اليابان... قوة فضائية صاعدة!

10 : 29

تحوّلت اليابان إلى دولة مُستكشِفة للفضاء في العقود القليلة الماضية. من المعروف أنها رائدة عالمياً في التكنولوجيا المتطورة وقد استفادت من خبرتها في مجالات أساسية، مثل علم الروبوتات، لترسيخ مكانتها بين أبرز البلدان الناشطة في مشاريع الفضاء. لكن على عكس جهات نافذة أخرى، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، بلغت اليابان هذه المكانة عبر الالتزام بنطاق "الاستعمالات السلمية للفضاء الخارجي"، بموجب "معاهدة الفضاء الخارجي" من العام 1967.



كانت اليابان تشمل في البداية ثلاث مؤسسات لتولي نشاطات الفضاء الجوي: "معهد الفضاء وعلوم الفلك"، و"الوكالة الوطنية لتطوير الفضاء"، و"المختبر الفضائي الوطني الياباني". لكن شكّل دمج هذه الجهات الثلاث لإنشاء "وكالة استكشاف الفضاء اليابانية" ("جاكسا") في العام 2003 لحظة مفصلية في مسار البلد تمهيداً لتحويله إلى قوة فضائية كبرى. في الوقت الراهن، يُطوّر المهندسون في وكالة "جاكسا" وشركة "ميتسوبيشي" للصناعات الثقيلة المحدودة صاروخ H-3 الذي يتمتع بقوة مضاعفة، ومن المتوقع أن يبدأ العمل به قريباً.

اتكلت اليابان بشدة على براعتها في علم الروبوتات للتحول إلى دولة بارزة في مجال استكشاف الفضاء. في العام 2013، أصبحت اليابان أول بلد يطلق رائد فضاء آلي اسمه "كيروبو" إلى "محطة الفضاء الدولية". نجح "كيروبو" في إثبات قدرته على أداء المهام حين يتلقى تعليمات شفهية من رائد الفضاء كويشي واكاتا. سرعان ما توسّع استعمال علم الروبوتات في البعثات الفضائية ووصل إلى قطاع استكشاف عمق الفضاء وإلى بعثات "هايابوسا" التي حصدت إشادة كبيرة. انطلقت المركبة الفضائية "هايابوسا" في العام 2003، ودخلت كتب التاريخ باعتبارها أول بعثة تعود إلى كوكب الأرض وهي تحمل معها غباراً من كويكب.

وسبق واعتُبِرت المركبة التي تَبِعتها، "هايابوسا 2"، مشروعاً أنجح منها. انطلقت هذه المركبة في كانون الأول 2014 وأجرت تحليلاً مفصّلاً عن كويكب "ريوغو" الغني بالكربون طوال سنة ونصف، فدرست معايير مثل التركيبة المعدنية والقصور الذاتي الحراري. والأهم من ذلك هو أنها أصبحت أول مركبة فضائية تجمع عينات من سطح الكويكب وما تحته. ينتظر مجال العلوم بكل شوق عودة "هايابوسا 2" في العام 2020.

على صعيد آخر، سعت اليابان إلى استعمال براعتها في علم الروبوتات لإيجاد حلول مبتكرة ومعالجة التهديدات التي تطرحها المخلفات الفضائية. كانت وكالـة "جاكسا"، إلى جانب جهات خاصة متنوعة، في طليعــة الأطـراف التي طوّرت تقنيات قادرة على مواجهة هذا التحدي الذي يُهدد مشاريع استكشاف الفضاء عالمياً. اختبرت "جاكسا" مفهوم الحبل الكهروديناميكي الذي يلتقط المخلفات الفضائية ويجعلها تطفو باتجاه المدار الأرضي المنخفض قبل أن تحترق الجزيئات غير المرغوب فيها انطلاقاً من هناك، فور دخولها مجدداً إلى الغلاف الجوي. لم ينجح أول اختبار لهذا المفهوم، وكان عبارة عن آلية شبيهة بشبكة الصيد ومؤلفة من أسلاك ألمنيوم وفولاذ مقاوم للصدأ. لكن لم يتخلَّ المعنيون عن هذه الآلية، بل إنهم يتابعون استكشاف قابلية تنفيذها.

في غضون ذلك، اقترحت شركة "أتروسكايل" المتخصصة بإزالة الحطام المداري في سنغافورة، تحت إدارة رجل الأعمال الياباني الأصل نوبو أوكادا، مجموعة من الحلول غير الاعتيادية. تُخطط الشركة لتقديم سلسلة من المشاريع التكنولوجية خلال العام 2020، منها المركبة الفضائية "إيلسا-دي" التي ستحاول التقاط أجزاء من المخلفات الفضائية وتخفيضها إلى مستوى الغلاف الجوي.


كذلك، استعملت اليابان أداة الديبلوماسية الفضائية كجزءٍ أساسي من استراتيجيتها للتحوّل إلى قوة فضائية. فعرضت خبرتها التكنولوجية لتفعيل مبادرات كبرى مبنية على التعاون الدولي، منها "محطة الفضاء الدولية". كان عدد من المحاولات البحثية اليابانية السابقة يهدف مثلاً إلى اكتساب الخبرة البحثية التي تناسب مشاريع "محطة الفضاء الدولية". وكجزءٍ من برنامج "مكوك الفضاء إنديفور" في وكالة "ناسا"، أطلقت اليابان في العام 1992 وحدة Spacelab-J التي شملت تجارب علمية متعددة. أدت الدروس المســتخلصة من هذه المهام إلى تطوير "وحدة التجارب اليابانية" المعروفة باسم "كيبو"، وهي مكوّن أساسي من "محطة الفضاء الدولية" وأكبر وحدة فيها لإجراء التجارب العلمية. في الوقت نفسه، طوّرت "جاكسا"، بالتعاون مع "الوكالة الوطنية لتطوير الفضاء"، سفناً لشحن الإمدادات إلى "محطة الفضـاء الدولية".

اليوم، تعمل الوكالة على تطوير قاذفة H-3 لتمكين ناقلة الشحن HTV-Xمن تسليم حمولات أثقل إلى "محطة الفضاء الدولية".خلال السنوات المقبلة، من المتوقع أن تصبح اليابان أيضاً جزءاً بارزاً من بعثات استكشاف القمر التي أطلقتها الولايات المتحدة. تابعت "جاكسا" تعاونها مع وكالة "ناسا" وأعضاء آخرين في "محطة الفضاء الدولية"، ومن المتوقع أن تصبح جهة أساسية في مشروع المنصة المدارية القمرية "غايتواي". كجزءٍ من هذه البعثة متعددة الوكالات، اقترحت "جاكسا" إرسال رواد فضائها، فضلاً عن تطوير وحدة سكن تشبه "كيبو" لإجراء التجارب العلمية. كذلك، كشفت الوكالة، بالتعاون مع شركة "ميتسوبيشي" للصناعات الثقيلة المحدودة، أنها تنوي تعديل صـــاروخ H-3 كي يقطع مسافة أطول من تلك التي تفرضها "محطة الفضاء الدولية". في غضون ذلك، يُقال إن "جاكسا" تتعاون مع "منظمة أبحاث الفضاء الهندية" لإطلاق بعثة إلى القمر في السنوات المقبلة.


لم تقتصر مشاريع اليابان في مجال التعاون الفضائي على القوى الكبرى. أثبت مشروع "بيردز" الذي يحظى بدعم "معهد كيوشو للتكنولوجيا" أنه نموذج ناجح للمساعدة التكنولوجية الرامية إلى تسهيل المشاريع الفضائية على البلدان غير المُستكشِفة للفضاء. كانت المساعدة اليابانية عبر هذا البرنامج كفيلة بتمكين أربعة بلدان (نيجيريا، منغوليا، بنغلادش، غانا) من إطلاق أقمارها الاصطناعية المُكعّبة على متن صاروخ "فالكون-9" التابع لشركة "سبيس إكس" في حزيران 2017. كذلك، أطلقت "جاكسا" في العام 2018 أقماراً اصطناعية مكعبة نيابةً عن ماليزيا وبوتان والفيليبين وكوستاريكا وكينيا.

تطورت الأقمار التي صمّمتها تلك البلدان وانطلقت من وحدة "كيبــــو" في "محطة الفضاء الدولية".كانت جهود اليابان الرامية إلى ترسيخ مكانتها في الفضاء الخارجي سلمية في معظمها. لكن بسبب المعطيات الجيوسياسية السائدة في شرق آسيا، اضطرت اليابان لإعادة تقييم هذه المكانة. بدأ البلد يزيد تركيزه على استعمال الموارد الفضائية لتعزيز أمنه القومي. عمدت المقاربة اليابانية في العام 2008 إلى تعديل قانون الفضاء الأساسي كي يتماشى مع "معاهدة الفضاء الخارجي". وبفضل ذلك التعديل، تمكنت اليابان من استخدام قدراتها الفضائية تمهيداً لتكثيف الاستعمال العسكري في الفضاء الخارجي.


اشتق هذا التعديل الاستراتيجي من ثلاثة عوامل أساسية. أولاً، كانت الشكوك المرتبطة بمصداقية الضمانات الأمنية التي تقدّمها الولايات المتحدة مصدر قلق بارز لليابان. ثانياً، يتعلق عامل مؤثر آخر بتوسّع التهديد الذي تطرحه كوريا الشمالية المجاورة التي تزداد عدائية. ثالثاً، تدرك اليابان على ما يبدو أهمية الموارد الاستراتيجية في الفضاء لضمان توسيع نفوذها، لأن إثبات البراعة في قطاعات التكنولوجيا المتطورة يُعتبر اليوم ميزة أساسية لأي قوة عظمى. لتحقيق هذه الغاية، تعمل "جاكسا" على تطوير إمكانات نظام "الموقع والملاحة والتوقيت" (PNT) عن طريق "نظام الأقمار الاصطناعية شبه التامة" (QZSS).

نشأ هذا النظام وسط مخاوف من حصول تدخّل خارجي عبر "النظام الأميركي لتحديد المواقع العالمي" (GPS). وعلى عكس نظام "بايدو" الصيني، و"نظام الأقمار الاصطناعية الروسي للملاحة العالمية" (GLONASS)، و"نظام الملاحة الفضائية الهندي الإقليمي" (IRNSS)، يهدف "نظام الأقمار الاصطناعية شبه التامة" إلى استكمال عمل نظام "تحديد المواقع العالمي" والتحوّل إلى أداة تضخيم عاملة بالأقمار الاصطناعية. تُركّز الكوكبة المؤلفة من أربعة أقمار اصطناعية على منطقة آسيا وأوقيانيا، مع التشديد بشكلٍ خاص على اليابان. يتمتع النظام بدقة عالية تصل إلى 10 سنتيمترات، مقارنةً بنظام تحديد المواقع العالمي الذي يصل هامش الخطأ فيه إلى 10 أمتار تقريباً.



تنشط اليابان وفق ضوابط صارمة ولم تردعها إخفاقاتها السابقة، بل إنها طوّرت مسارها بوتيرة ثابتة لاكتساب إمكانات فاعلة ومبتكرة في الفضاء الخارجي. لا شك في أن الجهود التي تبذلها وكالة "جاكسا" للاستفادة القصوى من خبرة البلد التكنولوجية لمصلحة قطاع استكشاف الفضاء العالمي أدت إلى رفع مكانة اليابان كقوة نافذة. رسم البلد مساره بطريقة إيجابية وسلمية واكتسب مكانة يستحقها في مجال استكشاف الفضاء.

في حالات كثيرة، اعتُبِرت اليابان جهة محورية لطرح نماذج دولية فاعلة للتعاون التكنولوجي، تزامناً مع تقوية خطاب المنافسة الجيوسياسية. على صعيد آخر، سمح نجاح بعثات مثل "هايابوسا-2" لليابان بالتحول إلى مخزون من المعارف التقنية لأن البيانات التي يجمعها هذا النوع من المشاريع قد تكشف مفتاح الحل لعدد كبير من ألغاز الكون. حتى الآن، كان أداء اليابان استثنائياً، نظراً إلى إصرارها على الامتناع عن إعطاء المشاريع الفضائية طابعاً مسلّحاً. لكن من الواضح أنها تملك الإمكانات التكنولوجية اللازمة لاتخاذ هذه الخطوة عند الحاجة. في حال تفاقم الوضع الأمني في شرق آسيا، لن يكون لجوء اليابان إلى خيارات مماثلة خلال السنوات المقبلة مساراً مفاجئاً.


MISS 3