أرمينيا 1915: أخيراً أدلة موثّقة على الإبادة الجماعية!

10 : 19

نصب شهداء الابادة الأرمنية في يريفيان حيث يجتمع الأرمن كل 24 نيسان تخليداً لذكرى الشهداء
بمناسبة صدور كتاب Killing Orders، وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" كاتبه، في العام 2018، بعبارة "شرلوك هولمز الإبادة الأرمنية"! الكتاب عبارة عن "قصة تشويق" برأي المؤرخة آنيت بيكر، خبيرة الإبادات الجماعية التي كتبت مقدمته. الكاتب ليس أرمنياً بل تركياً. نعم، تانير أكشام رجل تركي، مع أنه اختار الابتعاد عن بلده. هو يعلّم منذ العام 2000 في جامعة "كلارك"، "ماساتشوستس". يجب أن نعترف بأن قراءة هذا الكتاب ليست سهلة. على القارئ أن يغوص في وابل من الأسماء والبرقيات ويتنقل بين مختلف المصادر.



في كتاب Killing Orders (أوامر بالقتل)، يوثّق المؤرخ التركي تانير أكشام مسؤولية جمعية "تركيا الفتاة" عن مذابح الأرمن في العام 1915.

لماذا تصرّ أنقرة على إنكار فكرة الإبادة الجماعية المُدبّرة عن سابق إصرار وترصد، فتُصوّر المذابح الأرمنية وكأنها مجرّد فوضى بسيطة نجمت عن حالة حرب حيث كان الأرمن أعداء الداخل؟ هذا الموقف مبرر لأن أعضاء "تركيا الفتاة"، مؤسسي الدولة التركية المستقبلية، كانوا في صلب السلطنة العثمانية وشكّلوا جزءاً من السلطة في العام 1915. لإسكات صوت التاريخ، نسجت تركيا لوحة من الادعاءات الواسعة ويحلّلها أكشام في كتابه واحدة تلو الأخرى. مع تقدم مسار القصة، يقتنع القارئ بقوة المحقق الذي يحرص على طرح الأدلة بوتيرة متلاحقة، كما يقتنع بأهمية هذا الكتاب المحوري الذي يغوص في مسببات الإبادة ويكشف الأوامر الصادرة عن وزير الداخلية العثماني في تلك الحقبة، طلعت باشا. حتى اليوم، كانت الحقائق المرتبطة بالإبادة الجماعية ترتكز بشكلٍ أساسي على شهادات الأرمن. لكن يعود رجل تركي الآن إلى الوثائق الأصلية لسرد القصة الحقيقية.



مهندسو الابادة جمال باشا وطلعت باشا وأنور باشا من جمعية "تركيا الفتاة"


لفهم التحديات المطروحة في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى إصرار أنقرة في جميع المناسبات على نفي اتهامات الإبادة الجماعية التي نُظّمت بدقة عالية، على اعتبار أنها مبنية على معلومات مغلوطة، منها عدد من البرقيات ومذكرات موظف عثماني في حلب اسمه نعيم أفندي. نشر الأرمني آرام أندونيان جزءاً من تلك المذكرات في العام 1920، علماً أنه المدير المستقبلي لمكتبة "نوبار"، القلب النابض للذاكرة الأرمنية في باريس. في تشرين الثاني 1918، خلال موعد في فندق "البارون" في حلب، اشترى أندونيان مذكرات أفندي، وكانت تشمل 24 وثيقة عثمانية أصلية، بما في ذلك برقيات صادرة عن وزارة الداخلية، وهي تصف بكل وضوح المناورات التي سمّاها رافائيل ليمكين "إبادة جماعية".

في العام 1983، نشرت "الجمعية التاريخية التركية" كتاباً يحمل توقيع سيناسي أوريل وثريا يوجا بعنوان Talat Pasha Telegrams (برقيات طلعت باشا)، وهو يشكك بأن يكون أفندي شخصاً حقيقياً. وبما أنه لم يكن موجوداً أصلاً وفق هذه النظرية، استنتج الكاتبان أنه لا يستطيع أن يكتب أي مذكرات. وبالتالي، كانت البرقيات المنسوبة إلى وزير الداخلية طلعت باشا مزيفة، وقد زوّرها أندونيان شخصياً. هذا الكتاب الذي أعدّه فريق من الباحثين تحت وصاية وزير الشؤون الخارجية التركي، كما يقول تانير أكشام، أحدث ضجة كبرى: "اليوم، يظن معظم الجمهور المعني بالموضوع أن مذكرات أفندي مزيفة، تماماً مثل الوثائق التي ترافقها". حتى أن الأتراك ذهبوا إلى حد اعتبار هذه "الكذبة" الأرمنية جريمة بحد ذاتها! يضيف أكشام: "بكل صراحة، هكذا كان موقفي حين بدأتُ العمل على هذا الكتاب". يُعتبر Killing Orders دحضاً قوياً للحجـج التي طرحــها أوريل ويوجا.

لإثبات صحة أي وثيقة منسوخة، لا بد من إيجاد النسخة الأصلية. إنها فكرة بديهية! في العام 2000، حين كان أكشام مستقراً في الولايات المتحدة، تواصل مع طبيب اسمه إدموند غيرغيريان، وهو نسيب الكاهن كريكور غيرغيريان (1911 – 1988). نجا ذلك الكاهن من المجازر ويُعتبر شخصية محورية في هذه القصة. بدأ أكشام أبحاثه لجمع الأرشيف المتعلق بواقعة الإبادة الجماعية، فقصد باريس في العام 1950 واتجه تحديداً إلى مكتبة "نوبار" التي كان يديرها أندونيان حتى تلك الفترة. ثم صوّر هناك مذكرات أفندي التي نشرها أندونيان. لكن خلال فترة السبعينات، حضر المؤرخان إيف تيرنون وفاهاكن دادريان إلى شارع "ألبوني" رقم 11، حيث تقع مكتبة "نوبار". في المرحلة اللاحقة، لم يبقَ أي أثر من مذكرات أفندي، وتوفي أندونيان منذ وقت طويل...

لكن تابع غيرغيريان سعيه إلى جمع الأرشيف. في العام 1952، تعرّف على مصطفى باشا. استلم هذا الرئيس السابق للمحكمة العسكرية في اسطنبول قضية أعضاء "تركيا الفتاة" المخلوعين بعدما اتهمتهم السلطات العثمانية بارتكاب مجازر متنوعة ضد الأرمن في العام 1919. أوضح مصطفى باشا لغيرغيريان أن بطريرك الأرمن في اسطنبول تلقى أمراً في هذه المناسبة بتقديم نسخ من الوثائق الواردة في ملفات القضية. وتزامناً مع ظهور أنصار أتاتورك في العام 1923، أرسل البطريرك هذه النسخ إلى مرسيليا ثم مانشستر، قبل أن يعود ويرسلها إلى بطريرك الأرمن في القدس. أدى غيرغيريان هناك دور المراسل وقصد القدس لتصوير كل ما يصادفه. من بين تلك الوثائق، برزت برقيتان أساسيتان. يعود تاريخ واحدة منهما إلى 24 تموز 1915 وتحمل توقيع قائد الجيش الثالث الذي كان يسيطر على أرض أرمينيا التاريخية. كُتِب فيها: "لقد علمنا أن المسلمين خبّأوا الأرمن في بعض المدن والبلدات التي رُحّل إليها الشعب الأرمني. يجب أن يُعدَم أصحاب تلك المنازل الذين خبأوا وحَمُوا الأرمن، بما يخالف قرارات الحكومة، وأن تُحرَق منازلهم... سيتم ترحيل الأرمن الذين اعتنقوا الإسلام أيضاً". أما البرقية الثانية فكانت من بهاء الدين شاكر، رئيس المنظمة الخاصة (أحد الفروع المسلحة في جمعية "تركيا الفتاة")، حيث يطرح على حاكم إحدى المقاطعات، في 4 تموز 1915، السؤال التالي: "هل تخلصتم من الأرمن بعد إبعادهم من هناك؟ وهل جرت تصفية الأشخاص العدائيين الذين أُبعِدوا في خضم موجة الترحيل أم أنهم هُجّروا بكل بساطة؟ أرجوك، يا أخي، أن تكون صريحاً وصادقاً في تقريرك". كانت برقية شاكر مشفّرة بنظام مؤلف من أربعة أرقام عربية. حتى العام 2016، كان أكشام يستطيع زيارة تركيا في كل صيف، وتمكن من الوصول إلى الأرشيف العثماني الذي أصبح متاحاً أمام الباحثين بعد العام 2010. يوضح لنا أكشام: "كان المسؤولون عن الأرشيف يعرفوننـــي طبعاً من كتبي السابقة". في العام 2006 كان كتابهA Shameful Act: The Armenian Genocide and the Question of Turkish Responsibility (فعل مشين: الإبادة الجماعية الأرمنية وموضوع المسؤولية التركية) كفيلاً بإثارة الجدل، لكنه حصد أيضاً الإشادة من الروائي أورهان باموق الفائز بجائزة نوبل في الأدب. لكن يقول أكشام إن أحداً هناك لم يعرف ما كان يبحث عنه. أراد أن يقارن مفتاح التشفير بوثائق أخرى حصل عليها من وزارة الداخلية عن الحقبة نفسها ووصلت إليه بعد فك شيفرتها. ارتبطت كلمة Ermeni ("أرمني") برقم 8519، وكلمة sevk ("إرسال") برقم 4889. كان المفتاح مطابقاً لما يملكه شاكر. يعترف أكشام بأنه شعر في تلك اللحظة براحة عارمة. لقد كانت تلك الوثائق أصلية!




لنعد إلى غيرغيريان. ذهب هذا الرجل ليعيش في الولايات المتحدة حيث توفي في العام 1988. وبعد وصول أكشام إلى جامعة "كلارك"، تعرّف على نسيبه إدموند غيرغيريان خلال مؤتمر في نيويورك، ثم وجّهه هذا الأخير إلى "الجمعية الأرمنية الأميركية" في واشنطن، حيث كانت سجلات عمّه محفوظة على شكل شرائط مصوّرة. لكن لم تكن مئات الشرائط الموجودة هناك مصنّفة ومنظّمة ولم يملك غيرغيريان الوسائل اللازمة للعمل في واشنطن. يقول أكشام: "في العام 2005، تواصلتُ مع إدموند غيرغيريان مجدداً، لكنه لم يسمح لي برؤية الوثائق الأصلية. لكن في العام 2015، بمناسبة الذكرى المئوية للإبادة الجماعية، سمح لي بالوصول إلى كامل الأرشيف مباشرةً. كنت أظن أنني لن أجد إلا سجلات محكمة اسطنبول العسكرية التي صوّرها غيرغيريان في القدس". لكن بين أكوام الملفات في قبو المبنى الواقع في شارع "كوينز"، عثر على مذكرات أفندي التي نسخها غيرغيريان في باريس.

لم تكن تلك المذكرات إذاً وثائق زوّرها أندونيان. لكن كان أكشام مضطراً لدحض فكرتَين أساسيتَين وشائعتَين في أنقرة: أفندي لم يكن موجوداً يوماً، والبرقيات الواردة في هذه المذكرات ليست أصلية. سرعان ما نجح أكشام الفضولي والصبور بطبيعته في استكشاف ثلاثة أدلة على وجود أفندي الذي كان مسؤولاً عن عمليات الترحيل في مخيم مسكنة، وكان مساعد نائب مدير مكتب الترحيل في حلب، نوري. خلال تحقيقٍ جرى في تشرين الثاني 1916 حول فساد مخيم مسكنة (قيل إن الموظفين العثمانيين تلقوا المال من الأرمن لمحاولة إنقاذ حياتهم)، خضع أفندي للاستجواب. في تقرير نبشه أكشام من الأرشيف العسكري التركي، كُتِب ما يلي: "نعيم أفندي، ابن حسين أفندي، البالغ من العمر 26 عاماً، أصله من سليفكا، هو مسؤول سابق عن عمليات الترحيل في مسكنة والمسؤول الحالي عن مستودعات القمح في البلدية". كان أفندي شخصاً حقيقياً إذاً، حتى أنه شارك شخصياً في عمليات الترحيل الشهيرة، بالقرب من حلب التي كانت تُعتبر منطقة محورية لتنفيذ تلك المناورات. عرّف عنه أندونيان في كتابه كشخصٍ متملق، فكان في الحقيقة رجلاً مفلساً ولعوباً وسكيراً، وهو من باعه تلك الوثائق طوعاً. من الواضح أن التاريخ لا ينتقي مخبريه بعناية!

بعد إثبات وجود أفندي، برزت الحاجة إلى دحض الفكرة القائلة إنه زوّر برقيات طلعت باشا، وزير الداخلية، لكسب المال من خلال بيعها للأرمن الذين كانوا يبحثون منذ العام 1918 عن أدلة موثّقة ومكتوبة على مخطط ارتكاب الإبادة الجماعية. أكد التركيان أوريل ويوجا في كتابهما الصادر في العام 1983 على صحة ذلك المخطط عن غير قصد، حين طرحا 12 حجّة عاد أكشام ودحضها واحدة تلو الأخرى. كانت الحجة الخامسة الأكثر جدّية بينها كلها: "تتألف البرقيات المشفّرة التي كان يملكها أفندي من مجموعات أرقام لا علاقة لها بوسائل التشفير المستعملة في تلك الحقبة". كان أفندي قد قدّم لأندونيان سبع برقيات مشفّرة، وحملت خمس منها رموزاً من رقمَين، واثنتان منها رموزاً من ثلاثة أرقام، وكان تاريخها يتراوح بين 29 أيلول 1915 وشهر آذار من العام 1917. بحسب ادعاءات أوريل ويوجا، لم يُستعمَل أي نظام تشفير يوماً لأكثر من ستة أشهر. وخلال فترة محددة، استخدمت الرسائل المشفّرة رمزاً يشمل التركيبات الرقمية نفسها. بين آب وكانون الأول 1915، لم تُستعمَل إلا تركيبات مؤلفة من خمسة أرقام. لهذا السبب، تُعتبر أي برقيات من تلك الحقبة مزيفة إذا كانت تحمل رموزاً من رقميَن أو ثلاثة أرقام. نتيجةً لذلك، يُفترض أن تتّضح عملية الخداع إذا رُصِد أي رمز مؤلف من رقمَين في نهاية كانون الأول 1915، وحتى في كانون الثاني 1917. لكن قرر أكشام الذهاب إلى تركيا لمراجعة آلاف البرقيات التي أرسلتها الحكومة العثمانية، منها برقيات من وزير الداخلية بين العامين 1914 و1918. فاستنتج في نهاية بحثه أن طرق التشفير برقمَين أو بأربعة أو خمسة أرقام امتدت على تلك الفترة كلها. بعبارة أخرى، لم يقتصر استعمالها على ستة أشهر. وخلال فترات محددة، استُعمِلت أكثر من طريقة تشفير واحدة. لنسف معلومات أفندي كمصدر موثوق به، طرح الأتراك حججاً لم يتأكد منها أحد قبل أكشام.



يسهل أن نندهش من تصميم شخصٍ تركي مثل أكشام على كشف زيف آلية فبركة الأكاذيب التي اعتمدتها الحكومة في أنقرة. لكن تجدر الإشارة إلى أن أكشام، المولود في العام 1953، كان في بداية حياته ناشطاً في معسكر اليسار المتطرف خلال فترة السبعينات. وقد حُكِم عليه في العام 1977 بالسجن لثماني سنوات، لكنه نجح في الهرب ولجأ إلى ألمانيا حيث تابع نضاله. في عمر الخامسة والثلاثين، أصبح هذا الناشط أستاذاً جامعياً، وعمل تحديداً في "معهد الأبحاث الاجتماعية" في "هامبورغ". يوضح أكشام: "في العام 1988، أطلقتُ برنامجاً حول تاريخ العنف في نهاية عصر السلطنة العثمانية. عثرتُ في ألمانيا على أوائل النصوص حول مذابح الأرمن المرتكبة ابتداءً من العام 1890. فقلتُ في نفسي: هذا غريب! لم أسمع أحداً يتكلم عن هذا الموضوع يوماً". ثم استفاد أكشام من فترة انفتاح في بلده الأم، فعاد إلى تركيا في العام 1993: "كان معهد هامبورغ يعمل حينها على محاكمات "نورمبرغ" من العام 1946. فاقترحتُ على المسؤولين هناك مراجعة محاكمات اسطنبول التي تستهدف منظّمي المذابح في العام 1919". في تلك الحقبة، كان أكشام منشغلاً بمشروع تأسيس معهد للأبحاث في جامعة خاصة في تركيا. لكنه يعترف بأنه فشل في تنفيذ هذا المشروع ووجد نفسه "معزولاً ومُهدّداً". في العام 2000، وصل إلى "ماساتشوستس" التي لجأ إليها قبله مرشده فاهان دادريان. وفي جامعة "كلارك"، أطلق برنامجاً خاصاً بالأرشيف وأهداه إلى غيرغيريان.



رداً على هذا العمل، طبّقت الحكومة في أنقرة سياسة الصمت المطبق. يوضح أكشام: "إنه موقف تقليدي من الجانب التركي: هم معتادون على عدم الرد". في 29 تشرين الأول 2019، اعترف مجلس النواب الأميركي أخيراً بالإبادة الجماعية الأرمنية، لكن أعاق مجلس الشيوخ هذه المبادرة. يستنتج أكشام: "نظراً إلى أهمية تركيا على المستويين العسكري والاقتصادي، لن تفرض أي قوة عظمى الضغوط اللازمة على سياسة نفي الحقائق التي تُطبّقها أنقرة. يقضي الحل الوحيد بالضغط قضائياً عن طريق نظام المحاكم الأميركية، حيث يستطيع الأرمن ملء ملفات ضد بنك تركيا المركزي وشركات أخرى". بانتظار اتخاذ إجراءات مماثلة، أعدّ أكشام كتاباً كبيراً ومؤثراً حول الحقيقة والتاريخ. لقد أهداه لـ"صديقه العزيز هرانت دينك الذي كان يحلم بجمع الأتراك والأرمن حول الحقيقة والعدالة". اغتيل دينك في العام 2007 على يد شاب تركي قومي.



البرقية التي أرسلها بهاء الدين شاكر، رئيس "تركيا الفتاة"، في 4 تموز 1951، من الوثائق التي تثبت تورط السلطات العثمانية.