضعنا الولايات المتحدة جانباً كون مصالحها محفوظة، تحديداً من الإيراني، يبقى القول إنّ الدور الفرنسي يتأرجح بين عاملين، الأول سياسي تمثّله إيران من خلال حليفها المسلّح، والثاني اقتصادي تمثله السعودية القادرة منفردة إذا أرادت أن تخرج لبنان من أزمته الاقتصادية، إنّما لن تقوم بهذه الخطوة من دون وضوح الأفق السياسي الذي يشير إلى عودة لبنان إلى الحضن العربي.

ومن دون التقاء هذين العاملين، لا قدرة لفرنسا على إيجاد الحلول. وبين هذه الحدّين مطلوب من الفرنسيين خفض توقّعاتهم، فحلّ الملف اللبناني الشائك، يتجاوز قدرتهم المنفردة.