إستراتيجية ترامب في الشرق الأوسط واضحة!

11 : 04

من الواضح أن التهمة القائلة إن إدارة ترامب لا تتبع استراتيجية محددة في الشرق الأوسط، بحسب ادعاءات الحزب الديموقراطي، خاطئة. فهي تطبّق استراتيجية تشمل روسيا وتركيا. لكن تتعلق المشكلة الفعلية أمام هذه الإدارة بميل مختلقي الأكاذيب الديموقراطيين إلى تضخيم موضوع روسيا، بالتعاون مع عدد من الجمهوريين الغافلين في الكونغرس. نتيجةً لذلك، وجد ترامب صعوبة في التعامل مع روسيا بطريقة عقلانية، ومن دون إثارة هستيريا في الأوساط الحزبية وإغراق شبكات الأخبار الديموقراطية بوجوه وأصوات مملة لرؤساء استخباريين عملوا في عهد أوباما وفقدوا مصداقيتهم الآن (من أمثال جيمس كلابر وجون برينان)، فلا نكف عن سماعهم وهم يردّدون أسطوانة التدخل الروسي في النتائج الأميركية.

يجب أن تجد الولايات المتحدة طريقة للدفاع عن مصالحها الوطنية المشروعة في الشرق الأوسط، من دون أن تتأهب باستمرار وتستعد للتدخل هناك طوال الوقت وتتكبد تكاليف باهظة، ومن دون سقوط أعداد كبيرة من الضحايا واستعمال الموارد العسكرية الأميركية بدرجة مفرطة في تلك المنطقة. كانت الخطوة الأولى تقضي بإلغاء الاتكال الأميركي على نفط الشرق الأوسط، وهو هدف سعى إليه جميع الرؤساء، بدءاً من أيزنهاور.

حظيت هذه الجهود بدعمٍ من الحزبَين بدرجة معينة: تراجعت واردات النفط الأميركية من 15 مليون برميل يومياً في عهد كلينتون إلى 10 ملايين في عهد جورج بوش الإبن، ثم 5 ملايين في عهد أوباما، وأصبحت الولايات المتحدة اليوم دولة مُصدِّرة للطاقة، للمرة الأولى منذ عهد الرئيس ترومان. أما الخطوة الثانية، فتقضي بجمع التوازنات المحلية المتعلقة بروابط القوة التي تُرسّخ استقراراً نسبياً.

يتطلب هذا الهدف دعوة تركيا وروسيا إلى فرض نفوذهما في المنطقة على أساس احترام حقوق الإنسان، تزامناً مع حرصهما على معارضة انتشار أي نشاطات إرهابية وعدم طرحهما أي خطر على إسرائيل. يتعارض هذا الطموح مع الهستيريا السائدة راهناً في معسكر الحزب الديموقراطي بشأن روسيا، علماً أنها توسعت بعد هزيمتهم الصادمة في انتخابات العام 2016 وإقدامهم على إقناع وسائل الإعلام الخاضعة لهم بأن روسيا تآمرت مع ترامب للفوز بولاية رئاسية مزيفة.

عادت تركيا إلى أحضان العالم العربي بعد طردها منه في الحرب العالمية الثانية غداة تعرّضها للرفض من جانب الاتحاد الأوروبي. نشأت القومية العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتأججت بعد الحرب العالمية الثانية، حين انسحبت القوى الاستعمارية وتحررت الدول "الاصطناعية" (كيانات سياسية نشأت بشكلٍ تعسفي كجزءٍ من الإرث الاستعماري). بسبب الضغوط التي فرضتها إيران وتركيا وتفكك العراق وسوريا (بفضل الولايات المتحدة عموماً، مع أن صانعي السياسة فيها لم يسعوا إلى تحقيق هذا الهدف)، عمدت القوى العربية الرائدة إلى التخلي عن عدائيتها تجاه إسرائيل، علماً أن هذا الموقف لطالما كان مجرّد أداة لإلهاء الجماهير العربية عن سوء أداء حكامهم.




توسّع الارتباك العام نتيجة تبدّل الطموحات والانتماءات، وانهيار بلدان أخرى في المنطقة (ليبيا، السودان، اليمن، وحتى سوريا والعراق، فضلاً عن اندلاع حرب أهلية مريعة في الجزائر لكنها أصبحت تحت السيطرة الآن)، ونشوء أزمة إنسانية هائلة خلّفت ملايين اللاجئين. يجب أن يدرك الأميركيون والبريطانيون أيضاً مسؤوليتهم عن جزءٍ من هذه الاضطرابات.

كان يسهل توقع المشاكل المرتقبة بعد تعهد بريطانيا بتحويل فلسطين إلى وطن يهودي من دون المساس بحقوق السكان العرب، ولم يبرز يوماً أي حل بديل للأزمة عدا عن تقسيم الأرض بين المعسكرَين اللذين يطالبان فيها. كذلك، نشأت كوارث غير محدودة نتيجة إقدام الولايات المتحدة على إضعاف الشاه الإيراني، والحرب العراقية الثانية ومحاولات تحويل العراق إلى نظام ديموقراطي، والاتفاق النووي الإيراني بقيادة إدارة أوباما.

يبدو أن الخطر الحقيقي الذي تطرحه روسيا لا يشبه الخطر الذي يُلوّح به الديموقراطيون أو الجمهوريون القلقون من روسيا، من أمثال السيناتور ماركو روبيو. روسيا دولة وحضارة قيّمة، لكنها ليست قوة عظيمة اليوم بقدر الولايات المتحدة والصين. إنها قوة اقتصادية غير مؤثرة، فالناتج المحلي الإجمالي فيها أصغر من كندا، وهي لا تشمل أي مؤسسات سياسية مهمة أو جديرة بالثقة.

بشكل عام، لم يشهد هذا البلد الفاسد يوماً واحداً من الحكم الفاعل، بل إنه غارق في الخيبات بعدما راهن بكل ما بناه على مر 300 سنة، بدءاً من بطرس الأكبر وصولاً إلى ستالين، لخوض صراع عالمي غير دموي نسبياً مع الولايات المتحدة وحلفائها، ولكنه خسر الرهان.

عملياً، تطرح روسيا خطراً مختلفاً: إذا أمعنت الولايات المتحدة في إهانتها، قد تدفعها إلى أحضان الصين، وقد يستعمل ملايين العمّال الصينيين الموارد غير المستغلة في سيبيريا لكسب المال. في هذه الحالة، ستتخذ التهديدات المطروحة على الولايات المتحدة والعالم أجمع منحىً خطيراً.

يدرك الرئيس ترامب هذه المعطيات كلها، لذا يحاول التوصل إلى طريقة فاعلة للتعامل مع روسيا، من دون أن يتهمه الديموقراطيون وأبواقهم في الصحافة بـ"الخيانة!". تهدف تلك الطريقة إلى إعطاء روسيا دوراً لتجديد استقرار الشرق الأوسط، شرط أن تتعاون مع تركيا التي حصدت الدعم للعودة إلى سوريا. ستواجه هاتان القوتان إيران، مع أن الولايات المتحدة ستُحجّمها في مطلق الأحوال بفضل سياستها المبنية راهناً على فرض عقوبات صارمة والرد على أي أعمال عدائية.

تستطيع إيران أن تهدد وتتوعد قدر ما تشاء، لكن يدرك نظامها الديني المتغطرس الآن أن فترة التساهل في واشنطن انتهت. يجب أن يفهم الجميع اليوم أن الولايات المتحدة، بأربعمئة عنصر من قواتها الخاصة، لا يمكنها أن تشكّل خطاً فاصلاً بين الجيش التركي و"حزب العمال الكردستاني".

في نهاية المطاف، يجب أن تجتمع سوريا والعراق ضمن اتحاد مرن من المناطق المستقلة، على أن يشمل كردستان. يمكن أن ترعى تركيا، وروسيا، والولايات المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وأي نظام محترم ينشأ مستقبلاً في إيران، الاستقرار الداخلي للمنطقة وتضمن تنفيذ هذا الإجراء.تسير الإدارة الأميركية في هذا الاتجاه على الأرجح، وهو مسار منطقي. سيواجه الديموقراطيون خسارة قاسية إذا أصروا على تأييد مقاربة أوباما التي تسمح لإيران باكتساب أسلحة نووية خلال ست سنوات فقط، فضلاً عن حصولها على علاوة بقيمة 150 مليار دولار لنشر الإرهاب وقتل الأميركيين. كان ذلك الاتفاق مريعاً ويجب ألا يأسف عليه أحد!