خالد أبو شقرا

مخطط هرم "بونزي" إحتيالي يجمع الأزمتين الألبانية واللبنانية... والإصلاحات تفرّقهما

لا خروج من الأزمة من دون مساءلة ومحاسبة... وإلا عبثاً نحاول!

8 كانون الأول 2022

02 : 01

صرخة المودعين تندد بدور القضاء خلال وقفة إحتجاجية للمطالبة باعادة الودائع

قليلة هي البلدان التي نجت كلياً أو جزئياً من أزمة إقتصادية في العقود الثلاثة الماضية، إلاّ أنّ أياً منها لم يتقصّد الهلاك كما يفعل صنّاع القرار في لبنان. فهذه الطبقة العريضة نائمة على حرير خصوصية الأزمة اللبنانية بشهادة صندوق النقد، فيما أشواك العجز عن إجتثاث الفساد وانعدام القدرة على المحاسبة وتحقيق الاصلاحات، تقضّ مضاجع 90 في المئة من المواطنين.

لم يتوان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في الطلب من صندوق النقد الدولي «المزيد من الصبر والمثابرة تجاه لبنان»، خلال الإجتماعات السنوية للصندوق التي عقدت في واشنطن بين 10 و16 تشرين الأول الماضي. والحجة أن «ظروفه تختلف عن ظروف أي دولة أخرى. وأن التعاون بين الصندوق ولبنان قد يمثل دراسة حالة فريدة من نوعها في العالم». بيد أن ما أغفله الشامي هو وجود تشابه كبير بين الأزمة اللبنانية وازمات اخرى كثيرة حول العالم. وكمثال هناك أزمة ألبانيا في العام 1997، والتي عرفت بـ»أزمة الهرم»، وكادت تتحول إلى حرب أهلية بسبب الفساد الاقتصادي.

«بونزي» يوحّد الأزمتين الألبانية واللبنانية

وجه الشبه بين الأزمتين يتمثل في انتهاج البلدين «نظام البيع الهرمي» ( Ponzi scheme )، بتشجيع من السلطة السياسية وغض النظر من قِبل المؤسسات الرقابية. ففي ألبانيا وافق المسؤولون الحكوميون بعد الخروج من النظام الاشتراكي الموجّه والدخول في اقتصاد السوق، في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، على سلسلة من صناديق الاستثمار الهرمية. حيث نشأت مجموعة من هذه الصناديق واستثمرت في شتى المجالات التي تستقبل الودائع من الجمهور والمؤسسات، مقابل فوائد باهظة تراوحت بين 10 و25 في المئة. وقد وصلت نسبة الفوائد المدفوعة في بعض الاحيان إلى 100 في المئة، كما حصل مع المستثمرين في صندوق شركة «سوديا». ولأن استثمارات هذه الصناديق كانت وهمية وتعتمد على التسديد للمستثمرين القدماء من أموال المستثمرين الجدد، انهارت في العام 1997، وخسر سكان انجرّوا إلى اللعبة 1.5 مليار دولار، أو ما يقدر بـ4 آلاف دولار للفرد الواحد (متوسط الدخل كان 80 دولاراً شهرياً). ودخل البلد في إفلاس جماعي.

في لبنان، غذّى المصرف المركزي نار اللعبة نفسها بالتكافل والتضامن مع المصارف. وخلافا لألبانيا التي لم تكن تلحظ تشريعاتها ما يخالف طريقة عمل الصناديق الاستثمارية، فان القوانين اللبنانية ولا سيما قانون النقد والتسليف، كان يجب أن تحول دون تفاقم المشكلة، وهذا ما لم يحصل. فقد أشار «تقرير المالية العامة في لبنان: مخطط تمويل بونزي؟»، الصادر عن البنك الدولي إلى ثلاثة عناصر رئيسية تراكمت منذ التسعينيات وأدت إلى الانهيار، وهي: الخروج الممنهج والحاد عن سياسة المالية العامة المنظمة والمنضبطة. الفرص الضائعة لحماية الأغلبية الشاسعة من المودعين بالدولار الأميركي. انهيار منظومة الخدمات العامة الأساسية التي كانت ضعيفة أصلاً، مما وضع العقد الاجتماعي في دائرة الخطر. ونتيجة لذلك خسر المودعون أكثر من 82 مليار دولار (تمثل ودائع المصارف في مصرف لبنان + التوظيفات الإلزامية). وأفلس النظام المصرفي وتعقدت سبل الخروج من الازمة.

الأزمة عن سابق تصميم جرم وليست صدفة

من الناحية القانونية يرى عضو رابطة المودعين المحامي فؤاد دبس أن «العناصر الجرمية نفسها موجودة في الازمتين». لكن ما انتهجته ألبانيا مغاير كلياً عما يحصل في لبنان.

في ألبانيا وضعت الحكومة يدها على المصارف والصناديق الاستثمارية المتورطة في اللعبة الهرمية، وأقصت المسؤولين المشتبه بفسادهم، فيما يُكلف في لبنان نفس الاشخاص من سياسيين ومصرفيين الذين تسببوا بالازمة، بادارة الخروج منها.

في ألبانيا جرت محاسبة المسؤولين، ومن لم يستطع الهروب من البلد جرى توقيفه، فيما لم يتم توقيف شخص عليه شبهات فساد مالي ومصرفي منذ بدء الازمة في العام 2019.

في ألبانيا تم فصل القضاء عن السياسة، بينما ما زال المسؤولون يتحكمون في مفاصل القضاء. والخشية تكمن في إمكانية هروبهم والتنعم بأصولهم وأموالهم المهربة إلى الخارج، وإفلاتهم كلياً من العقاب في حال إستشعارهم إمكانية المحاسبة. ومن هنا أتت الدعوى المقامة من رابطة المودعين وجمعية المحاسبة الآن accountability now لملاحقة شخصيات مشبوهة في الخارج والحرص على استرداد الاموال المنهوبة والناتجة عن صفقات فساد وسرقة، وذلك من خلال تقديم طلب بانزال العقوبات بهم استناداً الى ملفات فساد وعرقلة الاصلاح عمداً. وهذا ما يجب ان يحفز القضاء اللبناني (نظرياً)، وتأمين رافعة شعبية له في مواجهة تسلّط السياسيين.

ألبانيا إعترفت بأزمتها ولم تخش مصارحة المستثمرين في خسارة جزء كبير من اموالهم، فيما تستمر سياسة الانكار في لبنان، والوعد بوهم «إعادة تكوين الودائع»، على أمل التعويض في يوم من الايام. لكن مع كل اشراقة شمس تزداد الخسائر أكثر وتتوسع الفجوة إلى درجة يستحيل ردمها.

في ألبانيا، تمت محاسبة واقصاء المتسببين بالازمة وتحملوا خسائرهم، فيما تجري في لبنان محاولات لاستعمال المال العام لضمان عدم افلاس المؤسسات المتورطة والتعويض على جزء من المواطنين من حصة الجميع.

ودخلت ألبانيا في برنامج مع صندوق النقد الدولي، فيما لبنان يتخبط في خططه المتدحرجة من ورقة الحريري في العام 2019 إلى خطة ميقاتي-الشامي الاخيرة. واذا اردنا الذهاب بعيداً فان الاصلاح منشود منذ مؤتمرات باريس 1 و2 و3 و»سيدر»... اي منذ اكثر من 20 سنة... ولا حياة لمن تنادي !

المحاسبة أهمّ

الفرق واضح، ألبانيا سارت بطريق المحاسبة والإصلاح، واستطاعت بعد 10 سنوات أن تتجنب أزمة الرهن العقاري الاميركية وأزمة الديون السيادية الاوروبية التي أهلكت اقتصاديات عالمية، فيما يستمر لبنان بالربط العبثي بين السياسة والاقتصاد. وقد كشفت التقارير والدراسات الدولية حجم الترابط الهائل بين السياسيين من نواب ووزارء وكبار الموظفين مع المصارف وشركات التأمين والتعهدات. وهي الجهات نفسها التي تدور حولها شبهات الفساد الكبرى بتضييع المال العام. وبحسب الدارسة التي أعدها مركز «مالكوم كير- كارنيغي للشرق الاوسط»، تحت عنوان «الاقتصاد السياسي اللبناني: من اقتصاد مفترس إلى اقتصاد يلتهم نفسه»، يظهر بوضوح ارتباط وثيق بين نخب رجال الأعمال ونخب السياسيين، ربما لا نظير له في أي بلد آخر. ويذكر التقرير على سبيل المثال أن «أبرز المساهمين في ما لا يقل عن ثمانية عشر مصرفاً من أصل المصارف العشرين الرئيسة في لبنان، عبارة عن شخصيات مرتبطة بالطبقة السياسية أو مقرّبة منها، فيما يسيطر أفراد مقرّبون للغاية من الطبقة الحاكمة على 43 في المئة من أصول المصارف التجارية». وهذا الأمر له بالغ الأثر بحسب الدراسة «لأن القطاعات الاقتصادية التي هيمنت عليها تاريخياً مؤسسات ذات ارتباطات سياسية، لطالما كانت أقل تنافسية. كما أن نخب رجال الأعمال قدّموا بانتظام رشاوى وعمولات إلى الطبقة السياسية، مقابل الحصول على عطاءات ومقاولات وعقود و إعفاءات ضريبية، واتّباع سياسات التغاضي المطلق، والحد الأدنى من تدخّل الدولة».

هذا النوع من تضارب المصالح يقوض، برأي دبس، «أي إمكانية لاعتماد حل جدي للخروج من الأزمة. فالمنظومة لن تقدم على أي خطوة تؤدي إلى محاسبتها أو تقييد صلاحياتها الواسعة وتقليص ربحيتها.

الإنقاذ في لبنان كان ولا يزال ممكناً شرط البدء بالمحاسبة. وأول شروط المحاسبة يتمثل في إقصاءات من الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى الإنهيار، عن مواقع القرار. إذ إن تفويض نفس الأشخاص بايجاد الحلول، يشبه تكليف الثعلب حراسة قن الدجاج. ومع ما تظهره الأزمة من معالم جرمية واضحة، تصبح المحاسبة هي حجر الزاوية لأي خطة نهوض أو تعاف.