الرأسمالية لن تصمد من دون إصلاحات!

10 : 36

تواجه الشركات اليوم خياراً وجودياً حاسماً: إما أن تتبنى "رأسمالية أصحاب المصلحة" بحذافيرها وتتحمّل المسؤوليات المترتبة عليها عبر اتخاذ خطوات فاعلة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية، وإما أن تتمسك بنسخة بالية من "رأسمالية المساهمين" التي تعطي الأولوية للأرباح قصيرة الأمد قبل أي شيء آخر وتنتظر من الموظفين والعملاء والناخبين أن يفرضوا التغيير عليها من الخارج. قد يبدو هذا التقييم قاسياً بنظر كل من يؤمن بأهمية دور الشركات في الاقتصاد العالمي. لكن ما من خيار بديل على ما يبدو. توسّعت بصمتنا البيئية بما يتجاوز قدرة تحمّل الأرض، وتشهد أنظمتنا الاجتماعية تصدعاً متزايداً، ولم تعد أنظمتنا الاقتصادية تُحرك النمو الشامل.

من الواضح أن الأجيال الشابة اليوم لم تعد تقبل بأن تحقق الشركات الأرباح على حساب راحة المجتمع والبيئة ككل. نعرف أن الاقتصاد المبني على تحرر الأسواق عامل أساسي لضمان التنمية والتقدم الاجتماعي على المدى الطويل، ولن نرغب حتماً في استبدال هذا النظام. لكن وصلت الرأسمالية، بشكلها الراهن، إلى أقصى حدودها ولن تصمد لوقتٍ طويل ما لم تخضع لإصلاحات مؤثرة من الداخل.

ما هو تعريف الشركة؟


كيف يصبح الانتقال إلى رأسمالية أصحاب المصلحة نهجاً حقيقياً ومستداماً؟ للإجابة على هذا السؤال، من المفيد أن نراجع النظام الاقتصادي العالمي بعد حقبة الحرب والدور الذي لعبته الشركات والحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية فيه. قد يظن البعض أن الرأسمالية الغربية لطالما أعطت الأولوية للمساهمين، لكنّ الواقع مختلف.

تأسس المنتدى الاقتصادي العالمي منذ خمسة عقود في "دافوس" لنشر "مفهوم تعدد أصحاب المصلحة"، وهو نموذج يشتق في الأصل من المقاربات الأوروبية والأميركية للرأسمالية. حسّـــنت الشركات الأميركية في حقبة ما بعد الحرب إدارة الأعمال والأموال من خلال تفعيل النمو والأرباح. نتيجةً لذلك، أصبحت الشركات الأميركية والمفكرون الإداريون الأميركيون محط حسد العالم. لكن طرح المدراء الأوروبيون بدورهم أفكاراً صائبة في تلك الفترة. كانوا يتكلون على ردود الأفعال الاجتماعية التي تتّضح في عمق التزامهم مع العمال والعملاء والموردين.

عكست الأفكار المرتبطة برأسمالية أصحاب المصلحة توجّه "بيان دافوس" المُوقَّع خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في بداية نشوئه. تذكر أول عبارة من البيان ما يلي: "الغاية من الإدارة المهنية هي خدمة العملاء والمساهمين والعمّال والموظفين، فضلاً عن المجتمعات، والتنسيق بين مختلف أهداف أصحاب المصلحة".

اشتق "بيان دافوس" من تجربة ما بعد الحرب، لكنه كان انعكاساً متجدداً لمسار تاريخي طويل. لطالما كانت الشركات عبارة عن وحدات اجتماعية واقتصادية على حد سواء. في الأصل، نشأت الشركات للمرة الأولى في أوروبا خلال القرون الوسطى على شكل أداة مستقلة لإحراز التقدم الاقتصادي ولضمان ازدهار المجتمع أيضاً أو بناء مؤسسات تخدم المصلحة العامة، على غرار المستشفيات والجامعات، أو ما نسمّيه اليوم "القيم المشتركة".

لكن لم تنتشر هذه الرؤية عن الشركات على مستوى العالم كله. في الفترة نفسها تقريباً، طرح الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان في جامعة شيكاغو رؤية مختلفة جداً، فكتب: "يتحمّل قطاع الأعمال مسؤولية اجتماعية واحدة، وواحدة فقط، وهي تتعلق باستعمال موارده والمشاركة في نشاطات تهدف إلى زيادة أرباحه". باختصار، يقتصر قطاع الأعمال التجارية على التجارة. هكذا نشأت فكرة تفوّق المساهمين. وبعد فترة غير طويلة، تبنّت "الطاولة المستديرة للأعمال" (منظمة تُمثّل عدداً من أكبر الشركات الأميركية) وقادة آخرون في القطاع هذه الرؤية.

حقائق شائكة


خلال العقود القليلة اللاحقة، بدا وكأن رأسمالية المساهمين تتفوّق فعلياً على رأسمالية أصحاب المصلحة. وسّعت الشركات الأميركية نطاق هيمنتها، وأصبح تفوّق المساهمين المعيار السائد في الشركات الدولية. كانت شخصية "غوردون غيكو" التي قدّمها الممثل مايكل دوغلاس في فيلم Wall Street أفضل من عبّر عن حقيقة الوضع حين قال: "الجشع ظاهرة إيجابية"! كانت كلماته خيالية، لكن وافقه الرأي عدد كبير من العاملين في قطاع المال والأعمال.

وكان النمو القوي خلال الثمانينات والتسعينات والسنوات الأولى من هذا القرن كفيلاً بإخفاء بعض الحقائق الشائكة. بدأت الأجور في الولايات المتحدة تستقر اعتباراً من أواخر السبعينات، وتراجع نفوذ الاتحادات بدرجة ملحوظة. كذلك، تدهورت البيئة الطبيعية تزامناً مع تحسّن الوضع الاقتصادي، ووجدت الحكومات صعوبة إضافية في جمع الضرائب من الشركات متعددة الجنسيات. تجتمع هذه المشاكل كلها في الأزمة الراهنة، ويقضي الحل المستدام الوحيد بالتخلي عن رأسمالية المساهمين التي استبدلها نموذج أصحاب المصلحة.على مر العقود الأربعة منذ العام 1980، توسّعت مظاهر اللامساواة الاقتصادية بجميع أشكالها. في الولايات المتحدة على وجه التحديد، كان نمو الدخل المُعدَّل بفعل التضخم شبه معدوم لدى 90% من الناس في أدنى المراتب، بينما زادت المداخيل لدى 0.01% في أعلى المراتب بأكثر من خمسة أضعاف. سرعان ما تفاقمت اللامساواة بين الثروات أيضاً. تسود نزعات مماثلة، ولو أنها أقل وضوحاً أحياناً، في كل مكان آخر من العالم. خلال فترة الستينات، كان المدير التنفيذي يستطيع كسب ما يساوي عشرين ضعف دخل العمّال لديه. اليوم، يكسب المدراء التنفيذيون الأميركيون ما يفوق متوسط الراتب بـ287 مرة.




في الوقت نفسه، توسّعت الشركات الرائدة حول العالم بوتيرة متسارعة، ما أدى إلى زيادة قوة السوق وتغيير علاقتها بالمجتمعات والحكومات. بعدما كانت الشركات في الماضي جزءاً راسخاً في عمق المجتمعات التي تنشط فيها، تلاشــت تلك الروابـط مع مـرور الوقت. تكـون شركات كثيرة ذكية بما يكفي لاسـتغلال الملكيـة الفكرية وسعر التحويل العالمي بهدف تضخيم الأرباح لأقصى حـــد، فتصبح بذلك جزءاً من دافعي الضرائب الأقل مصداقية. وحين شهد القطاع المالي نمواً يندرج في إطار منفصل عن النمو الاقتصادي، حقّق نتائج قصيرة الأمد على حساب استمراريته على المدى الطويل.

نتيجةً لذلك، تدهور الرابط القائم بين قطاع الأعمال والمجتمع. ونظراً إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة، غالباً ما تعجز الحكومات أيضاً عن القيام بالاستثمارات اللازمة كونها تفتقر إلى المداخيل الضريبية التي تحتاج إليها. أخيراً والأهم، استمرت معاناة الطبيعة بسبب النشاطات الاقتصادية التي تهتم حصراً بكسب أكبر قدر من الأرباح. كان هذا الوضع جزءاً من المخاوف السائدة منذ السبعينات. في دافوس، تكلم أوريليو بيسي من "منتدى روما"، في العام 1973، عن "حدود وشيكة للنمو". وذكر "بيان دافوس" أن الإدارة يجب أن "تتولى دور الوصي على العالم الملموس خدمةً لمصلحة الأجيال المستقبلية، ويجب أن تستعمل الموارد المادية وغير المادية المتاحة لها بأفضل طريقة ممكنة".

نــعرف الآن أننا ما كنا لنواجه على الأرجح أي أزمة مناخية اليوم لو بقيت وتيرة استعمالنا للموارد الطبيعية العالمية بمستوى ما كانت عليه في بداية السبعينات. وفق "شبكة البصمة البيئية العالمية"، كان العام 1969 آخر عام بقيت فيه البصمة البيئية البشرية صغيرة بما يكفي لضمان استمراريتها. لكن منذ ذلك الحين، بدأنا نتجاوز هذه الحـدود. اليوم، بحلـول العام 2020، نستعمل الموارد بوتيرة تساوي ضعف المُعدّل المستدام.


فرصة أخيرة

بدأ الشبان في جميع أنحاء العالم يُذكّروننا في الفترة الأخيرة بأن الوقت حان لتصحيح ذلك الخطأ التاريخي. لإنقاذ الرأسمالية اليوم، تقضي الطريقة الوحيدة بالعودة إلى نموذج أصحاب المصلحة الذي اكتشفناه ثم نسيناه بعد عقود، وتعزيز التزامنا به. لكن بما أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية تدهورت بدرجات فائقة اليوم مقارنةً بالماضي، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إحداث تعديلات عملية بدل الاكتفاء بالكلام. ما السبيل لتحقيق هذه الغاية؟في المقام الأول، يجب أن تتّفق الشركات والمساهمون فيها على رؤية طويلة الأمد حول الأهداف والأداء، بدل أن يسمحوا للنتائج الفصلية بتوجيه جميع قراراتهم. انطلاقاً من هذه النقطة، يتعين على الشركات أن تقوم بعدد إضافي من الالتزامات الملموسة لدفع الأسعار والرواتب والضرائب العادلة في جميع الأماكن التي تنشط فيها. أخيراً، لا بد من إدراج معايير بيئية واجتماعية وإدارية إلى تقارير الشركات الرسمية وأنظمة التدقيق.

تتطلب هذه الخطوات كلها تغيرات كبرى طبعاً. لكن سيكون أي بديل عنها أكثر صعوبة وسيميل إلى التسبب بمشاكل إضافية. ستُجبِر الأجيال الجديدة من العمّال والمستهلكين والناخبين الشركات على تغيير أساليبها، طوعاً أو قسراً. في المقابل، قد تنهار شركات كثيرة تدريجاً إذا رفضتها تلك الجماعات. أو يمكن أن تقرر الحكومات تشديد تدابيرها لتطبيق معايير جديدة، فتعيد ترسيخ نفسها كحَكَم قوي في الأسواق.إذا أرادت الشركات تجنب هذا النوع من السيناريوهات، ستكون سنة 2020 محورية لتحديد وجهتها. خلال المنتدى الاقتصادي العالمي، سنتابع طرح رأسمالية أصحاب المصلحة والدفاع عنها، مع كل ما يرافقها من التزامات ملموسة لإعطائها طابعاً شاملاً ومستداماً. قد تكون هذه المناسبة فرصتنا الأخيرة لإصلاح الرأسمالية من الداخل، ويجب أن نقتنصها بلا تردد!


MISS 3