بشار الأسد وانتصاره الفارغ!

11 : 20

حتى الآن، تحمّل الرئيس السوري بشار الأسد حوالى تسع سنوات من الحرب الأهلية. لم يعد المهتمون بمستقبل سوريا يلتفتون اليوم إلى قدرة النظام على الصمود، بل يركّزون على خطته لترسيخ سلطته قبل إنهاء الحرب التي تجتاح بلده. ربما دخل الأسد المعركة وهو يظن أن نظامه قادر على التمسك بالسلطة التي كان يتمتع بها قبل العام 2011، لكن أصبحت أهدافه اليوم أقل طموحاً على الأرجح.



الظروف المحيطة بالأسد لا تُقلّص خطورة أولوياته في الوقت الراهن. حتى أنها قد تزيدها خطورة! يريد الأسد أن يثبت للعالم أن الوضع لا يزال تحت سيطرته ويسعى إلى إقناعه بضرورة أن تسترجع البلدان علاقات طبيعية مع نظامه، ولا شك في أنه سيحاول استرجاع جميع الأراضي السابقة محلياً. لحماية نظامه داخلياً، لن يعمد إلى تلبية حاجات الشعب السوري بل يطمح بكل بساطة إلى الصمود في منصبه. هو يستطيع تحقيق هذا الهدف عبر الحفاظ على شبكة محسوبيات تحوّلت إلى حبل نجاة للنظام السوري على مر الصراع.

لكن إذا حقق الأسد هذه الأهداف المتواضعة (أي الصمود واسترجاع الأراضي السورية)، سيكون انتصاره سطحياً لأنه سيرأس حينها دولة فارغة ومؤسسات ضعيفة تعجّ بمستغلي الحرب وتخضع لقوى خارجية.

عميل، لا شريك!سبق وبدأ الأسد محاولات تحقيق هدفه المرتبط بإعادة فرض السيطرة على مختلف الأراضي السورية. لكن يبقى الشمال منطقة محورية. يسيطر المتمردون الإسلاميون على الشمال الغربي، حيث قاوموا أي تقدم لقوات الأسد. وفي الشمال الشرقي، نجحت "قوات سوريا الديموقراطية" التي يطغى عليها الأكراد في طرد تنظيم "الدولة الإسلامية"، أو "داعش"، من المنطقة بحلول العام 2018، وأنشأت نوعاً من الحكم الذاتي بدعمٍ من القوات الأميركية. لكن في تشرين الأول 2019، سحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب معظم قواته وأقدمت تركيا على غزو المنطقة. ثم توصلت "قوات سوريا الديموقراطية" إلى اتفاق مع الأسد يسمح للجيش السوري بدخول الشمال الشرقي ومواجهة الهجوم التركي. اليوم، تدير القوات الكردية المنطقة بوجود الجيش السوري.يتعاون النظام السوري مع روسيا الآن لاسترجاع الشمال بالكامل. تعمل روسيا على عقد صفقة مع تركيا كي تسحب هذه الأخيرة قواتها من سوريا مقابل ضمانات لإبقاء "قوات سوريا الديموقراطية" (تعتبرها تركيا منظمة إرهابية) بعيدة عن الحدود. كجزءٍ من هذه الجهود، يناقش النظام احتمال التعاون عسكرياً وسياسياً مع القوات الكردية، مع أن الأسد سيحرم الأكراد على الأرجح من هامش الاستقلالية الذي كانوا يتوقعونه مقابل دورهم في مواجهة "داعش".

إذا تمكن النظام من تجديد أمن المنطقة المتنازع عليها، سيزعم أنه استعاد سيطرته على سوريا ويدعو إلى تطبيع علاقاته مع العالم. هذا التطبيع سيعطي نظام الأسد شرعية دولية ويُمهّد لرفع العقوبات عنه، ما قد يسمح بتدفق أموال إعادة الإعمار إلى سوريا. قد يعلن الأسد انتصاره في هذه الظروف، لكنه سيبقى لاعباً ثانوياً في قصة انتصاره هذه. على مر الجهود الشاقة التي تبذلها سوريا في هذا الإطار، ستتحول روسيا إلى أهم لاعبة خارجية في الحرب، وستضمن إيران استمرار نفوذها في بلاد الشام. أما نظام الأسد، فسيجد نفسه عميلاً أكثر منه شريكاً وسيتوقف صموده على دعم هاتين القوتَين الخارجيتَين.





تعطي سوريا امتيازات اقتصادية وأمنية لإيران وروسيا منذ الآن، منها عقود حكومية في قطاع النفط ودرجة من السيطرة على القواعد البحرية، مقابل المساعدات التي يقدمها البلدان في الصراع. وسّعت روسيا تحديداً مصالحها في سوريا عبر الضغط على النظام لمنح عقود اقتصادية للشركات الروسية وتعيين الموالين للروس في أعلى المناصب في الجيش السوري. من الواضح أن الولايات المتحدة لا تعتبر السيطرة الروسية على سوريا تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية، وهذا ما يفسّر عدم إطلاق تحقيقات خارجية لتقييم نزعة روسيا إلى فرض نفسها على نظام الأسد. بعدما استرجع الأسد قوته بفضل التدخل الروسي المؤثر، لن يحكم سوريا كدولة مستقلة، بل كدولة يتوقف صمـودها على روسيا.ربما لم يشأ الأسد في الأصل الوصول إلى هذه النتيجة النهائية، لكنه سيضطر للتعايش معها لأن سيطرته على البلاد تلاشت لأقصى حد. لا تزال المناطق التي استرجعها النظام حديثاً في الشمال الشرقي، مثل القامشلي، تحت سيطرة الميليشيا الكردية التي تنشر حواجز التفتيش لكنها ترفع العلم السوري، بضغطٍ من الدوريات الروسية، لإعطاء انطباع بأن الوضع أصبح تحت سيطرة الجيش السوري. حتى أن عدداً من الجنود السوريين الجدد وغير المدرّبين بما يكفي يعمل في الزراعة هناك لإعالة نفسه.عرش من ورقلن يدين الأسد للاعبين الخارجيين باستمرار حياته السياسية فحسب. على مر الصراع القائم، اضطر النظام للاتكال على شبكة واسعة من الجهات المساعِدة خارج إطار الدولة (بعضها مسلّح والبعض الآخر مدني) للتحايل على العقوبات الدولية في الصفقات التجارية، وتلقي المساعدة في ساحات المعارك، وأداء وظائف حكومية، على غرار توفير الخدمات في الأماكن التي يعجز النظام عن الوصول إليها أو التحكم بها. استفادت تلك الجهات من الصراع المطوّل، فتوسعت طموحاتها وزاد نفوذها، وقد انقلبت الطاولة الآن وأصبح النظام يتكل عليها لضمان صموده. تحوّلت تلك الأطراف المستفيدة إلى سلطات حقيقية تؤدي دور مؤسسات الدولة، لكن مقابل ثمن باهظ ومتزايد. اخترق المستفيدون الجهاز الأمني التابع للأسد على جميع المستويات. توسّعت استقلالية جزءٍ من الميليشيات التي دعمت وكالات أمن الدولة خلال الصراع، فباتت تسعى إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية واكتساب النفوذ في المقام الأول. في بعض الحالات، تحوّلت تلك الميليشيات إلى عصابات مسلّحة لترهيب المدنيين في المناطق الموالية للنظام. نتيجةً لذلك، أصبح النظام عاجزاً عن تلبية حاجات مناصريه أو كبح عددٍ من الميليشيات التي يُفترض أن تكون موالية للنظام أيضاً. وفي حالات أخرى، كما في القرداحة، مسقط رأس الأسد، لم تتمكن قوات النظام من دخول المناطق الخاضعة لسيطرة عصابات مسلّحة. ثم سلّمت تلك العصابات أسلحتها الثقيلة شرط أن يغفل النظام عن نشاطاتها الاقتصادية غير الشرعية. حتى أهداف الجيش السوري والمؤسسات الأمنية تغيرت، إذ تحاول الفروع المحلية التابعة للأجهزة الأمنية تحقيق مصالحها الخاصة بدل أن تخدم مصالح الدولة.

لا يستطيع النظام السوري أن يُشبِع جشع هؤلاء المستفيدين من ثرواته راهناً. لكنه لن يتحمّل كلفة تجويعهم أيضاً، لأن نفوذه يرتكز جزئياً على قوتهم. لهذا السبب، يتوق الأسد إلى تلقي أموال إعادة الإعمار كي يُغيّر مساره ويتكل مجدداً على شبكات المحسوبيات السورية. لتجنب هذه النتيجة، يجب أن يضمن أي دعم خارجي لمشاريع الإعمار وتوزيع الأموال على الشعب السوري ككل.




كان أي نظام مختلف ليحاول تعزيز نفوذه بعد انتهاء الصراع عبر كسب تعاطف المواطنين من خلال تسليط الضوء على حاجاته. لكن اتخذ نظام الأسد مقاربة معاكسة، فعاقب الجماعات التي يعتبرها غير موالية بما يكفي عبر حرمانها من الخدمات الأساسية والأمن والحقوق. في العام 2018، فرضت سوريا القانون رقم 10 الذي يُجرّد الناس من حقوق التملك ما لم يقدموا إثباتات مُلْكية أمام السلطات المحلية شخصياً. يُطبَّق هذا القانون بشكلٍ أساسي في البلدات التي تسيطر عليها الجماعات المتمردة، حيث يخضع أصحاب الأمــلاك للاستجواب المتكرر تمهيداً لاعتقالهم. تســـتفيد شبكات المحسوبيات من هذه التدابيـر عبر طلب الرشاوى لإطلاق سراح المعتقلين مثلاً.من خلال إسكات المعارضين وفرض سيطرة تامة على الأراضي السورية، يسعى الأسد إلى إعطاء انطباع مفاده أن سوريا ستعود إلى وضع المراوحة الذي كان سائداً قبل العام 2011. لكن يرتكز نظامه على دولة وهمية، وتسيطر جهات خارجية على ما تبقى من نفوذه. يجب ألا تقرر البلدان الغربية تطبيع علاقاتها مع سوريا على اعتبار أن الأسد هو الخيار المتاح الوحيد. بل يتعين عليها أن تحاول فهم الوضع السوري، من أسفل المراتب إلى أعلاها، كي تتمكن من فرض الضغوط على النظام المتفكك وتضمن ألا يستعمل برامج الدعم لمصلحة المستفيدين محلياً والممولين خارجياً. في نهاية اللعبة في سوريا، يبدو أن الأسد سيجد نفسه جالساً على عرشٍ هش يقوم على أسس متصدعة وآيلة للسقوط.


MISS 3