أندرو ف. كريبينيفيتش جونيور

بوتين زعيم منطقي؟

29 تشرين الثاني 2022

02 : 00

زادت المخاوف من اندلاع حرب نووية حين أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عملية الغزو ضد أوكرانيا في 24 شباط الماضي. هو حذر من عواقب «غير مسبوقة في التاريخ» إذا تدخّلت أي جهة خارجية بما يفعله، في إشارة واضحة إلى استعمال الأسلحة النووية. ربما اقتنع أعضاء حلف الناتو بأن تورطهم المباشر في الصراع سيكون أخطر مما يظنون، نظراً إلى احتمال أن يخوضوا حرباً نووية مباشرة مع روسيا. لكن لم يتطور مسار الحرب بالشكل الذي توقّعه بوتين. على وقع التخبط الروسي المفاجئ منذ المراحل الأولى في ساحة المعركة مقابل تماسك المقاومة الأوكرانية، اقتنع عدد من أعضاء الناتو بإرسال معدات عسكرية وإمدادات لمساعدة المدافعين عن بلدهم.



عاد بوتين وألمح إلى الحرب النووية مجدداً في شهر نيسان. بعد انسحاب قواته العسكرية من ضواحي كييف وخاركيف، أعلن أن روسيا ستلجأ إلى الأسلحة النووية «عند الحاجة» لتحقيق أهدافها. ربما حاول بوتين بهذه الطريقة أن يمنع الناتو من زيادة دعمه لأوكرانيا بمستويات قادرة على هزم الغزو الروسي بشكلٍ حاسم. في هذه الحالة، نجح بوتين في تحقيق ما يريده، فقد ساد شكل من الجمود بين المتحاربين في المرحلة اللاحقة. خمدت تهديدات بوتين النووية خلال الصيف، فيما كان الطرفان يحاولان التفوق في ساحة المعركة. لكن عاد بوتين إلى تهديداته النووية في بداية الخريف، بعدما فشل في تغيير التوازن العسكري لمصلحته، فقال: «للدفاع عن روسيا وشعبنا، سنستعمل جميع أنظمة التسلح المتاحة أمامنا حتماً. هذه ليست خدعة».

يظن عدد كبير من القادة الغربيين أن كلام بوتين المتكرر عن الأسلحة النووية يثبت أنه غير جدّي في تهديداته. برأي هذا المعسكر، تهدف مواقفه الصارمة إلى نشر الشكوك والمخاوف في عقول خصومه، لكنه لن يُقدِم يوماً على تفجير قنبلة نووية. بعبارة أخرى، يُصِرّ هؤلاء على اعتبار بوتين مسؤولاً منطقياً، ما يعني أنه لن يجازف بإحداث كارثة محتملة عبر إطلاق حرب نووية. لكن لا يستطيع الغرب أن يتحمّل كلفة هذه الفرضية. قد يلجأ الرئيس الروسي إلى الأسلحة النووية فعلاً، انطلاقاً من رغبته في استرجاع العظمة الروسية المفقودة واقتناعه القوي بأحقية مطالبه في أوكرانيا، واستناداً إلى نجاحاته السابقة في شبه جزيرة القرم ودونباس في العام 2014، ونظراً إلى يأسه المتزايد بسبب إخفاقات الجيش الروسي وتوسّع العدائية الدولية تجاهه. قد يكون احتمال أن يتجاوز بوتين العتبة النووية منخفضاً، لكن يُفترض ألا يجازف الناتو بإطلاق هذا المسار الخطير. على القادة الغربيين إذاً أن يُحددوا أفضل الطرق لمنع تحويل هذا الشكل من التصعيد إلى كارثة شاملة.

قد يصل بوتين إلى مرحلة يقتنع فيها بأنه خسر كل شيء. قد تتخذ الحرب مساراً معاكساً له خلال الأشهر المقبلة، وتتكيّف أوروبا مع الشتاء البارد من دون الرضوخ لضغوط بوتين. كذلك، قد تتصاعد الاضطرابات الداخلية بسبب الضائقة الاقتصادية المتفاقمة في روسيا، ثم تتجدد العمليات الهجومية الأوكرانية في الربيع وتخسر روسيا سيطرتها في شرق أوكرانيا، أو ربما تتحرر شبه جزيرة القرم تدريجاً وتزيد عمليات الفرار من الجيش الروسي في المرحلة اللاحقة. في هذه الظروف، قد يصبح بوتين مستعداً لأخذ مجازفات استثنائية، منها استعمال الأسلحة النووية، لتجنب أي هزيمة مهينة.

أمام هذه الاعتبارات كلها، لا يستطيع الغرب أن يستخف باحتمال لجوء بوتين إلى الأسلحة النووية لإجبار أوكرانيا والناتو على عقد السلام بشروط تصبّ في مصلحته. تتعدد السيناريوات التي تدفعه إلى تجاوز العتبة النووية في ظروف معينة. قد يتخذ بوتين قراراً غير متوقع في تعامله مع خصومه، فيفجّر سلاحاً نووياً فردياً لإثبات استعداد روسيا لتصعيد الوضع واستخدام الأسلحة النووية إذا لم تتحقق مطالبها. قد يتخذ هذا النوع من الخطوات أشكالاً متنوعة، منها انفجار هوائي لا يُسبب أضراراً كبرى، أو هجوم على السفن الأوكرانية في البحر الأسود.



قاذفة صواريخ باليستية روسية عابرة للقارات خلال العرض العسكري ليوم النصر في الميدان الأحمر | موسكو، أيار 2019



قد يستهدف الكرملين واحداً من المفاعلات النووية الأوكرانية بضربة تقليدية، فيطلق نسخة معاصرة من كارثة «تشيرنوبل» حيث تتناثر المواد المُشعّة في الغلاف الجوي ومحيطه. كذلك، قد تفتعل موسكو آثاراً نووية من دون استعمال الأسلحة النووية. لكن ستكون الرسالة التي يوجّهها البلد واضحة وقوية بالقدر نفسه: يجب أن يتراجع أعداء روسيا ويجدوا مخرجاً للحرب قبل تفاقم الوضع.

لن ينجح بوتين في مساعيه إلا إذا أقنعت واحدة من هذه المناورات الحكومات الغربية المذعورة بالضغط على أوكرانيا لإقرار نسخة معاصرة من «معاهدة ميونخ» (إنه الاتفاق الذي حاول استرضاء ألمانيا النازية في العام 1938 عبر منحها مساحة من تشيكوسلوفاكيا)، ما يعني التنازل عن الأراضي قبل أن يُصعّد الكرملين المواجهة. في نهاية المطاف، قد ينجح بوتين في الاحتفاظ بالأراضي التي ضمّها في شرق أوكرانيا وجنوبها. هذا الإنجاز الروسي قد يزعزع أسس الردع النووي وينسف المفاهيم التي تُحرّم استعمال الأسلحة النووية. سيثبت بوتين بهذه الطريقة أن الاعتداءات النووية تستطيع تحقيق الأهداف السياسية، فتتراجع حينها العتبة النووية وتزيد سهولة استعمال هذه الأسلحة مستقبلاً.

على غرار بوتين، قد يفكر الرئيس الصيني شي جين بينغ بإثبات قوته النووية لإخضاع تايوان والمدافعين المحتملين عنها.

لكن إذا لم يكن استعراض القوة بهذا الشكل (عبر إطلاق عملية نووية تحذيرية أو تدمير محطة نووية) كافياً لإخافة أوكرانيا والغرب، قد يُصعّد بوتين خطواته ويستعمل الأسلحة النووية في ساحة المعركة. تحتفظ روسيا بآلاف الأسلحة النووية التكتيكية، لكن يبقى نطاق تأثيرها أو قوتها التدميرية أصغر حجماً بكثير من الأسلحة النووية الاستراتيجية الموجودة في أنظمة التوصيل بعيدة المدى، كتلك القادرة على بلوغ الولايات المتحدة. لنتخيّل مثلاً استعمال سلاح نووي بقوة 5 كيلو طن، فتساوي قدرته حوالى 40% من أثر القنبلة التي سقطت فوق هيروشيما. يقتصر النطاق التدميري لهذا السلاح على ميل واحد تقريباً، ويتراجع نطاقه بدرجة إضافية إذا كان يستهدف جنوداً يختبئون داخل دباباتهم مثلاً. نتيجةً لذلك، قد تبرز الحاجة إلى استعمال عشرات الأسلحة من هذا النوع لاختراق جزء كبير من الدفاعات الأوكرانية. ستضطر القوات الروسية طبعاً للتقدم انطلاقاً من هذا الاختراق الإشعاعي، وتتطلب هذه العملية مستوىً من الشجاعة والكفاءة القتالية التي يفتقر إليها الجيش الروسي حتى الآن في هذه الحرب.

لكن حتى لو سبّبت هذه الضربات خسائر بشرية كبرى ودمّرت المعدات الأوكرانية، لا شيء يثبت أن التوازن العسكري سيتغير ويصبّ في مصلحة بوتين بشكلٍ حاسم. قد تردّ الولايات المتحدة عبر المشاركة في عمليات فوق الأراضي الأوكرانية حصراً. لقد أثبت الجيش الأميركي مراراً أن القوة الجوية التقليدية تستطيع كبح مسار القوات البرية. هذا ما حصل مثلاً في هجوم عيد الفصح مع الجيش الفيتنامي الشمالي في العام 1972، وخلال الحملة الجوية في العراق والكويت في العام 1991، وفي المجال الجوي فوق أفغانستان في العام 2001.





أخيراً، قد يقرر بوتين استعمال الأسلحة النووية بأسوأ الطرق المتوقعة، فيحوّلها إلى أداة ترهيب ويستخدمها مثلاً لشن ضربة ضد المدن. تتجاوز قوة بعض الأسلحة النووية الروسية التكتيكية عتبة المئة كيلو طن، أي ما يساوي حوالى عشرة أضعاف قنبلة هيروشيما. إذا استُعمِلت هذه الأسلحة ضد كييف، قد تتجاوز الخسائر البشرية عتبة المئة ألف. ربما يتمنى بوتين أن تصدم هذه العملية أعداءه وتدفعهم إلى عقد السلام، لكن قد يصل هذا النهج أيضاً إلى نهاية كارثية. في خضم المساعي الرامية إلى استرجاع العظمة الروسية، قد يجازف بوتين بتدمير بلده.

كانت حقبة الهيمنة الأميركية التي بدأت بعد الحرب الباردة كفيلة بتهدئة العالم وإخماد سيناريوات استخدام الأسلحة النووية. لكن أدت عودة سياسات القوى العظمى والدول الانتقامية الكبرى مثل روسيا إلى نسف هذه الأوهام، وسيكون الغرب ساذجاً إذا استبعد احتمال أن يطلق بوتين ضربات نووية. انطلاقاً من التجارب التاريخية والتحليلات المتزايدة لطريقة تفكير البشر، يجب ألا يفترض القادة أن نظام الردع سيحافظ على قوته وأن حظر الأسلحة النووية يمنع استعمالها. يتّضح هذا الواقع تحديداً عند التعامل مع زعيم مثل بوتين، فهو مقتنع بأن قضيته محقة، ويحارب من أجل كرامة بلده المزعومة، وبدأ يأسه يزداد مع مرور الأيام.

لكن حتى لو أطلقت روسيا هجوماً نووياً محدوداً، يجب أن يفهم الجميع أن الغرب يملك خيارات منطقية لمتابعة دعم أوكرانيا، ومساعدتها على الدفاع عن نفسها، وإثبات فشل الخيار النووي الروسي بدل نجاحه. في ظروف مماثلة، يمكن إعادة شبح الأسلحة النووية إلى سباته.

يجب أن يحاول القادة الغربيون إقناع بوتين، الذي يفكر باللجوء إلى الأسلحة النووية، بأن أحداً لا يستطيع الفوز في هذا الصراع. يُفترض أن يدرك الرئيس الروسي أن أي استعمال للأسلحة النووية سيوصل روسيا والغرب إلى منحدر خطير ويطلق مساراً لا أحد يريده.