أندريه سولداتوف

"محاربو" بوتين يُسكِتون المعارضين

10 كانون الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

عناصر من القوات الروسية في أومسك | روسيا، تشرين الثاني، ٢٠٢٢

بعد الانتكاسات الروسية الكارثية في أوكرانيا وإعلان "التعبئة الجزئية" المثيرة للجدل من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واجه الكرملين فورة غضب شعبي على مواقع التواصل الاجتماعي في أواخر شهر أيلول.



صدر جزء من أشرس الانتقادات من داعمي الحكومة الأساسيين: إنهم القوميون المتطرفون والمتشددون العسكريون الذين شعروا بأن روسيا لا تقاتل بالشكل المطلوب. منذ بداية تشرين الأول، بدأت التُهَم تقترب من أوساط بوتين الخاصة، فنشر رمضان قديروف، رئيس الشيشان المعروف بوحشيته، خطاباً هجومياً طويلاً عبر تطبيق المراسلة "تلغرام". ذكر قديروف أن جنرالاً روسياً كان قد خسر بلدة محورية في دونيتسك "يحظى بالحماية من أعلى مراتب القيادة في هيئة الأركان العامة". اشتكت شخصيات بارزة أخرى في أوساط بوتين من المسألة نفسها، بما في ذلك يفغيني بريغوزين الذي يدير "مجموعة فاغنر" المتعاقدة عسكرياً مع الكرملين.

لكن تلاشت الانتقادات سريعاً حين بدأت الظروف توحي بأن الوضع سيخرج عن السيطرة. بحلول تشرين الثاني، رضخ معظم المتشددين وتوقفوا عن مهاجمة استراتيجية الحرب الروسية. في غضون ذلك، حصل الجيش على إذن ضمني للسيطرة على أجزاء متعددة من الاقتصاد الروسي، فكسبت الحكومة ووزارة الدفاع صلاحيات واسعة جديدة شملت القطاع الخاص أيضاً. تشدد هذه التطورات مُجتمعةً على تنامي نفوذ الجيش والمقربين منه، بما يشبه النفوذ الذي يتمتع به بوتين محلياً. بدل أن يضعف النظام بسبب الانتكاسات الحاصلة خلال الحرب في أوكرانيا على مر الأشهر الماضية، كما يفترض بعض المراقبين الغربيين، حصل بوتين على فرصة لإحكام قبضته على المجتمع الروسي ومنتقديــه العسكريين أيضاً.

بحلول 8 تشرين الأول، اتخذ بوتين خطوات جذرية، فأعاد تنظيم سلسلة القيادة الروسية وعيّن سيرغي سوروفيكين كقائد عام للقوات الروسية في أوكرانيا. على الورق، يُعتبر سوروفيكين خياراً غير متوقع، إذ يشمل سجله الشائك تمضية سبعة أشهر في السجن بسبب تورطه في محاولة انقلاب فاشلة في العام 1991، وتُهَماً جنائية بتهريب الأسلحة وضرب زميل له. لكن يصبّ عامل أساسي في مصلحة سوروفيكين، فهو يحظى بتأييد "محاربي" بوتين على "تلغرام". فور الإعلان عن تعيينه، أشاد المحاربون القدامى والمراسلون العسكريون بهذا القرار، وأعلن قديروف وبريغوزين عن دعمهما له. وحده إيغور ستريلكوف، القومي المتشدد والمسؤول المخضرم في جهاز الأمن الفدرالي، تابع انتقاد الوضع وذكّر المشتركين في قناته بمسيرة سوروفيكين الشائكة. تغيّر الأسلوب الطاغي على "تلغرام" لدرجة أن يلتزم الصحفيون الروس المنخرطون في الجيش الصمت حين أهانت القوات الأوكرانية روسيا عبر قصف الجسر المؤدي إلى شبه جزيرة القرم، فاتّهمهم سوروفيكين بالتحول إلى أبواق للكرملين.

لكن رغم تراجع هؤلاء الصحفيين عن انتقاداتهم، اتخذ الكرملين خطوات أخرى لإخماد موجة الاعتراض. في 14 تشرين الأول، انتشرت على "تلغرام" أخبار مفادها أن هيئة الأركان الروسية طلبت من النيابة العامة إجراء تحقيق عن تسعة نقاد عسكريين، بما في ذلك ستريلكوف والصحفي الحربي المخضرم سيمين بيغوف، بعد اتهامهم بانتهاك قانون جديد يمنع نشر "معلومات خاطئة ومتعمدة" عن الجيش. (استعمل الكرملين هذا القانون بالذات في مناسبات متكررة لإسكات النقاد منذ بداية الغزو ضد أوكرانيا: في ربيع العام 2022، أصبح أحد كتّاب هذه المقالة على قائمة المطلوبين في روسيا بسبب تُهَم مشابهة). كان ذلك التحقيق يهدف إلى تحذير شخصيات أخرى على "تلغرام"، وقد حقق هدفه. توقف المراسلون العسكريون فوراً عن توجيه الانتقادات إلى القيادة العسكرية، واكتفوا بنشر أخبار إيجابية عن التعبئة و"تحسّن" الخدمات اللوجستية، والتدريبات، ومسائل أخرى.

على صعيد آخر، بدأ الكرملين يكافئ الشخصيات المستعدة لتأييد خط الحزب الحاكم. في 17 تشرين الثاني، تم تعيين المراسل ألكسندر كوتس من صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" كعضو في مجلس حقوق الإنسان الروسي بعد توقفه عن انتقاد الحرب. تجدر الإشارة إلى قدرة هذا المجلس على اختراق أوساط الكرملين بدرجة معينة، وقد ملأه بوتين في الفترة الأخيرة بموالين له. بعد مرور أسبوع، قدّم الكرملين جائزة إلى بيغوف الذي توقف بدوره عن نشر تقارير شديدة اللهجة. حتى أن النظام نجح في إخماد مواقف ستريلكوف. بعد انتشار تقارير عن إجراء تحقيق ضد ستريلكوف وآخرين، بدا وكأن ستريلكوف توصّل إلى تسوية معينة مع الكرملين. سمح له الكرملين بمغادرة موسكو للمشاركة في تشكيل "كتيبته الخاصة من المتطوعين" والانضمام إلى القتال. في المقابل، أوقف ستريلكوف تعليقاته على الحرب. وبحلول تشرين الثاني، التزمت قناته على "تلغرام" الصمت بالكامل.

لم تقف جهود الكرملين لإخضاع منتقديه العسكريين عند هذا الحد. في محاولة لتوسيع نفوذ الجيش في المجتمع الروسي، اتخذ الكرملين خطوات بارزة لتعبئة الاقتصاد. في 19 تشرين الأول، أسس بوتين "مجلس التنسيق للدعم المادي للقوات المسلحة في روسيا الاتحادية"، وهي هيئة مسؤولة عن تنظيم نشاطات السلطات المحلية والاتحادية، فضلاً عن توجيه نظام الرعاية الصحية، والصناعة، والبناء، والنقل، وقطاعات أخرى، دعماً للحرب في أوكرانيا. لكن ثمة هدف واضح وراء هذا الاسم البيروقراطي ظاهرياً: يجب أن تعطي جميع الوزارات الاتحادية وحكومات المناطق الأولوية الآن لتزويد الجيش بالإمدادات، والمعدات العسكرية، وموارد أخرى، ما يعني إعادة توجيه البيروقراطية المدنية نحو دعم الجيش والحرب. كُلّف دينيس مانتوروف، وزير الصناعة والتجارة الروسي، بتسليم الأسلحة والمعدات العسكرية نيابةً عن المجلس، تنفيذاً "لأوامر خاصة من وزارة الدفاع".

عملياً، كان المسؤولون الروس قد تكلموا عن عسكرة الاقتصاد منذ أولى مراحل الحرب. في شهر حزيران الماضي، أوضح النائب الأول لرئيس الوزراء أندريه بيلوسوف (إنه المسؤول المتشدد الذي تدرّب ليصبح خبيراً اقتصادياً) تفاصيل "اقتصاد التعبئة": يُفترض أن يُركّز المجتمع الروسي على "أهداف محددة"، ومن واجب القطاع الخاص أن يحقق تلك الأهداف. الأهم من ذلك برأيه هو تشكيل هيئة نخبوية لإعادة هيكلة الاقتصاد لتحقيق هذه الغاية. من وجهة نظر بيلوسوف، يجب أن تتلقى أهم القطاعات الروسية في اقتصاد التعبئة المساعدات والإمدادات من قطاعات كثيرة أخرى. لتوضيح هذه الفكرة، تكلم بيلوسوف مثلاً عن الإدارة الاقتصادية في عهد ستالين خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تحددت معالم الاقتصاد السوفياتي كله انطلاقاً من تلبية حاجات البلد العسكرية.

لكن لم يبدأ الكرملين بتطبيق هذه الأفكار بطريقة عملية قبل شهر تموز. بموجب قانون أقرّه البرلمان الروسي، حصلت الحكومة على صلاحيات واسعة للسيطرة على الاقتصاد في زمن الحرب، بما في ذلك صلاحية تطبيق "تدابير اقتصادية استثنائية" للتحكم بإنتاج الشركات الخاصة عند الحاجة. نتيجةً لذلك، قد تضطر الشركات الخاصة الآن لتنفيذ عقود عسكرية على الطلب، وقد يعمل الموظفون فيها لدوام إضافي لتلبية أهداف الإنتاج. من المتوقع أن تتوسّع تداعيات هذه التدابير خلال الأشهر المقبلة. في أواخر تشرين الثاني، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن الحكومة تُخطط لزيادة نفقات الدفاع بنسبة 50% في العام 2023.

كان متوقعاً ألا يرحّب قطاع الأعمال بهذا القانون. نظرياً، قد يساعد القانون الشركات عبر منحها عقوداً عسكرية مربحة. لكن عملياً، جاء القانون ليزيد تأثير وزارة الدفاع على الحياة المدنية. وحتى لو لم تكن عسكرة الاقتصاد كاملة، أدى استدعاء 300 ألف رجل روسي إلى عواقب واسعة في القطاع الخاص. تشهد روسيا مثلاً نقصاً حاداً في خبراء تكنولوجيا المعلومات، فقد فضّل جزء كبير منهم العيش في المنفى منذ بدء الحرب. خوفاً من تداعيات هجرة الأدمغة، أعلنت وزارة التنمية الرقمية والبنك المركزي الروسي، في شهر أيلول، أن الموظفين في شركات تكنولوجيا المعلومات المسجّلة رسمياً، وشركات تشغيل الاتصالات، والبنوك، قد يستفيدون من تأجيل استدعائهم إلى الخدمة العسكرية. لكن بدا هذا التأجيل الموعود بلا معنى على أرض الواقع: تم استدعاء خبير في تكنولوجيا المعلومات في بنك "رايفايزن" مع أنه مؤهل للاستفادة من قرار التأجيل، وسرعان ما قُتِل بنيران قذائف الهاون في أوكرانيا بعد ثلاثة أسابيع.

ربما قرر الكرملين أن يعلّق قرار التجنيد الإجباري المدني في هذه المرحلة، لكن سبق واتضح حجم التداعيات المرافقة لاستدعاء مئات آلاف الرجال وإقرار قوانين جديدة للسماح للجيش بالسيطرة على الصناعات المحلية. بعبارة أخرى، يستطيع الجنرالات الآن أن يؤثروا على الاقتصاد بطريقة حاسمة. كذلك، يمكنهم أن يستدعوا أي عدد من الموظفين في أي شركة، ما يجعل نفوذهم أقوى من أي وقت مضى. تزامناً مع إسكات منتقدي الجيش واسترجاع السيطرة على الخطاب السائد في البلد، حصل الكرملين على أداة فاعلة لتوحيد الصفوف بعد اتخاذ تلك الخطوات.

لهذه الأسباب كلها، يجب أن يدرك الغرب حقيقة ما يحصل: لا تعني خسارة بوتين في ساحة المعركة في أوكرانيا أنه بدأ يخسر سيطرته على بلده. بل إن معظم المراحل الأخيرة من الصراع سمحت للكرملين بزيادة سيطرته على الرأي العام والاقتصاد المدني. باختصار، يبقى احتمال أن يضطر بوتين لإنهاء الحرب على وقع الضغوط المحلية أضعف مما يوحي به الوضع العسكري.


MISS 3