بيرس بروسنان...بين أملٍ وألم

02 : 00

مع زوجته كيلي شاي
بدأ الممثل بيرس بروسنان، المعروف بتقديم الشخصية الأسطورية «جيمس بوند»، حياته في ظروف صعبة ومؤلمة.




بداية مأسوية

وُلِد هذا الممثل الموهوب في أيرلندا، في 16 أيار 1953. بعد ولادته بفترة قصيرة، تخلى عنه والده. وحين أصبح في عمر الرابعة، لم تتحمّل والدته الضغوط المفروضة عليها نظراً إلى اضطرارها لتربية ابنها وحدها، فقصدت لندن بحثاً عن عمل. لكن بدل أن تأخذ ابنها الصغير معها، تركته في رعاية جدَّيه. لكنهما توفّيا للأسف وبقي الطفل وحيداً في مدرسة داخلية. الأسوأ من ذلك هو أن هذا الحدث كان مجرّد بداية لسلسلة لامتناهية من المآسي في حياته.

مرّت سبع سنوات قبل أن يجتمع بروسنان مع والدته مجدداً. في عمر الحادية عشرة، جلبته أمّه إلى اسكتلندا، فاختفى كل ما كان معتاداً عليه حين دخل إلى مدرسة جديدة وأقام في منزل جديد. حتى أنه تعرّف على زوج والدته الجديد، ويليام كارمايكل.

كان كارمايكل أول شخص يصطحبه لمشاهدة فيلم Goldfinger (إصبع الذهب) من سلسلة "جيمس بوند"، فانبهر بهذا العمل سريعاً. لكن كان بروسنان الصغير في تلك الفترة أقل تركيزاً على "جيمس بوند" وأكثر انشغالاً بعيش مرحلة المراهقة.

لم يجد بروسنان صعوبة في إقامة الصداقات في المدرسة فحسب، بل إنه تعرّض أيضاً للتنمر والمضايقات من الفتيان الآخرين بسبب طوله الفارع أو خلفيته الأيرلندية. كانت معاناته كبيرة بغض النظر عن الأسباب.

بقي بروسنان بائساً لفترة طويلة، لكنه كان يعلم أنه مضطر لتجاوز وضعه الصعب بأي طريقة. سرعان ما اكتشف هواية غيّرت مسار حياته إلى الأبد، فأصبح مُلتهِم نيران لفترة، حتى أنه قدّم عروضاً أمام المارة أو في السيرك. هذه العروض أوصلته إلى مركز الدراما في لندن.

في العام 1975، تخرّج بيرس وبدأ العمل كمساعِد لمدير أحد المسارح، وقرر في الوقت نفسه أن يقدّم تجربة أداء للمشاركة في مسرحية The Red Devil Battery Sign (لافتة بطارية الشيطان الأحمر) للكاتب تينيسي ويليامز. من حسن حظه، انسحب البطل الرئيسي وأخذ بروسنان دوره. لكن أراد ويليامز أن يشاهده وهو يمثّل أولاً.



بروسنان في فيلم The Lawnmower Man | ١٩٩٢



حب من النظرة الأولى

كان بروسنان يتابع التمثيل على المسرح حين أدرك أن الحب من النظرة الأولى ممكن. عندما قابل الممثلة الأسترالية كاساندرا هاريس، غرق في حبها فوراً. لكنها لم تبادله المشاعر للأسف... في البداية على الأقل!

بعد فترة قصيرة، بدأت هاريس تحمل المشاعر نفسها لبروسنان، لكنها كانت متزوجة وأمّاً لطفلَين. قررت هي وبروسنان احترام زواجها. لا يعني ذلك أنه تخلى عنها، بل كان مستعداً لانتظارها. بعد طلاقها في العام 1978، اجتمع الحبيبان أخيراً وبدآ يتواعدان ويخططان لمستقبلٍ يشمل العائلة كلها. تزوّجا رسمياً في كانون الأول 1980.

حصل بروسنان في تلك المرحلة على كل ما حُرِم منه في طفولته، لكنه كان لا يزال يحلم بالوصول إلى هوليوود. من حسن حظه، كانت زوجته امرأة مُحبّة وداعمة له ولطالما آمنت بأنه يستطيع تحقيق حلمه. سرعان ما وضع الثنائي خطة دقيقة لبلوغ هذا الهدف.

نحو تحقيق الحلم في هوليوود

وصلت عائلة بروسنان إلى الولايات المتحدة واستقبله هذا البلد بأفضل الطرق. تحقق حلم الممثل أخيراً حين عُرِض عليه دور البطولة في مسلسل The Manions of Ireland (عائلة مانيون الأيرلندية). بدا هذا الدور مكتوباً له بشكلٍ خاص.

هكذا استقر بروسنان في الولايات المتحدة وبدأ يلفت الأنظار. حقّق مسلسله النجاح وأصبح اسمه على كل لسان. سرعان ما كسب قاعدة واسعة من المعجبين وعُرِض عليه دور في المسلسل الشهيرRemington Steele.

حقّق بروسنان نجاحاً باهراً في عالم الترفيه، فلعب دور البطولة في عدد من الأفلام والمسلسلات الناجحة وأعطت جهوده الشاقة ثمارها. ثم زادت شعبيته حين انتشرت شائعات حول تقديمه شخصية "جيمس بوند" في الجزء الجديد من السلسلة.

لكنّ عقده مع صانعي مسلسل Remington Steele كان يمنعه من تقديم أدوار أخرى قبل انتهاء العمل. كان الدور الذي يحلم به على بُعد خطوة منه، لكنه عجز عن اقتناص الفرصة في تلك الفترة. مع ذلك، لم يسمح لشيء بإحباط معنوياته.



بيرس بروسنان والمحامي جويل رينولدز يتسلّمان جائزةRose-Walters بالنيابة عن مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية



مأساة في الأفق

كان بروسنان يعيش حلمه بمعنى الكلمة، فاستمتع بمسيرته المهنية الناجحة وعائلته الكبيرة، لكن تغيّر كل شيء في العام 1987. كان دائم الانشغال حينها، لذا قرر أن يحوّل رحلة عمل في الهند إلى عطلة عائلية. لكن سرعان ما طرقت المأساة بابه بدءاً من تلك الرحلة.

كان يُفترض أن تمضي العائلة وقتاً ممتعاً هناك، لكن عجزت هاريس عن الاستمتاع بوقتها. كانت تشعر بتعب دائم وبألم حاد في المعدة. استمرت هذه الأعراض حتى عودتها إلى المنزل. وعندما زارت هاريس الطبيب، تلقّت تشخيصاً كان كفيلاً بتغيير حياة العائلة بطريقة جذرية. تبيّن أنها مصابة بسرطان المبيض.

قدّم بروسنان أدوار بطولة في أفلام ناجحة مثل The Lawnmower Man (رجل جز العشب) و Live Wire (سلك حي) بفضل نصائح زوجته. هو أراد أن يوقف التمثيل للاعتناء بها لكنها رفضت. لطالما كانت أكبر معجبة به، وهو أحبّ هذا الجانب منها وقال عنها في إحدى المناسبات: "هي ستبقى راسخة في كل جزء من كياني إلى الأبد. هي معي كل يوم. كنتُ محظوظاً جداً لأني قابلتُ امرأة مثلها".

حين اضطر بروسنان للتخلي عن دور "جيمس بوند" سابقاً، كان يظن أن هذه الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في الحياة. لكنها تكررت مرتَين لحسن الحظ. في العام 1994، تلقى العرض الذي كان يحلم به ووقّع مع شركة الإنتاج على عقد للتمثيل في ثلاثة أجزاء من السلسلة الشهيرة.

فرصة ثانية في الحب

بعد وفاة زوجته، ظن بروسنان أنه لن يحب مجدداً، فصبّ كامل تركيزه وطاقته على عائلته ومهنته. لكن تتغير الظروف أحياناً وتقع أحداث غير متوقعة. هذا ما حصل معه في العام 1994، حين وجد دوراً سيغيّر مساره المهني وحياته العاطفية في آن.

كانت كيلي شاي سميث صحفية أميركية يسمّيها بروسنان "نجمة الشمال". بدأ الثنائي يتواعد فوراً، وساعدته سميث على إيجاد الهدوء الذي كان يبحث عنه بعد وفاة هاريس. أعطته سميث السلام والحب وولدَين آخرين. لكن كانت هذه الأحداث مجرّد بداية بسيطة لقصة حبهما الخيالية.

بعد سلسلة من المطبّات وخسارة مواصفات "جيمس بوند" مع مرور الوقت، قرر بروسنان أن يغيّر مساره المهني بطريقة جذرية. فانتقل من أفلام الحركة والأسلحة إلى عالم الغناء والاستعراض حين وافق على المشاركة في الفيلم الموسيقي Mamma Mia! كانت هذه التجربة مختلفة بالنسبة إليه، لكنه قَبِل هذا الدور لسبب آخر على الأرجح.

شارك في هذا الفيلم عدد كبير من النجوم، لكن أراد بروسنان أن يعمل إلى جانب الممثلة اللامعة ميريل ستريب على وجه التحديد. هو اعترف بأنه وافق على هذا الدور حالما سمع اسمها، من دون أن يُركّز على السيناريو أو شخصيته. هو يتذكر ستريب باعتبارها "الشقراء المدهشة" التي كان مولعاً بها في مدرسة الدراما. لكن للمشاركة في أي أعمال موسيقية، يجب أن يبرع الممثل في الغناء، وهي موهبة شعر المعجبون بأن بروسنان يفتقر إليها.

رجل حالم ومعطاء

بروسنان ممثل مشهور حول العالم، وهو يدرك أن شهرته تترافق مع مسؤوليات كبرى، ولطالما تحمّل هذه المسؤوليات على أكمل وجه. على مر السنين، استعمل تأثيره القوي وموارده لدعم القضايا الأقرب إلى قلبه.

لم يكن مفاجئاً أن يختار دعم حملات التوعية الخاصة بالسرطان بعد خسارة أول حب في حياته بسبب هذا المرض. لكنه كان يحب أيضاً مساعدة الآخرين وحماية البيئة، ويخصص الأرباح التي يجنيها من لوحاته للجمعيات الخيرية المعنية بصحة النساء والبيئة والأولاد. حتى أنه أصبح سفير أيرلندا في اليونيسف طوال عشرين سنة. هو رجل شغوف وقد تزوج من امرأة تتمتع بالقدر نفسه من الشغف.

حين توفيت زوجته الأولى هاريس، تركت فراغاً لم يستطع أحد تجاوزه في عائلتها. لم يخسرها المحيطون بها فحسب، بل شاهدوا معاناتها أيضاً. سرعان ما انفطر قلب بروسنان حين اضطر لعيش التجربة نفسها مجدداً مع ابنته شارلوت. أُصيبت هذه الأخيرة بمرض والدتها وتوفيت عن عمر 41 سنة.

كانت مسيرة بروسنان التمثيلية مليئة بالنجاحات والجوائز، فهو ترشّح مرتَين لجائزة "غولدن غلوب"، وحصل على نجمة باسمه في ممشى المشاهير في هوليوود. حتى أن موهبته منحته "رتبة الإمبراطورية البريطانية" الفخرية تكريماً لمساهماته في السينما البريطانية. لا يحبه الجمهور بسبب أدائه التمثيلي فحسب بل لوسامته أيضاً. اختارته مجلة "بيبول" "الرجل الأكثر جاذبية"، واعتُبِر واحداً من "أجمل 50 رجلاً في العالم".

اليوم، يبلغ بروسنان 69 عاماً ولا شيء يمنعه من المضي قدماً بعد. هو يُخطط لمتابعة الرسم والتمثيل إلى أن يعجز جسدياً عن القيام بهذه النشاطات، ويحلم طوال الوقت بعالمٍ أفضل. يعتبره أولاده رجلاً حالماً، لكنه مسرور بهذا اللقب!