علي واين

روسيا والصين...منافِستان قويتان لكن يمكن هزمهما

30 تشرين الثاني 2022

02 : 00

بوتين وشي جين بينغ في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند (أوزبكستان) | 16 أيلول 2022
بعد مرور ثلاثين سنة على نهاية الحرب الباردة وخمسين سنة على بدء الانفتاح الأميركي على الصين، تتابع أبرز منافِستَين للولايات المتحدة إحراز التقدم وتتحكمان بقرارات واشنطن الخارجية. خالفت روسيا توقعات عدد كبير من المراقبين حين أقدمت على غزو أوكرانيا، ولا شيء يثبت أنها تنوي التراجع بعد مرور تسعة أشهر على بدء حملتها الوحشية. في غضون ذلك، أطلقت الصين مجموعة من الصواريخ البالستية التقليدية قصيرة المدى (استهدف عدد منها تايوان للمرة الأولى) غداة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في شهر آب الماضي، ما أدى إلى نسف حوار الصين العسكري مع الولايات المتحدة. كذلك، أعلنت بكين أنها تنوي تنفيذ دوريات منتظمة في محيط تايوان، فزادت المخاوف من إقدامها على غزو تايبيه قريباً.





قد تجد الولايات المتحدة نفسها عالقة في حربَين متزامنتَين مع قوتَين مسلحتَين نووياً، لكن يتعامل المسؤولون الأميركيون مع مصدر قلق آخر: قد يصل ميزان القوى العالمي إلى نقطة تحوّل مقلقة. حذرت إدارة جو بايدن، في استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها الشهر الماضي، من صياغة «شروط المنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى» خلال العقد المقبل. تشعر الإدارة الأميركية بالقلق في المقام الأول من «القوى التي تضخّ شكلاً من الحُكم الاستبدادي في سياسة خارجية تحريفية»، وعلى رأسها روسيا والصين.

في هذه الظروف الجيوسياسية الشائكة، من غير المنطقي على الأرجح أن نتكلم عن احتمال أن تسترجع واشنطن توازنها على المدى الطويل. لاقتناص هذه الفرصة بأفضل طريقة، يجب أن يتوصل المعنيون إلى استنتاج غير متوقع: قد تكون موسكو وبكين من المنافسين الأقوياء، لكن يُضعِف كل بلد منهما نفسه بنفسه. بعد إطلاق العدوان ضد أوكرانيا، أضعفت روسيا فرصها الاقتصادية، واستنزفت مواردها العسكرية، وزادت قوة المشروع العابر للأطلسي. في غضون ذلك، بدأت الحكومة الصينية تُحكِم قبضتها على القطاع الخاص، وتقوي المعسكر الذي يتصدى لها في آسيا، وتزيد التنسيق الدبلوماسي في الغرب. أخطأت الولايات المتحدة حين أبدت ردة فعل أضعف من المطلوب تجاه روسيا والصين بعد الحرب الباردة، لكن يجب أن تتجنب الآن ارتكاب خطأ معاكس.

لا تزال الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم اليوم، لكنها تشهد تراجعاً نسبياً. انخفضت حصتها من الناتج المحلي الإجمالي، من 30% في العام 2000 إلى أقل من 25% في العام 2020. كذلك، تراجعت حصتها من صادرات السلع العالمية، من 12% إلى ما يزيد عن 8% بقليل خلال الفترة نفسها، وانخفضت حصتها من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية بعملة الدولار الأميركي إلى أدنى المستويات خلال ربع قرن في العام 2020. في غضون ذلك، يساوي حجم اقتصاد الصين حوالى ثلاثة أرباع الاقتصاد الأميركي، فقد بلغت صادراتها مستوىً قياسياً في السنة الماضية (3.36 تريليون دولار)، وتكشف الأدلة المتاحة أن الفرضية التي تنذر بفصل الصين عن الاقتصاد العالمي تبقى بعيدة عن الواقع. لهذه الأسباب، قد لا تتساهل البيئة الجيوسياسية الراهنة مع غياب الانضباط الذي شهدته واشنطن سابقاً.

لكن تبرز أسباب أخرى لتشجيع الولايات المتحدة على اختيار المنافسة الانتقائية بدل الصراع العالمي. لا تتعارض جميع قرارات روسيا أو الصين مع المصالح الوطنية الأميركية الأساسية، ولا يتخذها المسؤولون بالضرورة لمعاداة الولايات المتحدة. رغم الأفكار التي ينشرها المعلّقون الأميركيون حتى الآن، تكثر مظاهر الغطرسة والمبالغة في المواقف التي تعتبر روسيا قوة انتهازية خبيثة وواسعة الانتشار، أو تعتبر الصين قوة استراتيجية صبورة وثاقبة البصيرة. قد يبدو التوافق الصيني الروسي أمراً واقعاً، لكن يُفترض أن تأخذ السياسة الخارجية الأميركية بالاعتبار احتمال أن يزيد التوتر بين البلدَين في نهاية المطاف. كذلك، ستبقى الجهود الأميركية الرامية إلى السيطرة على تحديات عابرة للحدود، مثل التغير المناخي والأوبئة المستقبلية، محدودة إذا تجاهلت الولايات المتحدة روسيا والصين واكتفت بالتواصل مع بلدان تحمل العقلية نفسها.

أخيراً، قد تزداد المخاوف وسط حلفاء واشنطن وشركائها إذا ركّزت السياسة الخارجية الأميركية على منافسة روسيا والصين، إذ لن يكون الكثيرون ممتنين إذا أصبحوا مجرّد أدوات في حرب باردة جديدة: لطالما شدد الرئيس جو بايدن على هذه النتيجة المحتملة ويجب ألا تصبح حتمية في أي ظرف. يعكس أهم تعليق في استراتيجية الأمن القومي التي طرحتها إدارة بايدن هذا الاستنتاج بالذات: «لن نميل إلى رؤية العالم من منظور المنافسة الاستراتيجية حصراً، بل سنتابع التواصل مع الدول الأخرى بشروطها».

تجد جميع القوى صعوبة في الحفاظ على توازنها في أي منافسة، لكن تزداد صعوبة هذه المهمة بالنسبة إلى القوة العظمى المطلقة في العالم، لأن أبرز منافسي الولايات المتحدة يعارضون رؤية النظام الدولي التي اعتبرها جزء كبير من المسؤولين والمحللين الأميركيين المقاربة المنتصرة منذ ثلاثة عقود فقط. تعكس الشعبية التي حصدتها فكرة «المنافسة بين القوى العظمى» في أوساط صناعة السياسة الأميركية هذا النوع من المخاوف.

لكن يعكس شيوع هذا الإطار الذي يتجاوز الانقسامات الإيديولوجية شكلاً من الراحة البيروقراطية أيضاً. بدءاً من أواخر الثلاثينات وحتى أواخر الثمانينات، حدّدت الولايات المتحدة سياستها الخارجية في المقام الأول بناءً على ثلاثة منافسين خارجيين: اليابان الإمبريالية، وألمانيا النازية، والاتحاد السوفياتي. سرعان ما تبيّن أن نهاية الحرب الباردة كانت انتصاراً مكلفاً لواشنطن، فقد أثّر وجود التهديد السوفياتي على تحديد دورها في العالم طوال خمسين سنة تقريباً. وعلى مر ربع القرن اللاحق، وجدت الولايات المتحدة صعوبة في اختيار بنية راسخة، فاختبرت تجارب متنوعة مثل «التواصل والتوسّع»، و»الحرب العالمية على الإرهاب»، و»التحول إلى محور آسيا». قد توحي الظروف بأن موسكو الانتقامية وبكين المتوسّعة تسمحان لواشنطن بالعودة إلى قواعدها المألوفة، فتستعيد السياسة الخارجية الأميركية وضوحها ويتجدد تماسك الرأي العام الأميركي المنقسم.

لكن أصبحت هذه الآمال مشكوكاً بها. هُزِمت اليابان وألمانيا عسكرياً خلال الحرب العالمية الثانية. ونظراً إلى احتمال تصعيد الحرب التي تخوضها القوى العظمى مع روسيا أو الصين وبلوغها مستوىً نووياً في الوقت الراهن، من مصلحة الولايات المتحدة أن تتجنب هذا النوع من المواجهات خدمةً لأهدافها الوطنية الكبرى. قد تواجه موسكو وبكين تحديات اجتماعية واقتصادية كثيرة اليوم، لكن لا يبدي أيٌّ منهما استعداده للانهيار على طريقة الاتحاد السوفياتي. قد يبدو أبسط تعاون بين القوى العظمى مستبعداً في الوقت الراهن، لكن ستتابع التحديات العابرة للحدود ربط المجتمع والاقتصاد في الولايات المتحدة بروسيا والصين، مهما حاول الأميركيون ومنافسوهم فك الارتباط عن بعضهم البعض. أخيراً، قد ينتج القلق التنافسي تجدداً داخلياً، لكن يجب ألا تستعمله الولايات المتحدة كركيزة لها أو تفترض أن المنافسة بين القوى العظمى قادرة على تقليص الانقسامات السياسية محلياً.

بعبارة أخرى، يجب ألا تفكر الولايات المتحدة بالطريقة التي تسمح لها بتحقيق انتصار وهمي على منافسيها، بل من الأفضل أن تُحدد ما يسمح لها بالتعايش معهم ولو على مضض. لكن نظراً إلى غياب أي خطط جاهزة لتجاوز هذا الغموض، يجب أن تطوّر واشنطن خطة جديدة، حتى لو تابعت استعمال تاريخها كمرجع لها.

ستبقى إدارة الانقسامات بين القوى العظمى عنصراً أساسياً من السياسة الخارجية الأميركية، نظراً إلى المجازفات التي يطرحها تجنب المواجهات المسلّحة مع روسيا والصين. بالإضافة إلى اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف، يجب أن تتابع الولايات المتحدة التعاون مع حلفائها وشركائها لزيادة المرونة الديمقراطية في وجه اضطراب سلاسل الإمدادات والإكراه الاقتصادي، وتحديد معايير الجيل القادم من التكنولوجيا، ودعم النمو الاقتصادي في الجنوب العالمي، وبناء تحالفات جديدة لمعالجة التحديات العابرة للحدود، وعقد الشراكات مع روسيا والصين في المجالات الممكنة.

لكن حتى لو فضّلت الولايات المتحدة المنافسة الانتقائية، يجب ألا يعتبر البلد المنافسة بين القوى العظمى إطار عمل لسياسته الخارجية، لأن واشنطن ستجازف حينها بالانجرار إلى صراع عالمي مع روسيا والصين، ما يؤدي إلى إضعاف مكانتها الجيوسياسية. حتى أن هذا المسار قد يجبر البلدَين على التقرّب من بعضهما أكثر مما كانا ليفعلا في الظروف العادية، ما يعني الحد من قدرة الولايات المتحدة على إطلاق مبادرات دبلوماسية في مناطق مثل أميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء. من الأفضل إذاً أن تتخلى واشنطن نهائياً عن الجمود الذي عطّل سياستها الخارجية طوال ثمانية عقود وربطها بتحركات المنافسين الخارجيين. يجب أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية لتجديد تفوّقها الاستثنائي في أي منافسة، فتثبت مجدداً أنها تتمتع بقدرة دائمة على تقوية أسسها الاجتماعية والاقتصادية محلياً، وتفعيل التحركات الجماعية خارجياً لمعالجة مجموعة كاملة من التحديات العالمية.

في النهاية، تبقى موسكو وبكين من أقوى المنافسين، لكنّ إخفاقاتهما تمنح واشنطن فرصة مناسبة لتطبيق سياسة خارجية لا تنشغل بالرد على جميع مناوراتهما بقدر ما تُعبّر عن طموحاتها الخاصة.