عبده جميل غصوب

قراءة قانونية لقرار المجلس الدستوري رقم 1/2023 تاريخ 5/1/2023 بالمراجعة رقم 18 / 2022

18 كانون الثاني 2023

17 : 03

أقر المجلس الدستوري في قراره رقم 1/ 2023 تاريخ 5/1/2023 جملة مبادئ، يقتضي التوقف عندها نظرا لأهميتها القانونية والعملية على حد سواء.

أننا نؤيده في اعتماده لهذه المبادئ في (أولاً)، لكننا لا نؤيده في حلول أخرى توصل اليها في قراره (ثانياً).

أولاً: المبادئ المقررة من المجلس الدستوري

المبدأ الأول: عدم جواز توقيع النائب على المراجعة بعد أبطال نيابته

قرر المجلس الدستوري انه سبق له وأبطل نيابة أحد الموقعين على المراجعة النائب السابق السيد رامي فنج، بموجب القرار رقم 15/2022 تاريخ 24/11/2022، بتاريخ سابق لتاريخ تقديم المراجعة، فيكون النائب السابق المذكور فاقداً الصفة المطلوبة لتقديم المراجعة، ما اقتضى إخراجه منها. وهذا تكريس لمبدأ مفاده ان قرار أبطال النيابة لا يكون له مفعول رجعي، بحيث تعتبر نيابته صحيحة عن الفترة السابقة لقرار الأبطال، فيكون القرار واقعاً في محله القانوني الصحيح لهذه الجهة. إلا أن إخراج النائب السابق المذكور من المراجعة لم يؤثر على صحتها، لان عدد النواب المستدعين كان أحد عشر نائبا، أي ما يزيد عن العشرة نواب المطلوبين لتقديم المراجعة.

2 ـ المبدأ الثاني: عدم تأثير قطع الحساب على صحة الموازنة

نصت المادة 78 من الدستور أن "حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة، يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها، قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة ".

وقد جاء في قرار المجلس أن قطع الحساب يعبر عن واقع تنفيذ الموازنة وتحديداً أرقام الواردات والنفقات والتوازن في ما بينها. ويعكس مدى الالتزام بخطة عمل السنة المنصرمة. ويمكّن مجلس النواب من اتخاذ قرارات مبنية على معلومات حقيقية عند إقرار الموازنة أو تعديلها وفقاً لمعطيات مالية واقتصادية واكتشاف مكامن الخلل في المالية العامة واتخاذ التدابير التصحيحية في الوقت المناسب. وان قطع الحساب هو الأداة الأساسية لديوان المحاسبة لإجراء التدقيق في الحسابات العامة وفي تنفيذ الموازنة. كما هو الأداة الأساسية لمجلس النواب للقيام بدوره في المراقبة والإشراف على استخدام السلطة التنفيذية للأموال العامة. وان إقرار الموازنة بدون قطع حساب يعطّل دور ومسؤوليات السلطة التشريعية وديوان المحاسبة في الرقابة المالية ويجعل السلطة التشريعية عاجزة عن ممارسة الرقابة على الموازنة.

وان الحكومات المتعاقبة تقاعست منذ أكثر من خمس عشرة سنة، عن وضع قطع حساب سنوي. كما تقاعس مجلس النواب عن إلزام الحكومة بوضع قطع حساب سنوي، ما خلق حالة شاذة والحق ضررا بالمصلحة الوطنية العليا. وقد اعتبر المجلس الدستوري في قراراه رقم 2/2018 أن عدم وضع قطع الحساب يشكل حالة شاذة، يقتضي الخروج منها سريعا ووضع قطع حساب وفق القواعد الدستورية وقانون المحاسبة العمومية.

وبعد أن اكد المجلس الدستوري أن عدم وضع قطع الحساب يشكل حالة شاذة يقتضي الخروج منها سريعاً، فضلا عن كونه يشكل مخالفة للمادة 87 من الدستور، تساءل عما اذا كان ذلك يوجب حتمياً إبطال قانون الموازنة ؟

لقد اعتمد المجلس الدستوري على سببين للقول بان مخالفة المادة 87 من الدستور المتمثلة في الأحجام عن وضع قطع حساب، ليس سبباً " حتمياً " لإبطال الموازنة:

أ ـ السبب الأول: أهمية إقرار الموازنة

لا يجوز أن تحول الحالة الشاذة المنوه عنها أعلاه دون وضع موازنة عامة نظراً لأهميتها التي لا غنى للدولة عنها، لان انتظام المالية العامة في الدولة هو ركيزة الانتظام العام ذي القيمة الدستورية. وهو لا يتحقق إلا في إطار الموازنة العامة. وقد منح الدستور للموازنة موقعاً استثنائياً نظراً لأهميتها، فأجاز إصدار الموازنة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بدون موافقة السلطة الاشتراعية، اذا لم تقره ضمن المهلة المحددة؛ بل أن الدستور أجاز حل مجلس النواب، في حال رده الموازنة برمتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل (المادة 65 – فقرة 4).

وفي " عبارة ذهبية " قال المجلس الدستوري انه " اعتمد وضع قطع الحساب من اجل الموازنة ولم تعتمد الموازنة من اجل قطع الحساب ". فلا يجوز أن يؤدي غياب قطع الحساب لسنوات عدة الى عدم إقرار الموازنة.

بعبارة مختصرة، قال المجلس الدستوري ان غياب قطع الحساب - وإن كان يشكل مخالفة دستورية على درجة عالية من الاهمية وحالة شذوذ يجب تصحيحها - فانه لا يؤدي الى عدم اقرار الموازنة او ابطالها لهذا السبب.

ونضيف بانه لا يوجد اي نص واضح يؤدي الى ابطال الموازنة او الى عدم اقرارها بغياب قطع الحساب. فاذا كان قطع الحساب بذاته يشكل مخالفة دستورية فاضحة، فانه لا يصح تصحيح هذه المخالفة بمخالفة أكبر منها، هي عدم اقرار الموازنة او ابطالها لهذه العلة.

ب ـ السبب الثاني: عدم تضمن قراري المجلس الدستوري رقم 2/2018 و2/2020 ما يفيد وجوب ابطال قانون الموازنة لعدم سبقه بقطع الحساب

جاء في قرار المجلس الدستوري انه اذا كان صحيحاً ان قرارات المجلس الدستوري تتمتع بقوة القضية المحكمة وهي ملزمة لجميع السلطات العامة والمراجع القضائية والادارية ( المادة 13 من قانون انشاء المجلس الدستوري والمادة 52 من نظامه الداخلي )، فالصحيح أيضا ان الزامية قراراته تنهض من الفقرة الحكمية للقرارات الصادرة عنه. وان المجلس الدستوري في القرارين اعلاه اعتمد نهجاً " ارشادياً وتوجيهياً "، حثّ بموجبه السلطة العامة الى الخروج من الحالة الشاذة المتمثلة في عدم وضع قطع الحساب توخياً لعودة المالية العامة الى الانتظام. ولم تتضمن اي من الفقرتين الحكميتين في القرارين اعلاه، ما يوجب ابطال قانون الموازنة لعدم سبقه بقطع الحساب.

ان وضع الامور في نصابها الصحيح يحملنا على تأييد قرار المجلس الدستوري في ما ذهب اليه. فإصلاح الخطأ لا يكون بخطأ اكبر منه ! كما ان المجلس الدستوري حث بقراريه السابقين على اصلاح الوضع، ولكن ليس تحت طائلة ابطال الموازنات اللاحقة، اذا لم يستجاب طلبه. فالمصلحة الوطنية العليا تبقى احدى اهداف مجلس الحكماء. فقليلاً من الهدوء والتفكير القانوني السليم بعيدا عن " الصراخ القانوني" و " الشعبوية الفارغة " نحن ما زلنا في دولة مؤسسات رغم كل شيء وهدم الهيكل ليس دائماً الحل !

3 ـ المبدأ الثالث: عدم التقيد بالمهل الدستورية لا يشكل سببا لإبطال الموازنة

قرر المجلس الدستوري ان عدم التقيد بالمهل الدستورية لا يشكل سببا لإبطال موازنة العام 2022، لان البديل هو الفوضى العارمة في الانفاق.

وأكّد المجلس الدستوري ان المهل الدستورية مرتبطة بالشرعية الدستورية وبمبدأ الامان التشريعي وليست مجرد اجراءات ذات طابع تنفيذي. ويقتضي التقيد بها في سبيل استقرار المنظومة القانونية. وان المشترع الدستوري حدد هذه المهل لإعداد مشروع الموازنة من قبل مجلس لوزراء ودرسه واقراره في مجلس النواب من اجل الحفاظ على انتظام المالية العامة وتحقيقا للمصلحة الوطنية. وان الهدف من تحديد المهل الدستورية بشأن الموازنة، يهدف الى منع التباطؤ في اعدادها ودرسها واقرارها لما لذلك من أثر خطير على المالية العامة وانتظامها. وان عدم التقيد بالمهل الدستورية وان كان يشكل مخالفة دستورية وعدم انتظام للمالية العامة وتمادياً في الانفاق على قاعدة الاثني عشرية، الا ان الدستور لم يرتّب اي نتائج رادعة على عدم التقيد بها، ما يترتب عليه القول بان عدم التقيد بالمهل الدستورية في اقرار الموازنة لا يشكل سبباً لإبطالها واحلال الفوضى مكانها.

مرة أخرى، اصاب المجلس الدستوري في ما ذهب اليه فإصلاح الخطأ الدستوري لا يكون بإحلال الفوضى ! فضلا على وجوب التقيد بالمبدأ القانوني العام القائل انه " لا بطلان بدون نص " Pas de nullité sans texte ".

4 ـ المبدأ الرابع: وجوب بيان مكامن المخالفة الدستورية ومداها في المواد المطعون بها

أدلت الجهة المستدعية بان مجلس النواب زاد الاعتمادات المقترحة في مشروع الموازنة المحال اليه من الحكومة، ناسباً اليه مخالفة الدستور وتاليا ابطال الموازنة.

ولكن المجلس الدستوري اجاب ان المستدعية لم تحدد مقدار الاعتمادات المقترحة في مشروع الموازنة ولا قيمة الزيادة المدعى حصولها من لجنة المال والموازنة ولا الزيادة التي حصلت اثناء المناقشة في الهيئة العامة، ما يعني ان المستدعية لم تبيّن مكامن المخالفة ومداها وبقيت في إطار عام وغير دقيق. فقد دأب المجلس الدستوري على التأكيد في قراراته السابقة على وجوب التقيد ببيان مكامن المخالفة ومداها لا الاكتفاء بالكلام العام خارج الاطر المحددة وهو مؤيد في منحاه هذا.

5 ـ المبدأ الخامس: عدم رقابة المجلس الدستوري على النصوص التشريعية غير الماسة بالمبادئ الدستورية

أكدّ المجلس الدستوري انه لا رقابة له على كل النصوص التشريعية. وان رقابته مقتصرة على تلك التي تمس المبادئ الدستورية. ان المجلس على حق في ما ذهب اليه، لان السهر على حسن تطبيق القوانين هو من اختصاص محكمة التمييز وليس المجلس الدستوري الذي يقتصر دوره على مراقبة دستورية القوانين دون اي رقابة اخرى.

6 ـ المبدأ السادس: عدم وضوح القانون او عدم فقهه لا يؤديان الى ابطاله الا عند تجاوزه حدا مفرطا مبددا لمعناه

لكي يكون المجلس الدستوري مختصاً في مجال عدم وضوح القانون او عدم فقهه، يجب ان يكون عدم الوضوح ( او عدم الفقه ) حاداً ومفرطاً الى الحد الذي يصبح معه النص بدون معنى. فالمجلس الدستوري ليس مختصا في مراقبة " جودة التشريع " ! فهو ليس " وصياً " على السلطة التشريعية. ولا يمكنه ان يحل ذاته محل المشترع في وضع النصوص القانونية التي يراها مناسبة او يتدخل في جودة صياغة هذه النصوص؛ فهذا يبقى حصراً من اختصاص المشترع دون سواه.

ثم ان الاجتهاد القائل بان عدم الوضوح المفرط الذي يؤدي الى افراغ النص من معناه، يؤدي الى ابطاله من قبل المجلس الدستوري هو اجتهاد دقيق واستثنائي، لا يصح اطلاقاً توسيع مداه والا يفقد الغاية منه، وبدلا من ان يعالج التشويه، يتحول تشويها بذاته.

7 ـ المبدأ السابع: سلطة المجلس الدستوري في وضع يده عفوا على المخالفات الدستورية

لقد استقر اجتهاد المجلس الدستوري على ان مراجعة الطعن بدستورية القانون ليست مراجعة شخصية بل متعلقة بالانتظام العام الدستوري، المرتبط بكل قانون يجري اقراره واصداره. فيكون من اختصاصه حفاظاً على الانتظام العام هذا، ان يضع يده عفواً على كل ما يمكن ان يكون قد شاب القانون من مخالفات دستورية. ويرتب عليها النتائج اللازمة، دون ان يكون مقيدا، لا بمطالب الطاعنين ولا بالأسباب التي استندوا اليها ولا بحرفية مطالبهم.

8 ـ المبدأ الثامن: عدم اختصاص المجلس الدستوري في النظر بملاءمة التشريع بل في دستوريته

المجلس الدستوري ليس سلطة تشريعية، فالسلطة التشريعية محصورة بالمجلس النيابي المنتخب من الشعب. المجلس الدستوري هو سلطة قضائية محصور اختصاصها في مراقبة دستورية القوانين، ليس أكثر.

وينبغي حصر اختصاصه هنا. فهو ليس لا سلطة تشريعية ولا " وصياً " على السلطة التشريعية.

9 ـ المبدأ التاسع: سلطة المجلس الدستوري في تفسير القانون المطعون فيه على النحو الذي يجعله اكثر اتفاقاً مع الدستور

المجلس الدستوري ليس مختصاً بتفسير القانون في معرض مراجعة مستقلة يكون موضوعها: تفسير أحد النصوص القانونية. ولكن يعود للمجلس الدستوري ـ كأي سلطة قضائية ـ ان يفسّر القانون المطعون فيه امامه، على النحو الذي يجعله أكثر اتفاقاً مع احكام الدستور. فرد الطعن لعدم مخالفة الدستور او القواعد ذات القيمة الدستورية، لا يعني انه يمتنع على المجلس الدستوري، لا يعني انه يمتنع على المجلس الدستوري ان يخص القانون المطعون فيه بتحفظات تفسيرية، يتعيّن لاحقا التقيد بها في مراحل تطبيقه وتنفيذه. وهذا من المسلم به في اجتهاد القضاء الدستوري.

10 ـ المبدأ العاشر: عدم جواز تضمين قانون الموازنة نصوصا تعديله لقوانين اخرى كونها تعتبر من فرسان الموازنة Cavalier budgétaire

جاء في قرار المجلس الدستوري ان المادة 119 من القانون المطعون فيه قد نصّت عن تعديل المواد 46 و 101 و60 من قانون الشراء العام. وهذه المواد تتعلق حصراً بقانون الشراء العام وبأمور تنظيمية وادارية، لا علاقة لها بقانون الموازنة. وان النصوص التي تعدّل قانوناً سبق اقراره، ينبغي ان تنضوي في صلب القانون المعدل، كي يسهل الاطلاع عليها. ولا يجوز " أن تدس " في قانون الموازنة العامة، المختلف بطبيعته عن القوانين العادية، فلا يجوز بالتالي تعديل هذه القوانين من ضمنه، لان في ذلك خروجاً على اصول التشريع. وانتهى المجلس الى ابطال المادة 119 من القانون المطعون فيه، لمخالفتها نص المادة 83 من الدستور، كونها تعتبر من فرسان الموازنة Cavalier budgétaire ولا تراعي مبدأ سنويتها.

11 ـ المبدأ الحادي عشر: عدم جواز ادراج القوانين التي لا تمت الى الموازنة بصلة في متن قانون الموازنة العام كونها من فرسان الموازنة

قرر المجلس الدستوري ان تمديد العمل بموجب المادة 16 من القانون المطعون فيه، بأحكام البنود " أ " و " ج" و "د" من الفقرة الاولى من المادة الثالثة من القانون رقم 194/2020 الصادر في 16/10/2020، والذي يرمي الى حماية المناطق المتضررة بنتيجة انفجار مرفأ بيروت ودعم اعادة اعمارها، لا تمت الى الموازنة بصلة، اذ ان الفقرات المذكورة تمنع التصرف بالعقارات وتوجب وضع اشارات منع تصرف على صحائفها، فلا يجوز ان تنضوي في متن قانون الموازنة العام، فيقتضي ابطالها كونها من فرسان الموازنة.

مع تأييدنا لما ذهب اليه المجلس الدستوري من الوجهة الدستورية البحتة. نطلب من المجلس النيابي ان يعمد فوراً الى إقرار قانون جديد مستقل يمدد مهلة منع التصرف بالعقارات الواقعة في نطاق منطقة تفجير المرفأ، حفاظاً على طابع المنطقة التي طالها التفجير.

اننا نكرر تأييدنا التام لهذه المبادئ التي كرسها المجلس الدستوري في قراره. ولكننا لم نؤيده في حلول اخرى توصل اليها في قراره المذكور.

ثانيا: الحلول غير المؤيدة في قرار المجلس الدستوري

1 – التسوية على التكاليف غير المسددة المتعلقة بضريبة الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة عن اعمال العام 2020 وما قبل، المعترض عليها امام لجان الاعتراضات والتي لم يتم البت بها لغاية 13/3/2022

جاء في قرار المجلس الدستوري ان المادة 21 من القانون المطعون فيه تنص على اجراء تسوية على التكاليف غير المسددة المتعلقة بضريبة الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة عن اعمال العام 2020 وما قبل، المعترض عليها امام لجان الاعتراضات والتي لم يتم البت بها لغاية 31/3/2022، بحيث تحدد قيمة التسوية بخمسين بالمئة من قيمة الضرائب المعترض عليها فقط دون غرامات التحقق والتحصيل التي كانت متوجبة او إذا كان قد تمّ تقسيط هذه الضريبة، فيحسم الجزء المسدد منها سابقاً.

وتابع المجلس الدستوري ان التسوية الضريبية المنصوص عنها في المادة 21 المذكورة اعلاه، أعفت مكلفين تخلفوا عن القيام بواجبهم بتسديد الضرائب المفروضة عليهم بموجب القانون من جزء من هذه الضرائب، بينما سدد المكلفون الذين هم في موقع قانوني مماثل لهم الضرائب المتوجبة عليهم بكاملها التزاما منهم بتنفيذ القانون.

وانه ينبغي التقيد بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين بدون تمييز او تفضيل وفق ما جاء في الفقرة (ج) من مقدمة الدستور، ووفق ما نصّت عنه المادة السابعة من الدستور التي جاء فيها أن " كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم ".

وان نص المادة 21 من القانون المطعون فيه لم يميّز بين اللبنانيين وحسب، انما ميّز بينهم لصالح متخلفين عن القيام بواجبهم بتسديد الضرائب المتوجبة عليهم بموجب القانون، واعفاهم من جزء منها، بينما التزم مواطنون، وفي موقع قانوني مماثل لهم، بتسديد ما عليهم ضمن المهل المحددة. وان التسوية الضريبية المنصوص عنها في القانون المطعون فيه تتعارض مع مفهوم العدالة الاجتماعية لأنها لم تساو بين المواطنين في استيفاء الضرائب والرسوم، وانتهكت تاليا مبدأ العدالة الاجتماعية. وان التسوية الضريبية، كما وردت في المادة 21 من القانون المطعون فيه من شأنها تشجيع المواطنين على التخلف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم وحمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي، على التهرب من تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، املا بصدور قوانين اعفاء ضريبي لاحقا.

ان قانون التسوية الضريبية، فضلاً عن انه يتعارض مع مبدأ المساواة بين المواطنين ومبدأ العدالة الضريبية، فانه يؤدي الى التفريط بالمال العام، وبالتالي زيادة العجز في الموازنة العامة، في وقت تزاد فيه الضرائب والرسوم على سائر المواطنين من اجل تغذية الموازنة وتخفيض العجز المتنامي فيها.

ويضيف المجلس الدستوري انه فضلاً عما تقدم، ان ما تضمنته المادة 21 من قانون الموازنة العامة لا علاقة له بالموازنة، لا لجهة تقدير النفقات والواردات، ولا لجهة تنفيذ الموازنة، ولا لجهة مبدأ سنوية الموازنة، وتعتبر بالتالي من فرسان الموازنة.

وان لجان الاعتراضات على الضرائب هي لجان ذات صفة قضائية وفق ما يستفاد من احكام المادة 100 وما يليها من قانون الاجراءات الضريبية رقم 44 تاريخ 11/11/2008 وتعديلاته. وان المجلس الدستوري اخضع اللجان ذات الصفة القضائية بتشكيلها واعمالها وقراراتها للضمانات المنصوص عنها في المادة 20 من الدستور فارضا استقلاليتها، عملاً بمبدأ الفصل بين السلطات المكرس دستوراً، وفق ما قضى به في القرارين رقم 6/2014، تاريخ 6/8/2014 ورقم 3/2017 تاريخ 30/3/2017. وان المجلس الدستوري قضى في قراره رقم 2/2012 تاريخ 17/12/2012، بأنه لا يجوز للسلطة الاشتراعية ان تستبق قرار القضاء بشأن نزاع معروض عليه، ووضع قانون يتناول هذا النزاع، والا كان مخالفاً لمبدأ استقلالية السلطة القضائية ولمبدأ الفصل بين السلطتين الاشتراعية والقضائية. وان المادة 21 من القانون المطعون فيه، استبقت قرارات هذه اللجان وفرضت تسوية على نزاعات عالقة امامها، قبل البت بها، مخالفة مبدأي استقلالية القضاء وفصل السلطات المرعيين بأحكام المادة 20 من الدستور والفقرة 5 من مقدمته.

للبحث في هذه النقطة من القرار، يجب اولا العودة الى نص المادة 21 التي حددت بوضوح موضوع التسوية بانه يقتصر " على اجراء التسوية على التكاليف غير المسددة المتعلقة بضريبة الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة عن اعمال العام 2020 وما قبل، المعترض عليها امام لجان الاعتراضات والتي لم يتم البت بها لغاية 31/3/2022 ...".

ويفهم بوضوح من النص المذكور، انه للاستفادة من التسوية يجب ان تكون التكاليف غير المسددة، موضوع اعتراض امام لجنة الاعتراضات.

وهنا بيت القصيد، فالتكليف المعترض عليه امام اللجنة المذكورة هو تكليف منازع به. وليس ناشئاً عن تهرب عن دفع الضريبة، بل عن منازعة في توجبها او في مقدار قيمتها امام لجنة الاعتراضات، حيث ان النتيجة التي سيؤول اليها الاعتراض غير محسومة لا لصالح الدولة ولا لصالح المكلف، لان الضريبة هي موضوع نزاع. وبالتالي تسقط حجة التهرب الضريبي او حتى التلكؤ عن دفع الضريبة، طالما ان المكلف ينازع في أحقية توجبها او مدى توجبها ولا يتهرب من دفعها. فلا نكون امام اي خرق لمبدأ المساواة امام التكاليف العامة. ولا نكون امام اي هدر في الاموال العامة، بل نكون امام منازعة امام لجنة لها صفة قضائية لم تصدر قرارها بعد في النزاع المعروض امامها.

هذا من جهة،

اما لجهة عدم جواز استباق السلطة الاشتراعية لأي قرار قضائي بشأن النزاع المعروض امام اللجان ذات الصفة القضائية، فحجّة ساقطة ايضاً، لان الدولة اللبنانية هي طرف في النزاع العالق امام اللجان، والتسوية المنازع بها ليست ملزمة للمكلف. فمن جهة الدولة يجب توصيف التسوية بانها عرض صلحي في نزاع عالق وليس تنازلاً عن اموالها العامة، طالما ان النزاع ما زال عالقاً، اذ قد تخسر الدولة النزاع ويحكم بعدم توجب الضريبة المنازع بها او بإنقاص قيمتها الى ما دون التسوية. وبالتالي لسنا بصدد تصالح على الاموال العامة، بل بصدد تصالح على نزاع قد يحسم لمصلحة الدولة او ضدها.

هذا من ناحية الدولة، اما من ناحية المكلف فالتسوية ليست ملزمة له، وله بالتالي ملء الحرية في ان يطلب الاستفادة منها ويتراجع عن اعتراضه، او ان يرفض السير بالتسوية ويصر على متابعة اعتراضه الى حين الفصل به بقرار نهائي قابل للطعن لاحقا امام مجلس شورى الدولة.

ان مقاربة المجلس الدستوري للمادة 21 لم تكن في محلها القانوني الصحيح من هذه الجهة ايضا.

اما مبدأ الفصل بين السلطات، فلا محل له هنا ايضاً، لان السلطة الاشتراعية أقرت تسوية بناء لطلب الحكومة. وبالتالي من حق الدولة كطرف في الدعوى ان يقترح حلاً صلحياً لا يشكل اطلاقاً تصالحاً على اموال الدولة، بل تصالحاً على نزاع يطال اموال الدولة، وقد لا تكون نتيجته في مصلحة الدولة، بحيث ان التسوية هنا تكون في مصلحة المالية العامة وليس ضدها. امّا المكلف ( المعترض ) فكما ذكرنا تبقى له الحرية التامة في عدم الدخول في التسوية ومتابعة الاعتراض حتى خواتيمه، فلا نكون ابدا في صدد خرق لمبدأ فصل السلطات.

ولجهة وصف المجلس الدستوري المادة 21 بانها من " فرسان الموازنة " فإننا لا نوافقه الرأي اطلاقاً، لان التسوية الحاصلة بمقتضى المادة 21 لها آثار واضحة على المالية العامة، خصوصاً وأنها قد تؤدي الى زيادة في ايرادات الدولة، لا سيما وان القاصي والداني يعلم بان اللجان لا تعمل منذ فترة طويلة، إما لنقص في تشكيل اعضائها، وإما لأسباب اخرى لا سبيل لذكرها على صفحات هذا البحث. وبالتالي ليست المادة 21 من بين فرسان الموازنة. لكل هذه الحجج القانونية والواقعية، فضلا عن ان التسويات، تريح بعض المكلفين من اعباء لأمد زمني لحلها. لذلك، نرى ان ابطال المادة 21 لم يكن في محله الصحيح لا واقعاً ولا قانوناً.

ألا يكفي المواطن اللبناني " عذاباً " حتى نحرمه من " تسويات " قد تكون في مصلحته ؟

ألا ترون معي ان الطعن لمجرد الطعن، ليس الهدف المطلوب، بل ان الطعن يجب ان يحصل لتخفيف آلام المواطن وليس لتفاقمها ؟ ثم ان الخطير في المسألة، ان نهدم للمستقبل فكرة التسويات في المبدأ - تلك التسويات التي استفاد منها معظم المواطنين - في سبيل مبادئ واهداف ليست حقيقية.

2 ـ الغاء عبارة " يصدر " من المادة 109 من القانون المطعون فيه

قرر المجلس الدستوري الغاء عبارة " يصدر " من المادة 109 من القانون المطعون فيه التي نصّت انه " على جميع الادارات العامة والمؤسسات العامة والمشاريع المشتركة وسائر اشخاص القانون العام تزويد وزارة المالية بالمعلومات التي تملكها عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية باستثناء الموجودات العقارية الخاصة بالقوى العسكرية والامنية ضمن مهلة ستة اشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون بالإضافة الى وجهة استعمال هذه الممتلكات وتشغيلها في حال وجدوا وغير ذلك من المعلومات التي يجب ان تحدد بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية ".

قرر المجلس الدستوري بصدد هذه المادة، ان المادة 56 من الدستور أناطت صلاحية اصدار القوانين والمراسيم برئيس الجمهورية حصراً دون غيره من السلطات الدستورية، فلا يجوز بالتالي ان يصدر مرسوم اتخذ في مجلس الوزراء عن المجلس ذاته، ما يوجب حذف عبارة "يصدر" من المادة 109 من القانون المطعون فيه.

من جهتنا، نرى ان المجلس الدستوري حمّل عبارة " يصدر " معنى لم يبتغيه المشترع. فالعبارة يفهم منها، حسبما وردت في سياق النص، بمرسوم " يتخذ " في مجلس الوزراء. ولا نرى ان المشترع قصد من خلال استعماله عبارة " يصدر " مؤسسة قانونية قائمة بذاتها هي " إصدار القوانين " Promulgation، حيث تعود الصلاحية حصراً هنا لرئيس الجمهورية، وفقاً للمادة 56 من الدستور التي اناطت صلاحية اصدار القوانين والمراسيم برئيس الجمهورية حصراً، دون غيره من السلطات الدستورية.

يبقى في النهاية ان نشير الى ان المجلس الدستوري يبقى حامياً للدستور في كثير من الاحيان. ولكن أخشى ما أخشاه، ان تذهب بعض الطعون بالمجلس الى نتائج ليست دائماً في مصلحة المواطنين، خصوصاً الفقراء منهم. لذلك، نرى انه على الطاعنين والمجلس الدستوري في آن واحد، اخذ الامور ليس فقط بواقعها القانوني الصرف، بل ايضاً بواقعها الاجتماعي والانساني، علّنا نخفف في ذلك من آلام المواطن وما اكثرها في هذه الايام.