سامي زغيب ووسيم مكتبي

ضرورة التحوّل من نظام قائم على المحسوبية إلى نظام قائم على الحقوق

منصّة صيرفة: ملاذٌ أخير للمساعدة الاجتماعية؟

3 كانون الأول 2022

02 : 00

سامي زغيب

إجتماع الانهيار المفاجئ للمداخيل والمدّخرات، وشلل الحركة الاقتصادية، والوَهَن الذي يعتري نظام الحماية الاجتماعية على نحوٍ مدمّر، دفع الشعبَ اللبناني إلى شفير أزمة إنسانية. فقد وصل معدّل الفقر المتعدّد الأبعاد في البلاد إلى 82%، ما أرغم الأسر على اعتماد نمطٍ من التكيّف السلبي لجأت من خلاله إلى التضحية بأمور أساسية مثل التغذية والصحة والتعليم. ويواجه لبنان حاليّاً خطراً داهماً يتمثّل في تدهورٍ اجتماعي كارثي سيمتدّ لأجيالٍ وأجيال.

يؤخرون إعتماد استراتيجية الحماية الاجتماعية

بموازاة هذا الخطر الداهم، تنكبّ النخب السياسية على تخريب وتعطيل أي إصلاحات، وآخرها موازنة 2022 ومشاريع قوانين السرية المصرفية والكابيتال كونترول. وبالرغم من تدهور الظروف المعيشية، أخّرت الحكومة اعتماد استراتيجية الحماية الاجتماعية بذريعة إعادة صياغتها، علماً أن تعامل الدولة مع مسألة الحماية الاجتماعية انصبّ منذ بداية الأزمة على البطاقة التمويلية التي لم يتمّ إطلاقها بعد، وشبكة الأمان الاجتماعي المموَّلة بقرض من البنك الدولي والتي شهد إقرارها مماطلةً على مدى عامين.

يفضلون توزيع منافع عبر قنوات المحسوبيات

لا تبالي النخب السياسية اللبنانية بإنشاء نظام قائم على الحقوق تقوده الدولة ويؤسّس لعقد اجتماعي سليم. فلعقود من الزمن، قوّضت الطبقة الحاكمة الدور الاجتماعي للدولة واختارت بدلاً من ذلك توزيع المنافع الاجتماعية عبر قنوات هدفها تعزيز امتدادها وشبكات المحسوبية التي ترعاها. وفي خضمّ هذه الأزمة، قامت هذه النخب فعلياً «بالتعاقد من الباطن» مع مصرف لبنان لتقديم المساعدة الاجتماعية من خلال دعم سعر الصرف بطريقةٍ ملتوية تؤدي إلى استنزاف احتياطاته من العملات الأجنبية لصالح كبار المستوردين وأصحاب الثروات النقدية.

إستنزاف متواصل لإحتياطات مصرف لبنانيمكن القول إنّ مصرف لبنان كان، منذ بداية الأزمة، المزوّد الرئيس لخدمات المساعدة الاجتماعية في البلاد، وهو دور لا يقع خارج نطاق اختصاصه المألوف فحسب، بل أدى أيضاً إلى استنزاف ثلثي الاحتياطيات الأجنبية للبلاد منذ آب 2019. بالتحديد، قام مصرف لبنان بتدخّلين يندرجان خارج اختصاصه.

دعمٌ إستفاد منه الميسور أكثر من الفقير

أولًا، قدّم البنك المركزي الدعم من خلال توفير ائتمانات من أجل استيراد القمح والوقود والأدوية وعدد من المواد الغذائية، بما فيها الدواجن والألبان، على سعر الصرف المدعوم، ما أدى إلى استنزاف 286 مليون دولار شهرياً من الاحتياطيات الأجنبية؛ واستمر ذلك حتى أيلول 2021 . وفي ظل الغموض الذي يلف حسابات مصرف لبنان، ثمة تباينات كبيرة في تقدير تكلفة هذا الدعم فيما تشير التقديرات إلى أنها تراوحت بين 6 مليارات و12 مليار دولار. فعليّاً، تراجعت قيمة الاحتياطيات من 31 مليار دولار في آب 2019 إلى أقل من النصف حين رُفع الدعم عن الاستيراد في أيلول 2021، وتحديداً إلى 14.6 مليار دولار. كما أنّ هيكل الدعم لم يكن مكلفاً فحسب، بل تنازلياً أيضاً، حيث استفادت منه الأسر الميسورة بمقدار أربع مرات أكثر من 50% من السكان الأكثر فقراً. ويعود ذلك إلى الطبيعة الشاملة للدعم، بحيث تملك الأسر الميسورة الإمكانات لاستهلاك الواردات الأكثر تكلفةً.



وسيم مكتبي



منصة تستغلّها شركات وبنوك وأفراد لتحقيق الأرباح

ثانياً، توفر منصّة «صيرفة» التي يديرها مصرف لبنان «برنامج» مساعدة اجتماعية يصل فعلياً إلى الموظفين المتفرّغين في القطاع العام بالإضافة إلى الجمهور الأعمّ القادر على الوصول إلى النظام المالي المعطّل في البلاد. وقد تحوّلت المنصة التي كانت الغاية منها مراقبة وتنظيم عمليات صرف العملة إلى فرصة استغلّتها بعض الأُسر والشركات للمتاجرة، أي لتحقيق «الأرباح» عن طريق شراء الدولارات بسعر منصة صيرفة وإعادة بيعها بسعر السوق.

منذ كانون الثاني 2022، وسّع مصرف لبنان نطاق عمل منصّة «صيرفة» بشكل كبير، حيث طلب إلى البنوك التجارية إجراء عمليات صرف العملة بدون سقوف شهرية. ومنذ مطلع 2022 حتى شهر آب، بلغ متوسط الفارق بين السعر المعتمد على منصّة «صيرفة» وسعر السوق 12%. شهد هذا الفارق تقلّبات ملحوظة، مرتفعاً من 2% في أواسط شباط وأوائل آذار إلى 26% بعد أسبوع واحد من الانتخابات النيابية التي جرت في أيار. أفسح هذا التفاوت الكبير مجالاً للمتاجرة، بمعنى أنّ الأشخاص القادرين على الوصول إلى المنصّة تمكنوا من جني الأرباح من خلال شراء الدولار عبر أرصدتهم المصرفية بالليرة اللبنانية على سعر «صيرفة» وإعادة بيعه وفق أسعار السوق الأعلى. وفي حين شكّلت هذه العمليات دعماً لمداخيل المواطنين التي تدهورت قيمتها، أفادت بشكل غير متناسب أولئك القادرين على الوصول إلى مبالغ نقدية كبيرة بالليرة اللبنانية وموظفي القطاع العام الذين يتقاضون رواتبهم كاملة وفق سعر «صيرفة»، وبالتالي تحوّلت المنصّة إلى أداة للدعم الانتقائي.

وصلت قيمة المتاجرة عبر منصّة «صيرفة»، بحسب تقديرات فريق مبادرة سياسات الغد، إلى 885 مليون دولار بين كانون الثاني وآب 2022 ، وذلك بناءً على أحجام التداول على المنصّة والفارق اليومي بين سعريّ الصرف. والمثير للاستغراب أنّ الخسارة التي تكبّدها البنك المركزي على منصة «صيرفة» خلال هذه الفترة تعادل نحو 3.5 أضعاف قيمة قرض البنك الدولي لتمويل برنامج شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ.

كلفة الحماية 500 مليون دولار سنوياً فقط

إنّ البديل عن هذا التدخل الذي قاده البنك المركزي واضح لا لبس فيه. فجزء صغير من المبالغ المستنزفة من الاحتياطيات الأجنبية منذ آب 2019 والمقدّرة بنحو 20 مليار دولار كان كفيلًا بتمويل أرضية الحماية الاجتماعية التي اقترحتها منظمة العمل الدولية واليونيسف، والمقدّرة تكلفتها بـ 500 مليون دولار سنوياً، ولكانت هذه الأموال أمّنت مساعدات اجتماعية تطال الشرائح الأضعف في كامل دورة الحياة، بمن فيهم الأطفال وذوو الاحتياجات الخاصة وكبار السنّ.

تُوفّر استراتيجية الحماية الاجتماعية التي تعهّدت حكومة تصريف الأعمال في أيار 2022 بتعديلها واعتمادها في غضون ستة أشهر أساساً متيناً لإصلاح النظام الحالي، وتحويله من نظام قائم على المحسوبية إلى نظام قائم على الحقوق. ومن بين الإصلاحات الأساسية التي تنص عليها الاستراتيجية تأمين معاش تقاعدي إلزامي، وهي خطوة كان المجلس النيابي السابق قد وضعها جانباً. ومن شأن إقرار مشروع قانون المعاش التقاعدي أن يضمن تأمين الدخل للمتقاعدين وأن يساعد في حماية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي- الذي يُعدّ شبكة الأمان الرئيسية في البلاد للعاملين في القطاع الخاص- من الانهيار الوشيك.

إن ما يعانيه الواقع الاجتماعي في لبنان حاليّاً لا يُعزى لمعوّقات تقنية أو قيود مالية بقدر ما هو نتيجة اختيار النخب السياسية المتعمَّد لسياسات هدفها الحفاظ على عقد اجتماعي معتلّ يحمي نظاماً مشوّهاً يضمن مصالحها.

(*) من فريق مبادرة سياسات الغد